ألان تورينج- Alan Turing (1912-1954)  عالم رياضيات لامع ورائد في علوم الحوسبة.  كان جزءًا من مجموعة عالية السرية من مفككي الشيفرات أثناء الحرب العالمية الثانية والذين ساهموا في اختراق شيفرة آلة إنجما Enigma الألمانية الأمر الذي أصبح حاسمًا في انتصار الحلفاء – وخاصة الحرب البحرية في المحيط الأطلسي. بسبب الطبيعة عالية السرية لعمله، لم يحصل تورينج على الكثير من الاحتفاء الجماهيري، (على الرغم من حصوله  على – وسام رتبة فائق الامتياز ضمن الإمبراطورية البريطانية – OBE عام 1948). في عام 1952، ألقي القبض عليه بتهمة الشذوذ الجنسي، وتوفي بعد ذلك بعام بسبب تسمم السيانيد. بعد وفاته تم منح تورينج اعتذارًا رسميًا في عام 2009 وعفوًا في عام 2013.

حياته:

ولد تورنج في لندن في 23 يونيو 1912. عمل والده بالخدمة المدنية الهندية، أمضيا هو وشقيقه جون بعض الوقت في هيستينغز، حيث تم تربيتهم من قبل زوجين متقاعدين من الجيش.

كان تورنج طالبًا استثنائيًا، أظهر موهبةً فائقة في الرياضيات والعلوم. كان يشعر بالملل من الموضوعات الكلاسيكية مثل اللاتينية واليونانية وغالبًا ما قام بدراسات خاصة مثل حل المسائل الرياضية. درس بداية من سن الثالثة عشر في مدرسة شيربورن Sherborne  العامة في دورست. تزامن يومه الدراسي الأول مع إضراب عام 1926، حرص تورينج على الحضور فقام بالدوران لمسافة 60 ميلًا إلى المدرسة بمفرده. كان تورينج أيضًا عداء مسافات طويلة على مستوى جيد واستمر في ممارسة الرياضة طوال حياته.

كان من الصعب عليه أن يتأقلم في المدرسة بسبب عبقريته الرياضية وطرقه غير التقليدية، شيئٌ واحد اقتحم وحدته، أقام صداقة وثيقة مع صبي يدعى كريستوفر موركوم Christopher Morcom. تشاركا معًا الاهتمام بالرياضيات وعلم الفلك والعلوم. أصاب موت موركوم -في عام 1930 بمرض السل الرئوي- تورنج بصدمة شديدة لأنه كان صديقه الوحيد المقرب. خلال سنوات مراهقته قرأ تورنج النظرية النسبية لألبرت أينشتاين، وتعكس مذكراته وملاحظاته عنها فهماً عميقاً.

درس تورينج بعدها الرياضيات في كينجز كوليدج King’s College، كامبردج (1931-1934). إذ حصل على المركز الأول مع مرتبة الشرف، وخلال عام من تخرجه، كتب تورنج أطروحة حول (مبرهنة النهاية المركزية- Central Limit Theorem) – وهي إحدى مكونات نظرية الاحتمالات. وقد أدى هذا إلى اختياره في سن صغيرة ليكون زميلاً في كينجز جوليدج وهو أمرٌ غير معتاد.

كان المجال ضيقًا في المدرسة العامة، بينما أصبحت كامبردج تجربة تحررية بالنسبة لأفكار تورنج. انضم إلى الحركة المناهضة للحرب عام 1933 لكنه رفض الماركسية والحركة السلامية – حركة مناهضة للحرب استنادًا لتعاليم المسيح والمسيحية-. كان قريبًا من مثقفي كامبريدج أصحاب التوجه الليبرالي مثل جون ماين كينز John M Keynes وآرثر سيسل بيجو A.C. Pigou.

مارس في الجامعة رياضتي التجديف والركض. كان تورينج عداءً متحمّسًا وكثيرًا ما كان يُرى على طول النهر يمارس رياضة العدو. عرف عنه أنه كان يقطع  الطريق إلى لندن عدوًا  ليلحق باجتماع.

في عام 1936 نشر ورقته المتفردة الجديدة والتي أحدثت تغييرًا كبيرًا «عن الأرقام القابلة للحساب مع تطبيق على مسألة القرار» (مشكلة القرار) وشملت فكرة وجود )آلة عامة-Universal machine) وهي عبارة عن آلة  قادرة على حل أي مشكلة رياضية باستخدام الخوارزمية الصحيحة. وهذا هو المفهوم الرئيسي للحواسب الحديثة.

في الفترة بين عامي 1936 إلى عام 1938، قضى وقتًا في الولايات المتحدة في برينستون يدرس الرياضيات وعلم التشفير، بحصوله على درجة الدكتوراه كان لدى تورنج الفرصة للبقاء في الولايات المتحدة مع جون فون نيومان John Von Neumann لكنه فضل العودة إلى كامبردج. بالعودة إلى كامبردج، حضر محاضرات فلسفية للودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein، دار نقاشٌ بينهما حول الأهمية الفلسفية للرياضيات.

