استطاع العلماء في إنجلترا تحطيم الرقم القياسي لكمية الطاقة المُولدة من طريق تفاعل اندماج نووي مُستدام مُتحكم فيه.

في تجربة بالمعمل الأوروبي المشترك في إنجلترا «جيت» (JET)، أُنتج 59 ميجا جول من الطاقة في تفاعل استمر 5 ثوان، ما أثار حماس العلماء واهتمام العديد من المواقع الإخبارية المتخصصة التي عدته إنجازًا علميًا.

تُظهر نتائج جيت تطورًا ملحوظًا في فهم فيزياء الاندماج النووي، وتُظهر أيضًا أن المواد المستخدمة في إنشاء الجدران الداخلية للمفاعل قد حققت الغاية منها تمامًا.

شكلت البنية الجديدة لجدران المفاعل فارقًا كبيرًا في النتائج، ونقلت الاندماج النووي من مجرد حلم إلى حقيقة واقعة، بعدما كان انطباع العلماء دائمًا أنها تكنولوجيا مستقبلية صعب تحقيقها.

ما اندماج الجسيمات؟

يُعرف الاندماج النووي بعملية توحيد نواتي ذرتين لتكوين ذرة واحدة جديدة، سرعان ما تتفكك مرةً أخرى مطلقةً طاقة على شكل ذرات وجسيمات، تتسارع بعيدًا عن مركز التفاعل. تلتقط محطة توليد الطاقة هذه الجسيمات المتسارعة وتستخدم طاقتها في توليد الكهرباء.

تتعدد طرق التحكم الآمن في عملية الاندماج النووي على الأرض، منها ما حققه علماء جيت باستخدام مجالات مغناطيسية قوية في تجميع وضغط الذرات حتى ترتفع حرارتها بدرجة كافية لبدء عملية الاندماج.

تعتمد المفاعلات الحالية على اثنين من نظائر الهيدروجين: الديوتيريوم والتريتيوم. يحتوي نظير الذرة نفس عدد بروتوناتها داخل النواة لكن يختلف عنها في عدد النيوترونات.

تحتوي ذرة الهيدروجين العادية في نواتها على بروتون واحد، في حين يحتوي الديوتيريوم على بروتون ونيوترون، ويحتوي التريتيوم على بروتون ونيوترونين.

يتطلب نجاح تفاعل الاندماج بدايةً تسخين ذرات الوقود بشدة حتى تتحرر إلكتروناتها من النواة، فيما يعرف بحالة البلازما. وهو خليط من الأيونات الموجبة والإلكترونات السالبة.

ثم يجب الاستمرار في تسخين البلازما حتى تفوق درجة حرارتها 100 مليون درجة مئوية، ثم الحفاظ على انضغاط هذا الخليط الكثيف مدةً زمنية تكفي لتصادم ذرات الوقود واتحادها.

طور الباحثون جهازًا حلقيًا -يشبه حلوى الدونات- يُسمى توكاماك، للتحكم في التفاعل، مستخدمين مجالات مغناطيسية لاحتواء البلازما، تعمل خطوط المجال المغناطيسي الملتفة حول حلقة المفاعل مثل شريط القطار الذي تتبعه الإلكترونات والأيونات.

يؤدي تسخين البلازما ورفع طاقتها إلى تعجيل جسيمات الوقود وبلوغها سرعات خارقة. وعندها تندمج أنوية الذرات حال تصادمها بدلًا من الارتداد بعيدًا. تطلق أنوية الذرات الجديدة الطاقة على شكل نيوترونات سريعة الحركة.

تدريجيًا، تنحرف جسيمات الوقود مبتعدةً عن قلب المفاعل الساخن المكتظ، وتصطدم بالجدار الداخلي لصهريج المفاعل.

نتيجةً لتلك التصادمات، تتحلل جدران المفاعل ما يؤدي إلى تلوث الوقود المستخدم، ولذلك تُصمم المفاعلات بحيث توجه الجسيمات المنطلقة نحو تجويف فائق الحماية يسمى المحول، يُخرج الجسيمات المنحرفة ويزيل أي حرارة زائدة لحماية المفاعل.

أهمية جدار المفاعل

من أهم مشكلات الأجيال السابقة من المفاعلات عدم قدرة المحول على تحمل قصف الجسيمات المتواصل إلا لثوان معدودة. عكف المهندسون على تطوير مفاعل جديد قادر على التحمل لسنوات من العمل في ظل هذه الظروف الاستثنائية، حتى تمكن الاستفادة من طاقة الاندماج النووي تجاريًا.

