كانت هناك الكثير من القواسم المشتركة بين القسطنطينية وبين عواصم القرنين الثاني والثالث الميلادي المؤقتة، والعواصم الرُباعية للإمبراطورية الرومانية في البداية. إذ كانت مدينة متوسطة المساحة ذات موقع جيد بالنسبة إلى شبكة الطرق، وعلى عكس أغلب المدن الأخرى، كانت قريبة من البحار. إذ كانت القسطنطينية متمركزة على بحر مرمرة الذي يتصل بالبحر الأسود شمالًا والبحر المتوسط جنوبًا، وقريبة من نهر الدانوب ومن ساحة الحرب على تلك الجبهة، وليست ببعيدة عن الأراضي المُتنازع عليها مع بلاد فارس.

الاسم اليوناني لهذه المدينة (Βυζαντιον) «بيزنطة»، هو الاسم الذي واصل الكُتاب اليونانيون مثل بروكوبيوس تسميتها به. صمدت بيزنطة أمام حصار كبير في فترة الحرب الأهلية السيفيرانية، ثم أُعيد بناؤها على مقياس هائل، إذ تضاعفت مساحتها. كانت لتصبح قاعدة العواصم الرباعية لولا أن نيقوميديا احتفظت بتلك المكانة، على بعد 150 كم على الجانب الآسيوي.

من غير المعروف سبب اختيار قسطنطين الأول (حكَم 306-337 م) لهذا الموقع بدلًا من نيقوميديا، على الأرجح كان لتجنب ما يربطه بحكم ديوكلتيانوس. مع ذلك أقام قسطنطين في نيقوميديا واحتفل بالذكرى العشرين لتوليه حكم الإمبراطورية الرومانية، كما احتفل في روما.

من المحتمل أن المدينة الجديدة كانت تذكارًا لنصره على ليسينيوس بالقرب من كريسوبوليس عام 324 م، مثلما أُنشِئَت نيكوبوليس لتشهد نصر أغسطس (حكَم 27 ق. م – 14 م) قرب أكتيوم. وربما أُعجب قسطنطين بالقدرات الدفاعية لشبه الجزيرة التي امتدت عليها بيزنطة، إضافةً إلى موانيها الممتازة.

بدأت أعمال التشييد أواخر العام 324 م، وافتُتحت المدينة «الجديدة» عام 330 م. بحفل عظيم في ميدان سباق الخيول. حين توفي قسطنطين بعد سبع سنوات كانت الكثير من أعمال البناء قيد التشييد والكثير ما زال يُستكمل، لكن سرعة إنشاء العاصمة الجديدة كانت مُبهرة.

أمام القسطنطينية، تضاءلت العواصم الرباعية السابقة من حيث المساحة. أُعيد إحياء المدينة باتباع الطقوس الرومانية القديمة، وبجدار جديد حول شبه الجزيرة فاق المدينة السيفيرانية حجمًا بأربعة أضعاف.

في الجانب الغربي، بُني قصر عظيم مرتبط بميدان خيول القسطنطينية، وأُنشئ حمام إمبراطوري وطرق للمواكب. وشُيدت كنائس عظيمة من ضمنها كاتدرائيات آيا إيرين وآيا صوفيا. كانت ما تزال بعض معابد الآلهة القُدامى موجودة، وتماثيل لآلهة جُلبت من أماكن أخرى، عُدت غنائم أو أعمالًا فنية، أو أصنامًا وثنية للزوار. كان ميدان قسطنطين وميدان الخيول تحديدًا مُزينين بزخرفة. كانت هناك العديد من سمات العاصمة الاسمية للإمبراطورية الرومانية، مثل التلال السبعة ومعبد فورتونا الرومي، لكن أكثرها كان جديدًا.

وُضعت شبكة شوارع جديدة في الأحياء الجديدة، وهو ما لم يحدث في روما، وأُحيطت المدينة بالمواني ومخازن الحبوب. لتوطين المدينة الضخمة الجديدة، استُقطب سكان جُدد وأُنشئ مجلس ثان للشيوخ. وفرت قنوات المياه والصهاريج الضخمة مياه الشرب وزودت الحمامات. القمح المصري الذي كان يذهب إلى روما تحول لإطعام القسطنطينية. ربما لم يكتمل إنشاء كنيسة الرُسل في حياة قسطنطين، لكنه دُفن في الضريح المجاور. أنشأ حُكام عواصم الإمبراطورية الرومانية مراكز إدارية بالشكل الذي تطلبه النظام آنذاك، لكن قسطنطين عمد إلى خلق مركز رمزي جديد للإمبراطورية.