بدأ تورينج في سبتمبر 1938 العمل بدوام جزئي مع مؤسسة فك التشفير البريطانية (المدرسة الحكومية للترميز والتشفير) (GC&CS). في يوليو 1939 أصبح تورنج ضمن فريق مهمته  البحث عن أفضل وسيلة لفك شيفرة رسائل Enigma. طور تورينج آلة (إسمها القنبلة) باستخدام فك التشفير القائم على تحليل الشيفرة crib-based decryption والذي فكر فيه باستخدام نظام المداورة وتحليل رسائل جهاز Enigma. عندما تفشل الآلة في التعرف على رسالة معينة، يتم نقلها إلكترونيًا إلى المجموعة التالية. طور تورينج عددًا من الأدلة، ما مكنه من تخطي مجموعات معينة، ما جعل الأمر أسرع كثيرًا. ذكر تورينج أنه استخدم مزيجًا من الحدس والاستدلال.

اعتقد الألمان أن شيفرة Enigma غير قابلة للكسر بسبب العدد الهائل من الاحتمالات الممكنة (10 مرفوعة إلى الأس 19). لكن بحلول عام 1940 كانت الآلة الكهروميكانيكية قادرة على اعتراض وفك شفرة رسائلها. كما استخدم التحليل الإحصائي لتحسين الاحتمالات المختلفة في عملية كسر الشفرة. اعتبر عمل تورينج مهمًا جدًا للأمن القومي لدرجة أنه صُنف (سري للغاية) لمدة 70 عامًا.

حققت الآلة نجاحًا كبيرًا وأعطت الحلفاء تحذيرًا بشأن العمليات العسكرية الألمانية. لكن فريق تورنج شعر بالإحباط لأن الموارد كانت غير كافية. في أكتوبر 1941، كتبوا إلى ونستون تشرشل طالبين المزيد من الموارد. تصرف تشرشل على الفور بناءً على طلبهم، وأصبحوا ممولين بشكل أفضل. بنهاية الحرب كانت هناك 200 من آلات تورنج في الخدمة.

لم يكن تورينج يهتم كثيرًا بالجوانب العملية لإدارة القسم؛ فضل العمل بمفرده، إذ اختار أصعب أجزاء فك الشفرات – غالباً ما كانت الأمور التي اعتقدها الآخرون مستحيلة.

أرادت أجهزة الأمن البريطانية بعد انتهاء الحرب الحفاظ على سرية الطريقة التي كانت تفكك من خلالها الشفرات للآلات الحصينة للأعداء.

عُرِفَ تورينج بغرابته وشذوذه. كان يرتدي ملابسه رثة بدون أربطة عنق، الأمر الذي أعطي انطباعًا أنه كان يستنفد وقته وطاقته بشكل دائم في حل الألغاز الرياضية وكسر الشيفرات. قد يكون أخرقًا في التعامل مع العلاقات الشخصية وفظًا خاصة تجاه أولئك الذين يعتبرهم الدجالين أو الباحثين عن المكانة. بين زملائه، كان يعرف باسم «البروفيسور»، وشملت غرابته ارتداء قناع غاز أثناء ركوب دراجته لتجنب حساسية الأنف.

في عام 1942، سافر تورنج إلى الولايات المتحدة  ليشارك في محاولات رائدة للتشفير الإلكتروني للكلام في الهواتف. عاد إلى المملكة البريطانية وساعد تورنج في تطوير جهاز اتصال صوتي آمن يدعى دليلة Delilah. نجحوا في تشفير خطاب تشرشل، لكن الوقت كان متأخرًا لاستخدامه في الحرب.

بعد الحرب، بدأ العمل على جيل جديد من أجهزة الكمبيوتر، باستخدام (المحرك الآلي للحوسبة-Automatic computing engine) (ACE) وتصميم أول برنامج كمبيوتر مخزّن. لم يتم إنشاء النسخة الكاملة من المحرك الآلي للحوسبة إلا بعد وفاة تورنج، ولكنها كانت خطوة مهمة بالنسبة للكمبيوتر الحديث، واعتمدت أجهزة الكمبيوتر الرائدة في وقت لاحق على الأفكار الجديدة للمحرك الآلي للحوسبة.

في عام 1948، كان لديه تجربة أداء مع فريق الماراثون الأوليمبي البريطاني. على الرغم من الإصابة، تمكن من انهاء السباق في ساعتين و 44 دقيقة وخسر بالكاد.