أولى المشكلات التي يتعين حلها هو تعزيز جدار المحول، إذ إن جسيمات الوقود المنطلقة -رغم فقدانها التدريجي للطاقة في مسارها- ما زالت تمتلك طاقةً كافيةً لنزع وتحرير الذرات من مادة الجدار عند الاصطدام بها.

بدايةً، استخدم الجرافيت لصنع جدار المحول، لكن يعيبه أنه يحجز ويمتص معظم الوقود المخصص لتوليد الطاقة، ما قيّد استخدامه عمليًا.

عام 2011، استخدم المهندسون مادة التنجستن لبناء المحول وجدران الصهريج الداخلية، اختير التنجستن لامتلاكه أعلى درجة انصهار بين المعادن، وهي الخاصية الأهم بسبب ما يواجهه المحول من أحمال حرارية عالية، تقترب من عشرة أضعاف الحرارة على مقدمة مكوك الفضاء في أثناء اختراقه الغلاف الجوي للأرض!

استُبدل الجدار الداخلي لتوكاماك بمادة البريليوم، لما لها من خصائص ميكانيكية وحرارية مميزة، فهي تمتص وقودًا أقل من الجرافيت وتستطيع تحمل درجات الحرارة العالية داخل المفاعل.

مع أن مقدار الطاقة المولدة من جيت هو ما حظي باهتمام عناوين الأخبار، فإن المواد الجديدة المستخدمة في بناء جدار المفاعل هي بالتأكيد ما يستحق الإشادة، لأن مفاعلات المستقبل تحتاج إلى هذه المواد لكي تكون أكثر استدامةً وأعلى إنتاجًا.

أثبت جيت نجاحه ليكون نموذجًا لمفاعلات الاندماج المستقبلية.

ما بعد مفاعلات الاندماج

يُعد مفاعل جيت توكاماك هو الأكبر والأعقد بين جميع مفاعلات الاندماج النووي العاملة حاليًا، لكن الجيل القادم من المفاعلات قيد الإنشاء بالفعل، وأجدرها بالاهتمام هو مفاعل «أيتر» (ITER)، المزمع تشغيله في 2027.

ما زال أيتر -«الطريق» باللاتينية- تحت الإنشاء في فرنسا، وتموله وتديره منظمة دولية من عدة دول منها الولايات المتحدة.

سينتفع أيتر بالكثير من التطورات في تكنولوجيا المواد التي أظهرت كفاءتها في مفاعل جيت. ومع ذلك، سيختلف أيتر جوهريًا عنه. بدايةً، أيتر عملاق الحجم، يبلغ طول غرفة التفاعل 11.4 مترًا ومحيطها 19.4 مترًا، أي أكثر من 8 أضعاف حجم جيت.

ثانيًا، سيستخدم أيتر مغانط فائقة التوصيلية قادرة على توليد مجالات مغناطيسية أقوى ولفترة زمنية أطول مقارنةً بمغانط جيت. لذلك فمن المنتظر أن يحطم أيتر الأرقام القياسية الخاصة بجيت من حيث مقدار الطاقة المولدة واستمرارية التفاعل.

من المتوقع أيضًا أن يولد أيتر طاقةً أكثر مما يستهلكه في تسخين الوقود، وذلك يعد إنجازًا وتغييرًا جذريًا. تتوقع نماذج المحاكاة أن ينتج نحو 500 ميجاوات من الطاقة مدة 400 ثانية متواصلة، في حين سيستهلك 50 ميجاوات فقط من الطاقة لتسخين الوقود.

يعني هذا أن المفاعل سينتج عشرة أضعاف الطاقة التي يستهلكها، وهو تقدم كبير عن سابقه «جيت»، الذي يستهلك في تسخين الوقود ثلاثة أضعاف ما ينتجه من طاقة.

أظهر الرقم القياسي الحالي أن سنوات من البحوث في فيزياء البلازما لم تذهب سدى، ووضع العلماء على أعتاب تقديم طاقة الاندماج النووي مصدرًا أساسيًا لتوليد الطاقة. وسيقفز مفاعل أيتر بنا قفزةً كبيرةً نحو توليد طاقة الاندماج على نطاق صناعي.

اقرأ أيضًا:

طور الفزيائيون جهازًا مهمًا لتوليد الاندماج النووي

مجددًا، مفاعل الاندماج النووي الصيني يحقق رقمًا قياسيًا لدرجة حرارة البلازما

ترجمة: أحمد أسامة أبوحليمة

تدقيق: طارق طويل

المصدر