خطط قسطنطين كانت ضخمة، لكن القسطنطينية سرعان ما توسعت متجاوزةً تصميمه الأصلي. انقضت معظم فترة حُكم قسطنطيوس في استكمال التصميم الأصلي، موفرًا للمدينة مجموعة كاملة من المؤسسات لجعلها عاصمة إمبراطورية بوضوح. يُلاحظ ذلك في خُطب الخطيب والمعلم ثامسطيوس، الذي ترقى لمجلس الشيوخ الشرقي عام 355 وعَهَد الإمبراطور إليه بزيادة عدد الأعضاء ليصبح مكافئًا لمجلس روما.

اكتسبت المدينة حاكمًا حضريًا كما كان لروما في منتصف القرن الرابع الميلادي. الامتيازات المتوالية من ثامسطيوس أوحت بدور للمجلس الشرقي في زيادة شرعية الإمبراطور. واصلت المدينة التوسع غربًا، حيث بُني جدار آخر في بدايات حكم ثيوذوسيوس الثاني، خالقًا امتدادًا كبيرًا باتجاه الشرق أحاط بسوق البستنة والمساكن والمؤسسات الدينية. أصبح مركز المدينة مليئًا بالكنائس، وأعيد بناء العديد منها على مقياس ضخم في عهد الإمبراطور الروماني جستنيان.

نهضت القسطنطينية على حساب روما، إذ أُعيد توجيه موارد الإمبراطورية الرومانية إلى العاصمة الجديدة. وامتلأ المجلس الجديد جزئيًا بأعضاء العائلات القديمة التي دُعيت للقدوم شرقًا. جذبت الحوافز لبناء المساكن المهندسين المعماريين والحرفيين ورأس المال إلى القسطنطينية، وأدى تقليل إمداد الحبوب إلى صعوبة محافظة روما على مستوى سكانها. انتقد زوسيموس إهدار الموارد على العاصمة الجديدة، في حين أشاد يوسابيوس بالأسس الدينية لقسطنطين هناك، ما يعكس بعض الخلافات خلال نهاية فترة حكم ثيوذوسيوس الثاني (حَكم 408-450 م).

لم يُهمل قسطنطين روما تمامًا في بداية حكمه، إذ استغرقت مشروعات البناء الإمبراطورية سنوات حتى اكتملت، وتلقت المدينتان رعاية الإمبراطور حتى وفاته، خلال القرن الرابع الميلادي، فكان للإمبراطور مركزان رمزيان.

بعد أن هَزم مكستنيوس في أكتوبر 312 م. تصرف قسطنطين كما هم المنتصرين في حروب الإمبراطورية الرومانية الأهلية، مثل أغسطس وفيسباسيان وسيبتيميوس سيفيريوس، إذ اعتادوا بناء مشروعات في روما لوضع برنامج منوع لحكمهم. كانت أعظم المباني التي بناها قسطنطين سلسلة من كنائس البازيليك العظيمة حول المدينة. بدأ بناء كنيسة القديس يوحنا اللاتراني بعد سنة من انتصاره واكتملت عام 320 م، بهدف أن تكون كاتدرائية للمجتمع المسيحي في روما. خلال ما تبقى من حكمه رعى العديد من الكنائس الكبرى الأخرى قرب قبور الشهداء حول المدينة. إذ كانت كنائس القديسين لورنس وبطرس خارج أسوار المدينة، في حين كانت كنائس القديسين أغنيس ومارسيلينيوس وبطرس الشماس، وبازيليك القديس بطرس القديمة في الفاتيكان، ما وفر مرافق للحجاج والمجتمعات المسيحية المحلية.

