ادّعى البعض طوال أكثر من قرن أنّ البشر يمكن أن ينفجروا دون مبرّر وبشكل فجائيّ متحوّلين إلى كرة من اللّهب.

عرفت هذه الظّاهرة باسم الاشتعال البشريّ الذّاتيّ (Spontaneous Human Combustion)، كما تمّ تداولها ووصفُها في العديد من كتب الظّواهر الغامضة وغيرِ المفسّرة.

وعلى الرّغم من كون مصطلح الاشتعال الذاتيّ حديثَ الظّهور نسبيًّا، لكنّه كان مثارَ قلق ورعب للكثيرين في القرن التّاسع عشر.

يوجد في الواقع أكثر من 10 إشارات إلى أشخاص احترقوا ذاتيًّا في أدب ما قبل القرن العشرين.

ولعلّ أشهرَ مثال عليها هو رواية البيت الكئيب (Bleak House) لشارلز ديكنز عام 1853، فقد انفجرَ فيها أحدُ الأشخاص متحوّلًا إلى ألسنةٍ من اللّهب.

كما نشاهدُ الاحتراق الذّاتيّ أيضًا في روايات مارك تواين، هيرمان ميلفيل، واشنطن إيرفينغ والقائمة تطول.

أمّا حاليًّا، فإنّ الاحتراق الذّاتيّ يظهرُ في الأفلام والمسلسلات التّلفزيونيّة كمسلسل (The X Files)، كما يمكن للاحتراق أن يردَ أيضًا على شكل ظاهرة خارقة مثل شخصيّة جوني ستورم في سلسلة القصص المصوّرة (Fantastic Four).

نظريّات حول سبب الاشتعال الذّاتيّ:

لا تظهر النّار فجأةً من تلقاء نفسها وفقًا للمعتاد.

فعندما يتمّ التّحقيق في حوادث حرائق الغابات، لا يفترض أحدهم أنّ النار ظهرت من تلقاء نفسها، إنّما يشكّون في الصّواعق أو إهمال من قاموا بالتّخييم في تلك المنطقة.

ومع ذلك، قد تحترق أشياء عديدة بشكلٍ تلقائيّ كهباب الفحم والسّماد العضوي إذا ما توفّرت الظّروف المناسبة.

تجدر الإشارة إلى أنّ افتراضَ تحوّل الأشخاص إلى كرة من اللّهب دون سابق إنذار يبقى بعيدًا عن المنطق.

ولا شكّ أنّ الجسم البشريّ يعتبر قابلًا للاشتعال، حيث تقوم أفران الجثث روتينيًّا بتحويل جسم الإنسان إلى رمادٍ في غضون ساعات قليلة.

ويكمن غموضُ الاشتعال الذّاتيّ في الظّروف الغامضة التي أدّت لحدوثه، فلا نجد مثلًا نارًا متّقدة أو أيَّ مصدرٍ للّهب يمكن الشكّ بكونه مسبّبًا لحادثةِ احتراق جسد الضّحيّة.

يمتاز الاشتعال الذّاتيّ بكونه قاتلًا، فلا تحترق الضّحيّة بشكل جزئيّ كأن يقتصر الاشتعال فيها على يدها أو قدمها مثلًا، بل تحترق بشكلٍ كامل وعلى إثره تموت الضّحيّة بسرعة.

يدّعي البعض أنّ الاحتراق يبدأ في منطقة الصّدر أو البطن تاركًا بقايا اليدين والقدمين سليمة.

ويدعي آخرون أن ثيابَ الضّحيّة والأثاث المحيط بها لا يتأثّران ويبقيان سليمين من النّار بشكلٍ مريب.

نظرة عن كثب:

تعتبر بعض الادّعاءات الرّائجة خاطئة بكلّ بساطة.

على سبيل المثال، تُظهر العديد من الصّور المشتبه بكونها حالات اشتعال ذاتيّ حروقًا كبيرة في ثياب الضّحيّة والأشياء المحيطة بها.

ومن المهمّ أيضًا أن نعرف معلومات قليلة عن طبيعة الاحتراق: إنّ أغلبَ الحرائق محدّدة لنفسها أي أنّها تنطفئ حالما ينفد منها الوقود.

هذا وتتصرّف الحرائق بشكلٍ غير متوقّع، فبينما يرى النّاس حرائق ضخمة تمتدّ بشكل غير مضبوط كي تلتهم غرفًا أو مبانيَ كاملة، يمكننا أن نجد حريقًا ينتشر في سجّادة أو قطعة أثاث واحدة في غرفة ما دون أن تمتدّ لغيرها، ويرجع السّبب في ذلك إلى أنّ ألسنة اللّهب تنتشر باتّجاه الأعلى وليس باتّجاه المحيط، فليسَ من الغريب أن نجدَ شخصًا ما محترقًا في ركن من الغرفة دون أن ينتشر الحريق إلى باقي أنحائها.

