تجربة جديدة لاختبار ميلجرام تسلط الضوء على قوة السلطة

بعد أكثر من 50 عامًا على ما أعلنه عالم النفس المثير للجدل، والذي صدم العالم بدراسة كشفت رغبة الناس في إيذاء أشخاص آخرين إذا ما تلقوا الأوامر بذلك، قام فريق من علماء الإدراك بتجربة جديدة من تجارب ميلجرام الأيقونية.
اختبار ميلجرام، هو اختبار مشهور في علم النفس الاجتماعي يعنى بدراسة مدى الانصياع للسلطة. بهدف قياس مدى استعداد الناس لتنفيذ أوامر تتناقض مع ضمائرهم.

وقد توفر اكتشافات الفريق بعض التفسيرات لرؤية ستانلي ميلجرام (Stanley Milgram) المزعجة قليلًا. حيث يقول الفريق: «عند اتباع الأوامر، يشعر الناس فعلًا بمسؤولية أقل تجاه تصرفاتهم. سواءً أمروا بالقيام بأعمال شريرة أم جيدة».
ويقول خبير علم الأعصاب الأخلاقي (neuroethicist) في جامعة ديوك (Duke University)، والتر سينوت آرمسترونج (Walter Sinnot-Armstrong) والذي لم يشارك في العمل: «إذا تمكن آخرون إعادة هذه النتائج؛ فسيكون هذا رسالة هامة لنا. وقد تكون بداية للعمل في فهم الأسباب التي تدفع الناس إلى إيذاء الآخرين إذا أُجبروا على ذلك؛ لأنهم يرون أن ما يقومون به من أفعال مؤذية ليست من صنعهم هم».

«قد تضيف هذه الدراسة إلى الجدل القانوني الدائر منذ زمن حول توازن المسؤولية الشخصيّة بين الشخص الذي يقوم بعمل ما بموجب تعليمات تلقاها، وبين الشخص الذي أصدرتلك التعليمات” كما يقول باتريك هاجارد (Patrick Haggard)، المتخصص في علم الأعصاب الإدراكي في كلية لندن الجامعية (University College London) والذي قاد العمل المنشور في يوم 18 من شباط الماضي.

كان الدافع وراء تجربة ميلجرام الأساسية هو محاكمة أدولف آيشمان (Adolf Eichmann)، النازي الذي دافع عن نفسه بقوله أنه “كان يطيع الأوامر فقط”، عندما قاد اليهود إلى الموت. وهنا، يؤكد هاجارد أن هذه النتائج لا تشرع الأفعال المؤذية والضارة، بل تشير إلى أن عذر “طاعة الأوامر” ينتج عن حقيقة تتعلق بشعور الإنسان عندما يتصرف مطيعًا لأمر ما قد وجه إليه.

أٌمر أن يصعق….

في التجربة الأساسية في ستينات القرن الماضي، قام ميلجرام بإخبار المشاركين في تجاربه بأنّ شخصًا قد جاء لتعلم كلمات في غرفة مجاورة، وكان على المشاركين الضغط على زر لتوجيه صعقة كهربائيّة بقوة متصاعدة لهذا المتعلم إذا أخطأ. وعند ضغطهم على الزر، كانوا يسمعون صراخه وهو يتألم. في الحقيقة، المتعلم كان ممثلًا فقط، ولم يتعرض لأي صعقة. كان هدف ميلجرام أن يرى إلى أي ّ مدى يمكن أن يصل الناس عندما يؤمرون بزيادة قوة الصعقة.

بصورة روتينية، كان ثلثي المشاركين يواصلون تصعيد قوة الصعقة، حتى بعد أن بدا لهم أن الشخص المتعلم قد فقد وعيه من الصعق، لكن ميلجرام لم يقس المشاعر الذاتية للمشاركين أثناء إكراههم على فعل شيء سيء وبغيض. وقد تعرّضت تجاربه للنقد الشديد، لأنها اشتملت على التضليل، ليس فقط لاحتمال أن يتعرض المشاركين للأذى النفسي بسبب إيذاءهم شخص ما، لكن أيضًا لأن منهم مَن يكون قد اكتشف أن الألم الذي يبديه المتعلم ليس حقيقيًا.

قامت فرق بحثية جديدة بإعادة عمل ميلجرام عدة مرات ولكن بشكل جزئي، وأقل تعقيدًا من الناحية الأخلاقية؛ حيث أراد هاجارد وزملاؤه معرفة حقيقة شعور المشاركين؛ فقاموا بتصميم دراسة يقوم المتطوعون فيها -عن دراية- بإلحاق ألم حقيقي ببعضهم البعض، وهم واعون تمامًا بأهداف التجربة.

