في خبراتنا بالزمان يظل الماضي ماضيًا، والمستقبل مستقبلًا، ولكن قد يتداخلا أحيانًا!، لقد اعتاد العلم على إلقاء الأسئلة التي هي من وجهة نظر حدسنا التقليدي سخيفة، ولكن بمرور الوقت سنكتشف أن الحدس لا يقدم دليلًا جيدا عن الكيفية التي يتحرك بها العالم، فلو سألت: لماذا الزمن يتحرك باستمرارٍ إلى الأمام، و ليس إلى الخلف؟

ستكون الإجابة، إن هذا الأمر سخيفٌ، وقتها فقط عليك بالصبر.

يمكن أن نجزم أن المستقبل لا يؤثر على الماضي بالتأكيد؛ لأنه لم يحدث بعد، ولكن هذا ليس حقيقيًا، فالسؤال من أين يأتي سهم الزمن، وإلى أين يذهب، يبدو أكثر مكرًا، وأكثر تعقيدًا مما يبدو.

 

والأكثر من ذلك، أن الجملة نفسها ربما ليست صحيحةً، فبعض العلماء والفلاسفة يعتقدون أن المستقبل بالفعل يؤثر على الماضي، رغم أننا فقط يمكننا أن نجد اللحظة التي يصل فيها المستقبل، ولقد صار هذا ممكنًا بفضل خاصيةٍ جديدةٍ في ميكانيكا الكم، ولكن النوايا والأغراض تبدي أن للزمن اتجاهًا.

تصر خبراتنا اليومية أن الأشياء تتحرك دومًا في اتجاهٍ واحدٍ، ففناجين القهوة مثلًا عندما تبرد، لا تصبح ساخنةً مرةً أخرى حينما تترك على سجيتها، ولو أنها سقطت على الأرض تكسر الفناجين، ثم تتبعثر القهوة في كل مكان، ومن ثم فإن القهوة المنسكبة، والفناجين المنكسرة لا تعود لحالتها الأولى أبدا.

وهكذا، هذا النسق من الزمن الذي يبدو كطريق ٍباتجاهٍ واحدٍ في كل القوانين الأساسية في الفيزياء، مثلًا: تلك القوانين التي تصف كيف تصطدم الذرات ببعضها بعضًا.

ولا تختلف قوانين الحركة هذه عن اتجاه الزمن، فإذا شاهدت شريط فيديو لكرات البلياردو التي تصطدم وترتد بعيدًا، ستكون غير قادرٍ على تمييز ما إذا كانت تشتغل إلى الأمام أو إلى الخلف.

ونفس التماثل الزمني موجودٌ في معادلات ميكانيكا الكم، التي تحكم سلوك الأشياء الصغيرة، مثل: الذرات، وستسأل أين يأتي سهم الوقت في صورة التصادمات الذرية؟

هناك إجابةٌ طويلةٌ لهذا السؤال، وهي تقول إن السهم الزمني يظهر فقط بمجرد البدء في التفكير بالكثير والكثير من الجسيمات، وعملية اصطدام ذرتين تبدو وكأنها قابلةٌ للانعكاس، لكن عندما يكون هناك الكثير من الذرات، فإن تفاعلاتها تؤدي حتمًا إلى زيادة العشوائية، وذلك ببساطة لأنه الشيء الأكثر احتمالا.

افترض أن لديك غاز من جزيئات النيتروجين في نصف صندوق، وجزيئات الأكسجين في النصف الآخر، وبينهما فاصل، إذا رفعت الفاصل بينهما، فستخلط الحركات العشوائية بسرعة جزيئات الغازات تمامًا.

ولا يوجد شيء في قوانين الفيزياء ليمنع العكس، فمزيجٌ من الغازات ينفصل تلقائيًا إلى الأكسجين في نصف الصندوق، والنيتروجين في النصف الآخر،عن طريق الصدفة.

ولكن هذا لا يحدث في التجربة العملية؛ لأن فرصة كل تلك المليارات من الجزيئات كي تتحرك على هذا النحو ضئيلةٌ للغاية، ويجب عليك الانتظار لفترةٍ أطول من عمر الكون؛ كي يحدث الفصل التلقائي.

إن هذا النمو اللانهائي من العشوائية موجودٌ في القانون الثاني للديناميكا الحرارية، ويقاس مقدار العشوائية بقيمةٍ تدعى: (الإنتروبيا)، وينص القانون الثاني على أنه في أي عملية، تزيد الإنتروبيا الكلية للكون دائمًا.

وبطبيعة الحال، يمكننا أن نخفض الإنتروبيا لمجموعةٍ من الجزيئات، مثلا: عن طريق فرز كل واحدةٍ عن الأخرى، ولكن القيام بذلك العمل سينتج الحرارة، مما يخلق المزيد من الفوضى – المزيد من الإنتروبيا – في مكانٍ آخر.

ومع ذلك، فإن سهم الزمن في الإنتروبيا سيصبح أقل تحديدًا في النطاق الأصغر، مثل: فرض (عدم- مزج) ثلاثة جزيئاتٍ من الأكسجين، وجزيئين من النيتروجين، وهذا إجمالًا جيدٌ جدا.

وقد تجلى ذلك في دراسةٍ أجريت عام 2015م، ووجد الباحثون الذين يدرسون جزيئاتٍ مفردةٍ دليلًا على أن نمو الإنتروبيا هو مقياسٌ جيدٌ لمدى قدرة النظام على الانعكاس في الوقت المناسب.

 

وهذه الحجة حول الإنتروبيا، التي تم وضعها في أواخر القرن التاسع عشر من قبل العالم النمساوي لودفيغ بولتزمان، غالبًا ما ينظر إليها على أنها إجابةٌ كاملةٌ ومرضيةٌ لأحجية سهم الزمن.

ولكن اتضح أن الكون يحمل أسرارًا أعمق، فعند بدء النظر في الأشياء الصغيرة جدًا، تصبح قصة بولتزمان مشوشةً على نحوٍ متزايد، لأن رؤيته، يستغرق سهم الزمن فيها بعضًا من الوقت للعثور على اتجاهه، وفي الأجزاء الصغيرة من الثانية بعد إزالة الفاصل بين الغازين، وقبل أن تتحرك أي من الجزيئات إلى أي مكان، ولا يوجد أي إشارة لإظهار أن الزمن يتحرك إلى الأمام.

إن الإنتروبيا تزيد عندما تصطدم الذرات بين طاقاتها، مثلًا: عندما تنتشر حرارة القهوة الساخنة في الهواء المحيط، تسمى هذه العملية التي تغسل بعيدًا خزانات الطاقة داخل الفنجان، بـ: (تبديد)، وحتى يبدأ حدوث عملية التبديد، تبدو إلى حدٍ كبيرٍ كما لو كان الزمن يتحرك إلى الأمام أو إلى الوراء، وهذه العملية لا تملك سهم الديناميكا الحرارية، ولكن هناك عمليةٌ في اتجاهٍ واحدٍ في ميكانيكا الكم، تحدث أسرع بكثيرٍ، تسمى: (فك الارتباط).

وعلى نطاق الكم، تتصرف الجسيمات كما لو أنها موجات، وهذا له عواقبٌ غرائبية، مثلًا: إذا أطلقت إلكتروناتٍ مفردةً أو ذراتٍ كاملةً من خلال شقين متباعدين بشكلٍ وثيقٍ في لوحةٍ، فإنها سوف تتداخل مع بعضها البعض كما لو أنها موجات، وهذا لا يحدث مع الأجسام العادية الحجم، فإذا رميت كوبين من القهوة خلال نافذتين مفتوحتين، ستجد أنهما لا يتداخلان مع بعضهما البعض.

يفسر فك الترابط سبب لماذا لا تُظهر الأجسام الموجودة بالمقياس اليومي كأكواب القهوة، السلوكَ الذي يشبه الموجة للأشياء الكمية، وينشأ ذلك؛ لأن الجسيمات الكمّية يمكن تنسيقها على الشاكلة الكمية، ولكن إذا كان هناك الكثير منها، مثل: عددٍ لا يحصى من الذرات في فنجان قهوة، فإنها ستفقد بسرعةٍ أي تنسيقٍ مما يعني أن المادة التي يشكلونها لا يمكن أن تظهر السلوك الكمي.

يحدث الانسداد بسبب التفاعل بين الكائنات وبيئتها، كتأثير جزيئات الهواء على الكأس، وتبين نظرية الكم أن هذه التفاعلات تتسبب بسرعةٍ في كائنٍ كبيرٍ بالتسرب في بيئته، وهذا يعني أن الجسم يأخذ خصائص فريدةٍ من نوعها.

إن نظرية الكم تخبرنا أن الجسيمات يمكن أن تظهر واحدةً من عديدٍ من الخصائص المحتملة عندما يتم قياسها، ولكن في عالمنا اليومي الاعتيادي الأجسام لديها فقط مكانٌ واحد محددٌ جيدًا وكذلك السرعة، ويعتقد أن فك الارتباط هو كيفية تنفيذ هذا (الاختيار).

 

إن فك الارتباط الكمي سريعٌ بشكلٍ لا يصدق؛ لأن التفاعلات بين الجسيمات فعالةٌ للغاية في تفريق التماسك الكمي، أما بالنسبة لذرات الغبار التي يبلغ طولها ألف واحدٍ من السنتيمتر العائمة في الهواء، فإن تصادم جزيئات الهواء الأخرى سوف يدمر أي سلوكٍ كمّي في حوالي 0.0000000000000000000000000000001 ثانية، وهذا هو تريليون الوقت الذي يستغرقه الضوء لعبور محيط ذرة هيدروجين واحدة.

وهذا أسرع بكثيرٍ من الوقت الذي تستغرقه الحرارة لذرات الغبار من أجل إعادة توزيعها في البيئة، وبعبارةٍ أخرى، إن فك الارتباط أسرع من التبديد، ويبدو أنه يعمل بطريقةٍ واحدةٍ فقط، وهذا يعني أن فك الارتباط يكشف عن سهم الزمن أسرع من التبديد، وهذا يعني أن سهم الزمن يمكن استنباطه من ميكانيكا الكم، وليس الديناميكا الحرارية كما اعتقد بولتزمان، يقول جورج إليس (George Ellis) من جامعة كيبتاون في جنوب أفريقيا: “يجب أن يدمج سهم الديناميكية الحرارية للزمن مع السهم الزمني الكمّي”؛ لأن كل شيءٍ مصنوعٍ من الذرات، وميكانيكا الكم هي النظرية الصحيحة التي تصف الذرات، ولكن في النهاية، تصل التفسيرات الكمية والمستخدمة في الديناميكا الحرارية إلى الشيء نفسه، وهو: خلط المعلومات.

إنه لمن السهل أن نرى أن خلط نوعين من جزيئات الغاز، هو نوعٌ من التخليط، وتدمير الانتظام، ولكن فك الترابط ينطوي على التخليط أيضا، أي: التنسيق بين (الموجات) التي تصف الأشياء الكمّية، ومن ثم يأتي فك الترابط من طريقة التفاعلات مع الذرات، والفوتونات، وما إلى ذلك في بيئة الجسم التي تحمل معلوماتٍ حول الجسم، والمنطقة المحيطة به، وهذا هو في الحقيقة نسخة الكم من الإنتروبيا.

إذًا في كلٍ من الحالات الكلاسيكية وحالات الكم، سهم الزمن يُستنبَط من فقدان المعلومات.

 


  • ترجمة: مصطفى العدوي
  • تدقيق: رجاء العطاونة
  • تحرير: ياسمين عمر
  • المصدر