في عام 1948، انتقل تورنج إلى مانشستر، حيث أصبح نائب مدير مختبر الحوسبة في جامعة مانشستر. قام بتطوير برنامج كمبيوتر مبكر«مانشستر مارك الأول». كما أصبح مهتمًا بالمفهوم الفلسفي والعملي للذكاء الاصطناعي. يعتبر تورينج الأب الروحي للذكاء الاصطناعي إذ كان أول من وضع اختبارًا لمعرفة إن كان الكمبيوتر ذكيًا أم لا. في كتابه المهم (آلات الحوسبة والذكاء-Computing Machinery and Intelligence)  ابتكر «لعبة التزييف» المعروفة الآن باسم اختبار تورينج. ذكر الاختبار أن الكمبيوتر يمكن اعتباره «يفكر» إذا لم نتمكن من التمييز بين رد جهاز الكمبيوتر والإنسان.

طور تورينج أيضًا إحدى ألعاب الشطرنج الأولى في الكمبيوتر.

في عام 1951، حَوّلَ اهتمامه إلى علم الأحياء الرياضي – مفتونًا بالأسباب التي تجعل النباتات تتبع متسلسلة فيبوناتشي الرقمية (كل رقم بعد الأولين هو مجموع الاثنين السابقين 1,1,2,3,5,8,13)

في عام 1952، تم اختياره زميلًا بالجمعية الملكية.

خلال الحرب  واعد تورينج جوان كلارك Joan Clark، وهي زميلته وعالمة رياضيات في فريق (الكوخ 8- Hut 8) والذي كان معنيًا بفك الشيفرات المعادية. قبلت كلارك، لكن العلاقة كانت قصيرة وأنهاها تورينج. شعر تورينج أنه لم يكن مخلصًا واعترف بأنه كان مثليًا. (كان ذلك أمرًا غير قانونيٍّ في ذلك الوقت بالمملكة المتحدة).

عام 1952 دخل تورينج في علاقة غرامية مع رجل عاطل عن العمل في مانشستر. في 23 يناير، تعرض منزله للسطو وتدخلت الشرطة للتحقيق في الحادثة. لم يكن سجل تورينج الحربي متاحًا للشرطة لأنه كان سريًا ومحميًا. في سياق تحقيقهم، اعترف موراي أنه شارك تورينج علاقة مثلية. كان موراي أيضا مسؤولًا عن حادثة السطو. اعترف تورينج بالذنب وقبل بعقوبة الإخصاء الكيميائي (بدلاً من السجن). كان الدواء شكلًا من أشكال الأستروجين الاصطناعي.

خسر تورينج مسماه الوظيفي، رغم احتفاظه بمهام عمله.

في 8 يونيو 1954، وجد ميتًا في غرفته المستأجرة. رجحت التحقيقات انتحاره بتسمم السيانيد. ربما لم يكن انتحارًا  بل عرضًا جراء بلع مادة ما بعد تجربة الطلاء الكهربائي للملاعق بالذهب.

في عام 2013، تم إصدار مذكرة قانونية تمنح عفواً قانونياً لتورنج عن جرائمه بموجب المادة 11 من القانون الجنائي المعدل لعام 1885. وفي عام 2016، تم توسيع القانون (المعروف باسم قانون تورينج) للعفو عن جميع الرجال الذين أدينوا  بتهمة الشذوذ الجنسي بموجب التشريع التاريخي بأثر رجعي.

أشهر أقوال آلان تورينج

  • الفكرة وراء أجهزة الكمبيوتر الرقمية تكمن في أن هذه الأجهزة يمكنها تنفيذ أي عمليات حسابية يقوم بها البشر.
  • يمكن القول بأن الكمبيوتر ذكيٌّ إذا كان بإمكانه خداع الإنسان ليصدق أنه إنسانٌ.
  • قد يُنظر إلى الاستدلال الرياضي على أنه مزيج بين موهبتين، الحدس والإبداع.
  • قد يكون نظرنا قاصرًا، لكننا نعلم أن علينا الكثيرمن العمل لنقدمه.
  • كان لدي أمل بأن أكون متميزًا، بصراحة لم أتقبل هذا الأمر سواء في يقظتي والحلم.
  • مهنتي مجهدة، الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها إراحة عقلي هي الجري بقوة.
  • أنا لست مهتمًا بتطوير دماغ قوي. كل ما أهتم به هو مجرد دماغ متواضع ، مثل رئيس شركة الهاتف والبرق الأمريكية.
  • نحن لسنا مهتمين بحقيقة أن الدماغ متسق كالعصيدة الباردة.
  • أعتقد أنه بنهاية القرن سيغير الرأي العام المثقف رأيه عن التحدث مع الآلات الذكية دون أن يُتَهم بالخبل أو الجنون.
  • كثيرًا ما تستحوذ عليَّ الآلات كليًا.
  • إذا كان العلم هو المعادلات التفاضلية فإن الدين هو القيم الحدودية.
  • أرغب دائما في علاقة مستمرة، وأرفض العلاقات التي أشعر بأنها لن تستمر.

  • إعداد: مصطفى العدوي
  • تدقيق: م. قيس شعبية
  • تحرير: زيد أبو الرب

مصدر1 / مصدر2