دار جدل حول مدى تأثر موقع هذه الكنائس بموقع قبور الشهداء، وما يتعلق باحترام عبادة الآلهة القديمة الذين كانت معظم معابدهم في وسط المدينة. أثرت أسباب عملية جيدة في موقع كنائس البازيليك، على الأقل بعضها كان على أرض إمبراطورية. أما جودة اختيار وضع هذه المباني الواسعة في أماكن مرئية لجميع الداخلين إلى المدينة والخارجين منها، فكانت أقل وضوحًا. تشييد البازيليك القديمة للقديس بطرس وكنيسة القديس بولس تزامن مع بدء أعمال تشييد القسطنطينية.

لم يقتصر عمل قسطنطين في روما على بناء الكنائس، بل امتد إلى مجموعة من الحمامات الرومانية تنافس ما بناه تراجان وكاراكالا وديوكلتيانوس. وأعاد نمذجة بازيليك مكسنتيوس الأخيرة وفقًا لشكل الميدان الروماني ونصب تمثالًا عملاقًا لنفسه فيه. جرى بعض الترميم لميدان بوريوم ولسيرك ماكسيموس. كان قسطنطين آخر حكام الإمبراطورية الرومانية الذين أنفقوا ببذخ على المدينة.

ظلت مدينة روما مركزًا رمزيًا رئيسيًا وصولًا لمملكة القوط الشرقيين. أواخر القرن الرابع الميلادي، وثقها الكُتاب المسيحيون وأعضاء مجلس الشيوخ إذ دُرست المدينة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا. كانت الصدمة واسعة النطاق نتيجة نهب جيوش القوط لروما عام 410 م دليلًا كافيًا على أن روما احتفظت بأهميتها لدى الإمبراطورية الرومانية، وإن تغيرت مركزيتها بمرور الزمن. ولم تستعد مكانتها عاصمةً سياسيةً حتى أواخر القرن التاسع عشر.

استمر مجلس الشيوخ بالانعقاد، وواصل حكم المدينة بقيادة الحاكم الحضري. واستمر المجمع الكهنوتي بأداء الطقوس العُرفية حتى حُظرت أواخر القرن الرابع.

تولى مجلس روما أعمال صنع القرار محليًا، أما المسائل المهمة فعُهد بها إلى القاضي –البريتور- وللمحكمة الإمبراطورية. سعت أرستقراطية مجلس الشيوخ لاستعادة السيطرة على المدينة، في القرن الرابع، تولوا مسؤولية المجتمع الحضري ونصبّوا التماثيل لأنفسهم في الميادين، واستقبلوا الزوار الإمبراطوريين بكياسة.

اقتصاديًا، كان الوضع أعقد. العائلات التي سيطرت على مجلس الشيوخ الغربي للإمبراطورية الرومانية امتلكت مساحات شاسعة من الأراضي وأصولًا أخرى جماعيًا، خصوصًا في الغرب. خلال القرن الرابع ساهم البعض ماليًا في المدينة لحفظ آثارها، وسكنوا القصور الفارهة. لكن بمرور الزمن تعرضت ثرواتهم لضغوط من اتجاهين، للغرابة لم تكن المحكمة الإمبراطورية التي عانت ضائقةً مالية من بينهما.

الاتجاه الأول للضغط كان الهدايا -التي يصعب تحديدها- من هذه العوائل إلى المؤسسات الدينية. عدد الهدايا المُقدمة من ميلانيا الصغرى في أوائل القرن الخامس الميلادي كان فاضحًا بالنسبة إلى البعض، مع أن بعض السجلات التاريخية تمتدحها. خلال القرن الخامس الميلادي كان هناك القليل من الأدلة عن الأموال المنصرفة على الإصلاحات والمحافظة على الأبنية غير المرتبطة بالكنيسة.

الاتجاه الثاني كان احتلال الكثير من المناطق الغربية، أولًا من البرابرة الذين استقروا هناك ولاحقًا من الممالك الجديدة. إضافةً إلى ذلك، حدث تقلص في عدد سكان المدينة، من ناحية كان هذا رد فعل لتناقص موارد القمح، ومن ناحية إشارة إلى أن روما تجاريًا لم تعد سوقًا مهمة كالسابق. مع هذه التغيرات نمت ثروة الكنيسة المسيحية، إضافةً إلى نشاطات البناء والتأثير المتنامي لأساقفة روما من داماسوس أواخر القرن الرابع حتى ليو العظيم في القرن الخامس.
شهد القرن الرابع الميلادي هيمنة ديناميكيات العلاقة بين مجلس الشيوخ والمحكمة البعيدة، أما في القرن الخامس وما بعده فبدأت علاقة البابا بالطبقة