ولكن، ماذا عن مصدر النّار؟ ما الذي يطلق الشّرارة التي تحوّل الإنسان إلى كتلة من اللّهب؟ عُزي السبب منذ قرن إلى العصبيّة المفرطة أو حتّى إلى غضب الله، حيث كان معظمُ الضّحايا سكارى أشبعوا خلاياهم بالكحول.

وفي سبعينيّات القرن الماضي، طرِحَ تفسيرٌ شبه فرويديّ للظّاهرة ينصّ على أنّ حالات الكبت التي تصيب الفرد يمكنها أن تدفعه بشكلٍ ما للانفجار.

وقد اقترح آخرون أنّ البقع الشّمسيّة، العواصف الكونيّة، البكتيريا المعويّة المكوّنة للغازات وحتّى تراكم ما دُعيَ بـ”الطاقة الاهتزازيّة” الخاصّة بالجسم يمكن أن تكون سببًا في ذلك.

غيرَ أنّ جميع التّفسيرات السّابقة ليست علميّة ولا مدعومة بأدلّة.

تتكوّن أجسامنا بنسبة 60-70% من الماء الذي لا يحترق، ولا يوجد طريقة يمكن من خلالها أن يحترق جسم الإنسان دون تأثير خارجيّ.

ولو كان ممكنًا لجسم الإنسان أن يحترق من تلقاء نفسه دون وجود مصدر للنّار بالقرب منه، لشاهدنا حالات احتراق ذاتيّ لأشخاصٍ يسبحون في الماء أو يستحمّون في حوض الحمّام مثلًا.

حالات حقيقية:

تمّ التّحقيق بشكل جدّيّ في حوالي 12 حالة اشتعال ذاتيّ من بين كافّة الحالات التي أشيع عنها.

وقد قام الباحث جو نيكل (Joe Nickel) في كتابه (Real-Life X-Files) بفحص العديد من حالات الاشتعال الذاتيّ “غير القابلة للتّفسير”، ووجد أنّ جميعها أقلّ غموضًا ممّا تبدو عليه للوهلة الأولى.

فقد كانت أغلب الحالات لكبار السّنّ الوحيدين والقريبين من شعلة ما (سجائر، شموع أو نيران مفتوحة كمدفأة)، كما شوهد بعضهم الآخر وهم يدخّنون ويشربون الكحول قبل وفاتهم.

فإذا كان الشّخص نائمًا، ثملًا، غائبًا عن الوعي، مصابًا بوهن عضليّ أو غير قادر على الحركة لإطفاء النّار، فيمكن لملابسه أن تشكّل فتيلًا تنطلقُ منه النّيران لتنتقلَ إلى نسيجه الشّحميّ تحت الجلد مستخدِمَة إيّاه كوقود.

هنالك حالة طبّيّة نادرة تدعى متلازمة ستيفينز-جونسون (Stevens-Johnson Syndrome) والتي قد تبدو كظاهرة اشتعال ذاتيّ في مراحلها الشّديدة.

يتحرَّض هذا المرض الجلديّ النّادر بتفاعلٍ سمّيّ تجاه الأدوية كالصّادات الحيوية ومسكنات الألم، ممّا يسبّب ظهور حروقٍ وبثورٍ قد تكون مميتة.

وإذا كان الاحتراق الذّاتيّ ظاهرة حقيقيّة فلمَ لا نشاهده بشكلٍ أشيع؟ هنالك أكثر من 7 مليارات شخص في العالم ومع ذلك لا نشاهد أيًّا منهم يحترق تلقائيًّا في الشّارع، كما لم يسبق لأحد مثلًا أن قام بتصوير حالة كهذه.

هذا وتحدث جميع الحالاتِ لأشخاصٍ وحيدين بجانب مصدرٍ للنّار.

إذا ما وجدت ظاهرة طبيعيّة تسبّب الاحتراق الذّاتيّ فلمَ تقتصر على البشر فقط؟ لماذا لا تحترق الأبقار والكلاب والطّيور من تلقاء نفسها؟ فحتى لو كانت هذه الظّاهرة نادرة جدًّا، يجبُ أن نرى بشكلٍ منطقيّ عدّة آلاف من حالات الاحتراق لدى الحيوانات نظرًا لنسبة أعدادها إلى البشر.

وفي النّهاية، لا تزال بعض حالات الاحتراق السّابقة تظهرُ في نشرات الأخبار حينما لا يجد المحقّقون تفسيرًا لسبب الوفاة، علمًا أنّه لا يوجد سبب حقيقيّ ترجع إليه حالات حدوث الاحتراق الذّاتيّ.

ولعلّها تُعرَض في نشرات الأخبار لكونها أخبارًا مشوّقة ومثيرة للاهتمام، مع أن أغلبها يرجع في نهاية المطاف لشخصٍ عجوز وحيد كان بالقرب من مدفأة متّقدة.


  • ترجمة: بشّار غليوني
  • تدقيق: ميس كرّوم
  • تحرير: حسام صفاء
  • المصدر