يقول هاجارد إنه تردد كثيرًا وأخذ أنفاسًا عميقة قبل أن يقرِّر القيام بالدراسة، إذ إن تجارب ميلجرام كانت مثيرة جدًا للجدل، لكنه يقول إن السؤال حول من يتحمل المسؤولية الشخصية كان من الأهمية بمكان حتى قرر أن الأمر «يستحق محاولة إجراء بعض التجارب؛ للوصول إلى جوهر المشكلة»

حس المسؤولية…

منحت المتطوعات في تجارب هاجارد (وجميعهن من الإناث، كما هو شأن المختبِرات، تجنبًا لتأثيرات اختلافات الجنس) 20 جنيهًا استرليني. كانت النساءالمشاركات في مجموعات، كل مجموعة مكونة من اثنتين جالستين قبالة بعضهما، وبينهماطاولة عليها لوحة مفاتيح.

تقوم إحدى المشاركتين -والتي أُطلق عليها اسم”العميلة”ـ بالضغط على أحد المفتاحين، بينما لا تفعل الثانية شيئًا.

يقوم المفتاح بتوجيه صعقة كهربائية مؤلمة ولكن محتملة لذراع المشتركة الثانية التي أطلق عليها “الضحية” (تمت معايرة الصعقة؛ لتناسب المشاركات فكل شخص لديه مقياس للألم).

في إحدى التجارب تقف المختبرة إلى جانب العميلة وتأمرها أي مفتاح تضغط، بينما في تجربة أخرى، تستدير المختبرة وتنظر بعيدًا؛ لتمنح العميلة فرصة الاختيار الحر للضغط على أي من المفتاحين.

ولفحص “الإحساس بالمسؤولية” لدى المشتركات -شعور لا واعي يشعر به الشخص عندما يسيطر على أفعاله-، قام هاجارد وزملاؤه بتصميم التجربة حيث أنه أيًا كان المفتاح الذي يتم ضعطه، ينبعث صوت بعد أجزاء من الثانية. وطلب من المتطوعتين تقدير الزمن الذي استغرقه الأمر.

يقول علماء النفس إن الناس يقدرون الزمن الفاصل بين الفعل والنتيجة عند قيامهم بالعمل وفق إرادتهم الحرة -كأن تحرك يدك مثلًا- بأقل مما يشعرون به عندما يكون الفعل سلبيًا -أي أن يحرك يدك شخص آخر-.

ونتيجة لذلك، فالوقت الذي تظن المشاركة أنه انقضى ما بين الضغط على المفتاح والصوت الذي تسمعه يعد بمثابة مقياس الإحساس بالمسؤولية تجاه الفعل الذي قامت به.

وعندما أُمرت المشاركات بالضغط على المفتاح، كنّ يقدرن الوقت الذي يمر حتى صدور الصوت بأطول مما لو كان لديهن حرية الاختيار، كما لو كانت أفعالهن سلبية.

وفي تجربة أخرى، قامت المتطوعات بنفس الشيء، لكن كان هناك أقطابًا كهربائية موضوعة على رؤوسهن لتسجيل نشاطهن العصبي، من خلال إجراء رسم كهربي للمخ (EEG). وعندما كن يؤمرن بالضغط على أحد المفاتيح، بدا رسم المخ هادئًا بعض الشيء، ما يشير -حسب قول هاجاردـ إلى أن أدمغتهن لم تقم بمعالجة مخرجات الفعل. وقالت بعض منهن لاحقًا إنهن شعرن بمسؤولية أقل تجاه تصرفهن.

وعلى غير المتوقع، كان إعطاء الأمر بالضغظ على المفتاح كافيًا لإحداث التأثيرات، حتى إذا لم تؤدي ضغطة الزر إلى ضرر بدني أو مالي. ويقول هاجارد: «يبدو أن شعورك بالمسؤولية يتضاءل حين يأمرك أحد ما بأن تفعل شيئًا، مهما كان هذا الشيء».

ويقول سينوت أرمسترونج: «يمكن لتلك الدراسة أن تؤسس نقاشًا قانونيًا، وهي أيضًا تتصل بشكل كبير بنطاقات أخرى في المجتمع. فعلى سبيل المثال، يمكن للشركات التي تريد أن تنشئ ـأو تتجنبـ شعورًا شخصيًّا بالمسؤولية بين موظفيها أن تطبق الدروس المستفادة من هذه التجارب على أرض الواقع.


المصدر