الأرستقراطية بتشكيل الحياة والأماكن العامة في المدينة. المزيج السياسي كان مختلفًا تمامًا في القسطنطينية حيث ارتبطت المراسم المسيحية بتزايد بالأباطرة الذين حضروا شخصيًا في المدينة، في حين كان لمجلس الشيوخ الشرقي تأثير أقل. ومع تراجع أهمية روما، واصلت عاصمة قسطنطين الجديدة النمو بوصفها مركزًا للإمبراطورية الرومانية، مضيفةً مقاطعات وأسوارًا جديدة خلال القرن الخامس.

كان للإمبراطورية الرومانية مراكز أخرى، منها شخص الإمبراطور بنفسه. الزيارات الإمبراطورية الرسمية النادرة إلى روما كان لها أهمية كبيرة، إذ تقابل المركزان وإن كان ذلك لفترة وجيزة. أما في القسطنطينية فقد تقابل الإمبراطور والمدينة بانتظام أكبر وبتجانس غالبًا. مع أن أعمال شغب نيكا توضح كيف يمكن أن يسوء هذا التقارب.

فيما يخص المراكز الحضرية الأخرى، فقد استمرت أدوار مدن أنطاكية والإسكندرية وقرطاج القديمة في أنظمة التبادل الإقليمية. استيلاء المملكة الفندالية على قرطاج عام 439 م لم يمنع هذا الدور تمامًا. رغم المحاولات المتكررة للاستيلاء على المدينة، استمر الفندال بحكم المدينة حتى استردها بيليساريوس –قائد جستنيان- عام 534 م.

استمرت قرطاج بكونها مركزًا رئيسيًا حتى أوائل القرن السادس الميلادي، حين هُجر سكان المدينة بسبب زلزال كارثي، تلاه احتلال فارسي بعد سنوات قليلة. حاول جستنيان إعادة إحيائها لكن لم تنجح مساعيه. أما الإسكندرية فقد احتلها الفرس فترةً قصيرة قبل أن تعود لسيطرة الرومان أوائل القرن السابع. احتل العرب أنطاكية عام 637 م، ثم الإسكندرية عام 641 م، ثم قرطاج عام 697 م.

أما القدس فكانت مدينة متوسطة المساحة، ومُستعمرة رومانية منذ حُكم هادريان (حَكم 117-138 م.) والثالثة من حيث الأهمية بالنسبة إلى إعمار قسطنطين بعد روما والقسطنطينية. فكنيسة القيامة تُعد بازيليكا عظيمة أخرى أُنشأت في أواخر حُكم قسطنطين، وأصبح الموقع من المراكز الرئيسية للحج المسيحي. خلال حكم ثيوذوسيوس الثاني، اعتُرف بأسقف القدس بطريركًا، ما منحه ذات المكانة لأساقفة القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية وربما حتى روما. بنى جستنيان (حَكم 527-565 م) كنيستين عظيمتين جديدتين هناك، كنيسة ثيوتوكوس -والدة الرب- الجديدة، وكنيسة صهيون. علقت القدس هي الأخرى في الحروب مع بلاد فارس أوائل القرن السابع، قبل أن تسقط في يد العرب عام 638 م.

الأسباب التي أدت بالقسطنطينية لأن تصبح عاصمة العالم الروماني، كانت عشوائية وليست نتيجة لخطة ممنهجة. من المنطقي أكثر التفكير بكيفية تأثير الجغرافية السياسية والتحولات العسكرية وأنماط النشاط الاقتصادي والثقافي المتغير في الشبكات الحضرية للإمبراطورية. الإمبراطورية الرومانية بدأت دولةً من مدينة واحدة وانتهت بالشكل ذاته، وإن لم تتقلص إلى النقطة ذاتها التي توسعت منها. في أغلب تاريخها، كانت الإمبراطورية كبيرة جدًا ومعقدة بحيث لا يمكن توجيهها من مركز واحد.

اقرأ أيضًا:

أسوأ إمبراطور في تاريخ الإمبراطورية الرومانية

أنظمة العمارة الكلاسيكية: الأعمدة الرومانية والإغريقية مثالًا

ترجمة: صفا روضان

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر