«أنتَ كعكة دونات، واسمح لي أن أشرح لك ذلك».

هذا ما قاله العضو في لجنة نوبل للفيزياء (ثورس هانس هانسون – Thors Hans Hansson) عندما قام باستخدام أنواعٍ من الكعكِ لتصوّر هيئة الطبولوجيا – أو ما يُعرف بِعلم الفراغ/المكان- خلال إعلان جائزة نوبل للفيزياء لعام 2016.

فبحسب الطبولوجيا، والتي تهتمُّ برياضيّاتِ تحوّل الأشكال عند تعرُّضها للشدِّ أو السحب دون أن تتمزّق؛ فقد تجدُ ارتباطًا غريبًا بين أشياءَ لطالما اعتدتَ أن تراها غير ذا صِلة بين بعضها، تمامًا مِثلك أنت وكعكة الدونات.

كما وتفسّر السلوك الكمومي الشاذ في الموائع الفائقة والموُصِلات الفائقة؛ وهذا ما يُؤدي إلى أنواع جديدة وغريبة من المواد التي لم يعتقد العلماء أنها مُمكنة أبدًا، وفي الوقت ذاته يجد بعض عُلماء الفيزياء أنَّ الطبولوجيا هي مِفتاحٌ للنظريّة الشاملة للكون، ولهذه الأسباب قد حصل بحث علم الطبولوجيا على جائزة نوبل في الفيزياء.

ولكن ما هي الطبولوجيا بالضبط؟ ومالذي يربطها بالفيزياء؟

إليكَ ما أنت بحاجة لمعرفته:

 الأعداد الصحيحة:

يقوم عُلماء الطبولوجيا بتعريف وتحديد الأجسام تبعًا لخصائص مُعيّنة ثابتةٍ غير مُتغيّرة، كعدد الثقوب التي قد توجد في شيء ما، فعلى سبيل المثال وفقًا للمصطلحات الطبولوجيّة فإنَّ الشكلَ المُكعَبي يتطابق مع الكروي؛ إذ أن كليهما لا يحويانِ على أيّ ثُقب.

وهنالكَ طُرفةٌ رياضيّةٌ تقول: «الطبولوجيّ هو الشخص الذي لا يرى فرقًا بين كعكة الدونات وفنجان القهوة، حيث أن لكلاهما ثقبًا واحدًا ».

والأهمُ من ذلك، لابدّ أن يكون عدد الثقوبِ عددًا صحيحًا مثل ( صفر، واحد، إثنان.. )، فلا يمكنك أن تصفَ شكلًا بأنه يحوي عل نصفِ ثقبٍ أو ثُلث ثقب إلا إن تمَّ تمزيقه؛ ولهذا الأمر يُطلق على عدد الثقوب في الشيء اسم ( الثابت الطبولوجي – Topological Invariant).

وعلى الرغم من أن هذه الأفكار قد بدأت في الرياضيّات، إلا أن كثيرًا من الأنظمة الفيزيائيّة لها خصائصٌ ثابتة مماثلة، وهذا ما قادَ الفيزئائيين ليُفكّروا بالكون والمادة بطريقة جديدة تمامًا.

وهنالكَ بعض الأشياء يعتمدُ تصّرفها بشكلٍ أساسيّ على كيفيّة تشكّلها، مثل:

 الموائع الفائقة – Superfluids

إذا ما قُمنا بمقارنةٍ بسيطةٍ بين الماء والعسل؛ فسنرى أنَّ الماء يتدفقُ بكل سلاسة من صنبور المياه، في حينِ أنَ العسلَ يقطرُ ببطءٍ من المِلعقة، إنَّ الذي يُعرّفُ سهولة حركة هذه السوائل هو مُصطلحٌ يُطلَقُ عليه اسم ( اللزوجة – Viscosity) والذي يتعلّقُ بكيفيّة اصطدام جُزيئات السائل بين بعضها البعض ومدى تشابكها، ولكنَّ الموائع الفائقة التي نتحدّثُ عنها يُمكنها أن تتدفقَّ بلا مُقاومةٍ إطلاقًا، إذ أنَ لزوجتها تساوي للصفر.

إن الهيليوم السائل يتصرّفُ بطريقةٍ مشابهة لهذه وذلك عندما يتم تبريده حتّى بضعِ درجاتٍ فوق الصفر المُطلَق ( والذي يُساوي إلى -273 درجة سلسيوس)، حيثُ تقومُ ذرّاته بما يماثُل التفكير الجماعي، فتتصرّفُ جميعها كما لو أنّها جسمٌ واحد، وتكونُ النتيجة هي عندما تقوم بتحريك وعاء من الهيليوم السائل فإنَّ الدوّامة المُتشكّلة في هذا المائع ستظلُّ في حركةِ دورانٍ أبديّة ودون تباطؤ.

وقد لاحظ كلٌ من العالِمَين ( ديفيد ثولس – David Thouless) و ( مايكل كوسترليتز – Michael Kosterlitz) الفائزين بجائزة نوبل، أنَّ زوجًا من الدوّاماتِ الصغيرة جدًا تتشكّل في البِرَكِ الرقيقة من الموائع الفائقة، والتي قد تقترنُ ببعضها أحيانًا إذا كانتا تدوران باتجاهين متعاكسين، مثل تروسِ ناقل الحركة في الآلات.

ولكن إذا ما تجاوزت حرارةُ هذا المائعِ الدرجة الحرجة فإنَ زوجَ الدوّاماتِ ستنفصل عن بعضها وتدورُ بعيدةً عن بعضها، وعند هذه الدرجة يقومُ سائل الهيليوم فجأةً بتغيير سلوكه ويمرُّ بمرحلةٍ إنتقاليّة طبولوجيّة.

وتحدثُ هذه المرحلة الانتقاليّة عندما يُغيِّرُ الشيْ من خصائصه، مثل تحوّل الماء من الحالةِ السائلة إلى الصلبة عندما يتجمّد ويصبح جليدًا، أو حتّى عندما يتحوّل طِفلكَ المُطيع من حالةٍ هادئةٍ إلى نوبةِ غضبٍ مُفاجِئة.

وقد استخدم عُلماء الفيزياء هذه الأفكار في كثيرٍ من أبحاث الفيزياء الأخرى، حتّى أنَّ نظريّة الجاذبيّة الكموميّة والتي مالمُحتمَل أن تكونَ هي ( نظريّة كُل شيء – Theory Of Everything)، والتي تتعاملُ مع الفراغِ الأساسيّ كنوعٍ من الموائع الفائقة.

 ظاهرة تأثير هول الكمّي – Quantum Hall Effect

عادةً ما تكون العلاقة بين التيّار والجهد عن طريقِ خاصيّةٍ من خواصِ المادة والتي تُعرف باسم المُقاومة، تمامًا مثل الإحتكاكِ الذي يمنع الإلكترونات من التدفّق عبر المادّة.

فقد وجدَ الفيزيائيّون في ثمانينيّات القرن الماضي تأثيرًا مُحيّرًا في المواد المُسطّحة سُمّيَ بتأثير هول الكمّي؛ إذ أن هذه العلاقة البسيطة (المُقاومة) لا وجودَ لها، وبدلًا من ذلك فقد قفزت المُقاومة بشكلٍ تدريجيّ، وكانت هذه القفزاتُ مُتطابقة مهما كان نوع المواد المُستخدمة للمادة.

تُفسّرُ الطبولوجيا بأنَ هذه القفزات كانت نتيجةً لارتباطِ الإلكتروناتِ معًا مُشكّلةً السائلَ الكمومي، وكما هو الحال مع المائع الفائق، فإن سلوكَ الإلكتروناتِ يتعرّفُ من خلال الشكل فقط، لا عن طريق المواد التي تتحرّك عبرها.

الموصليّة الفائقة – Superconductivity

إنَّ الموصلاتِ الفائقة تقومُ بنقل التيّار بلا أيّ مُقاومةٍ إطلاقًا، وكما هو الحال في الحركة الدائمة لدوّامات الموائع الفائقة، فيُمكن أن يكون للموصلاتِ الفائقة أن تنقُل تيّاراتٍ بشكلٍ دائمٍ وللأبد.

ويُمكن تصميم هذه الحلقات في (البتّات الكموميّة – Qubits ) والتي تُعتبر حجرَ الأساسِ لأجهزة الحواسب الكموميّة، وبنفس الطريقة التي يمكن لزوجٍ من دوّامات الموائع الفائقة أن تقترن ببعضها، يمكن لزوج من إلكترونات الموصلات الفائقة أن تقترن أيضًا ويجعلها تنتقل برحلة سفرٍ مجّانيّة لا نهائيّة.

ومرّةً أخرى نقول، إن للطبولوجيا أهميّة كبيرة في فهم هذا السلوك.

العوازل الطبولوجيّة – Topological insulators

والتي تُعتبرُ واحدةً من أغربِ أنواعِ المواد المُكتشفةِ في السنواتِ الأخيرة: إذ أنها ناقلةٌ وعازلةٌ معًا، حيث تكون الإلكترونات محصورةً داخل المادة في مواقع محليّة محدودة، بينما يمكنها تتحرّكُ بحريّة نسبيًّا على السطح الخارجيّ للمادة، وينشأُ هذا السلوك المُتناقض اعتمادًا على شكل الالكترونات واقترانها معًا كما هو الحال في دوّامات الموائع الفائقة حسب تفسير الطوبولوجيا.

نظريّة الأوتار – String theory

في العالم الخفيّ لنظريّة الأوتار الفائقة، يُحاولُ الفيزيائيّون شرحَ جميعَ الجسيمات والقوى الناشئة عن اهتزازاتِ أوتارٍ صغيرة أصغر بكثير من أي جُسيمات معروفة، وهنا تلعبُ الطبولوجيا دورًا رئيسيًّا، إذ يُمكن للأوتار أن تكون بأشكالٍ مُختلفة وليس مجرّد حلقات بسيطة، وتحدد هذه الأشكال ما هو نوع الإهتزازات التي يمرُّ بها كلُ وتر، تمامًا كما هو الحال في مختلف أنواع الأوتار في الغيتار المُثبّتة في مواضع مُختلفة، ومنها تتحددُ خصائصُ الأوتار سواء كانت إلكترونًا أو كوارك.

حيث تتصوّر النظريّة بُنيةً مجهريّة معيّنة من الزمكان مع ستة أبعادٍ إضافيّة عالأقل ومتشابكة معًا في كل نقطة حولنا، والطريقة التي تلتفُّ وتتشابكُ بها تلك الأبعاد معًا هي مُشكلةٌ طبولوجيّة.

فعلى سبيل المثال، إنَّ عددَ الثقوب مسؤولٌ عن تحديد عددَ أنماطِ الإهتزاز التي يُمكن للوتر أن يُشكّلها، وبالتالي عدد أنماط الجسيمات الموجودة، وبما أن هنالك ثلاثُ أنماطٍ من الجُسيمات، فيقول المُنظّرين لا بدَّ وأنّ الكونَ قد تكوَّن من ثلاثة ثقوبٍ زمكانيّة.

وبالعودةِ إلى وجبة الإفطار؛ فإنَّ الدونات تحوي ثُقبًا مُستمرًا واحدًا، وهكذا هو أنت  إذ يبدأ في فمك وينتهي في الطرف الآخر ولهذا السبب تقول الطبولوجيّا بأنك أنت والدونات مُتطابقان.


  • ترجمة: رامي الحرك
  • تدقيق: رؤى درخباني
  • تحرير: ناجية الأحمد
  • المصدر