كيف يعمل العلم؟


القائمة المرجعيَّة للعلم

إذن ما هو العلم حقًّا؟ حسنًا، يتضّح أن وضع تعريف دقيقٍ للعلم أمر صعب.

(لقد ناقش الفلاسفة ذلك الأمر لعقودٍ عديدة) إذ يكمن المشكل في أنَّ مصطلح “العلم” ينطبق على العديد من المساعي البشريَّة في الحياة، من تطوير الليزر، إلى تحليل العوامل المؤثرة على اتخاذ البشر للقرارات.

من أجل فهم ماهية العلم، سوف نقوم بإلقاء نظرة على قائمةٍ مرجعيَّة تُلخِّص الخصائص المفتاحيَّة للعلم ومقارنتها بعد ذلك مع حالة نموذجيَّة للعلم على أرض الواقع: ولنأخذ تحريَّات إرنست روثرفورد (Ernest Rutherford) حول هيكلة الذرَّة كمثال.

ثم سنقوم بالنظر إلى حالاتٍ هي أقل نموذجيَّة في العلم من أجل الوقوف على الخصائص المشتركة بينها.

تمنح هذه القائمة المرجعيَّة دليلًا لنوع الأنشطة التي يشتمل عليها العلم، لكن بما أنَّ حدود العلم غير معروفةٍ بشكل دقيق، لا يجبُ فهمُ القائمة على أنَّها حقيقةٌ مطلقة.

بعض هذه الخصائص مهمةٌ بشكل خاص في العلم (مثلًا، كل ما يرتبط بالعلم يعتمد على دليل)، لكن البعض الآخر هو أقل أهميَّة. على سبيل المثال، بعض التحريَّات العلميَّة المثاليَّة قد تصل إلى طريقٍ مسدود.

استعمل هذه القائمة المرجعيَّة كتذكير بالمزايا المعهودة للعلم. إذا لم يطابق أي شيء معظم هذه الخصائص، لا يجب أن نتعامل مع القضية كـ “علم”.

يدرس العلم العالم الطبيعي.وهذا يشمل مكونات الكون المادي من حولنا مثل الذرات والنباتات والنظم البيئيَّة والأشخاص والمجتمعات وحتى المجرَّات، كما هو الحال مع القوى الطبيعيَّة.

في المقابل، ليس بإمكان العلم دراسة القوى الخارقة للطبيعة وتفسيراتها.

على سبيل المثال، فكرة وجود حياة بعد الموت ليست جزءً من العلم لأنَّ الحياة بعد الموت تحدث في إطارٍ خارج عن القوانين التي تحكم العالم الطبيعي.

أي شيءٍ من العالم الطبيعي ــ بدءً من النظم البيئيَّة الغريبة إلى الضباب الدخاني ــ بإمكانه أن يكون جزءً من البحث العلمي.

يمكن للعلم أن يبحث في كل أنواع الأسئلة :

متى تشكَّلت أقدم الصخور على الأرض؟

عبر أيِّ تفاعلاتٍ كيميائيَّة تحصل الفطريَّات على الطاقة من المواد المغذيَّة التي تقوم بامتصاصها؟

مالذي يتسبَّب في البقع الحمراء للمشتري؟

كيف يتحرَّك الضباب الدخاني من خلال الغلاف الجوي؟

ويبقى عددٌ قليلٌ من الأسئلة خارج نطاق العلم ــ لكن أنواع الأجوبة التي يقدمها العلم هي محدودة.

يستطيع العلم أن يجيب فقط في حالات الظواهر والعمليًّات الطبيعية.

عندما نسأل أنفسنا أسئلةً مثل، ما معنى الحياة؟ وهل الروح موجودة حقًّا؟ نتوقع أجوبةً من خارج العالم المادي غالبًا ــ وبالتالي، خارج العلم.

نموذج للعلم : رذرفورد و الذرَّة

في بداية القرن العشرين، قام إرنست رذرفورد (Ernest Rutherford) بدراسة تنظيم الذرَّة (مع دراسة أمور أخرى كذلك) ــ وهو الجسيم الأساسي للعالم الطبيعي.

رغم عدم إمكانية رؤية الذرَّات بالعين المجرَّدة، بإمكاننا دراستها باستعمال الأدوات العلميَّة لأنَّها جزءٌ من العالم الطبيعي.

العلم يسعى إلى الشرح و الفهم

يطمح العلم كمؤسسةٍ جماعيَّة إلى إنتاج عديد كبير من التفسيرات الطبيعيَّة الدقيقة لكيفيَّة عمل العالم الطبيعي، وما هي مكوناته، وكيف وصل العالم إلى ما هو عليه الآن.

تقليديًّا، كان الهدف الرئيسي للعلم هو بناءُ المعرفة والفهم، بغضِّ النظر عن الإمكانيَّات التطبيقيَّة لذلك ــ على سبيل المثال، البحث في التفاعلات الكيميائيَّة التي يخضع لها مركَّبٌ عضوي من أجل فهم تركيبته.

على كلٍّ، تم استعمال العلم بشكل متصاعدٍ للغاية، من أجل هدفٍ صريح وهو حل مشكلةٍ ما أو تطوير تقنيَّة معيَّنة، وفي خلال مشوار ذلك الهدف، تبنى معارف وتفسيراتٌ جديدة.

على سبيل المثال، يقوم كيميائيٌّ بتجربة صنع دواءٍ ضد داء الملاريا وخلال العمليَّة، يكتشف طرقًا جديدة من أجل بناء روابط يمكن استخدامها في صنع أدوية أخرى.

في كلتا الحالتين (يُسَّمى ذلك بالبحث “المحض” أو “المطبَّق”)، يسعى العلم إلى رفع درجة فهمنا لكيفيَّة عمل العالم الطبيعي.

أمَّا المعرفة التي تُبنَى من خلال العلم فهي قابلةٌ للمراجعة والتساؤل دائمًا.

لا وجود لفكرة علميَّة “مثبتة” بشكلٍ مطلق في كل الأوقات وفي جميع الحالات.

لما لا؟ بطبيعة الحال، يبحث العلم بشكلٍ دائم عن دلائل جديدة، ممَّا قد يطرح إشكاليَّات متعلقة بمستوى فهمنا الحالي.

الأفكار التي نقبل بها بشكل كاملٍ اليوم قد يتمَّ رفضها أو التعديل عليها على ضوء اكتشافِ أدلة جديدة غدًا.

على سبيل المثال، حتى سنة 1938، تقبَّل علماء الحفريات فكرة انقراض سمكة شوكيَّة الجوف في الزمن الذي حدد للحفريَّات المكتشفة لها ــ حوالي 80 مليون سنة مضت.

لكن مؤخرًا، ظهرت سمكة شوكيَّة الجوف حيَّةً خارج سواحل جنوب إفريقيا، مما تتسبَّب في مراجعة العلماء لحساباتهم والبدء في البحث عن طريقة نجاة هذا الحيوان في المياه العميقة.

بغض النظر عن إمكانية إحداث التعديلات عليها، تبقى الأفكار العلميَّة موثوقة.

الأفكار التي نالت موافقة العلماء قد حدثت لأنَّها مدعومةٌ بدلائل كثيرة.

هذه التفسيرات العلميَّة تقوم بتوليد توقعَّات بشكل متواصل لتبقى صحيحة، مما يسمح لنا بمعرفة سلوك الكائنات في العالم الطبيعي (مثلًا، ما نسبة وراثة طفل لمرضٍ جيني معيَّن) وكيف نقوم بتسخير ذلك الفهم لحل المشاكل (مثلًا، كيف نقوم بجمع الكهرباء والأسلاك والزجاج ومكونات أخرى من أجل الحصول على مصباح كهربائي صالح للعمل).

على سبيل المثال، تسمح لنا المعرفة العلميَّة للحركة والغازات ببناء طائرات قادرة على إيصالنا من مطارٍ إلى آخر.

رغم أنَّ المعرفة المستعملة من أجل تصميم الطائرات هي مؤقتَّة تقنيَّا، وبمرور الوقت، سمحت لنا تلك المعرفة بإنتاج طائرات قادرة على الطيران.

لدينا سبب مقنع من أجل الوثوق في الأفكار العلميَّة: أنَّها تعمل!

نموذج للعلم : رذرفورد و الذرَّة

كانت تسعى أبحاث إرنست رذفورد إلى فهم زاوية صغيرة، مضيئة من العالم الطبيعي : الذرَّة.

لقد قام بدراسة هذا العالم باستعمل جسيمات ألفا، وهي ذرَّات هيليوم نُزعت منها الإلكترونات.

وجد رزفورد أنَّه بتوجيه شعاع من جسيمات ألفا الصغيرة المشحونة إيجابيًّا نحو رقاقة ذهبيَّة، لا تبقى هذه الجسيمات في مسارها المباشر، لكنَّها تتوجه في المقابل نحو زوايا مختلفة.

أراد رزفورد أن يعرف مالذي سيعنيه ذلك في سعيه نحو معرفة تصميم الذرَّة.

يعمل العلم مع أفكار قابلة للإختبار

فقط هي الأفكار القابلة للإختبار من اختصاص العلم.

من أجل أن تكون فكرةٌ ما قابلة للاختبار، يجب أن تقوم منطقيًّا بتوليد توقعات محددة ــ بلغة أخرى، مجموعة من الملاحظات التي قد نتوقع حدوثها إذا ما كانت الفكرة صحيحة، ومجموعة من الملاحظات التي قد تبدو غير متناسقة مع الفكرة وتقودك إلى عدم التصديق بصحَّتها.

على سبيل المثال، لنأخذ فكرة أنَّ غناء طائر الدوري هو مشفَّرٌ جينيًّا وهو غير قابلٍ للتأثر بالبيئة التي ينشأ فيها، ولنقارنها بالفكرة التي تقول أنَّ طائر الدوري يتعلم الغناء الذي يسمعه وهو حديث الولادة.

التفكير المنطقي في هذا المثال يقود إلى مجموعةٍ معيَّنة من التوقعات.

إذا ماكان غناء طائر الدوري مشفرٌّ جينيًّا حقًّا، سنتوقع أن يقوم الدوري الذي ينشأ بين كائنات من صنف مختلف بإصدار نفس الأصوات التي يصدرها أي طائر دوري آخر من جنسه.

لكن في المقابل، إذا ما كانت أغنية ذلك الدوري تنتقل عبر التعليم وهو كتكوت، فإن نشأته بين عصافير من غير فصيلته قد تجعله يغني أغنيةً غريبة عن غناء الدوري.

ولأنَّ الفكرتين قادرتين على توليد ملاحظات متوقعة مختلفة، فهذه الأفكار قابلة للإختبار.

قد تتطلب الفكرة العلميَّة الكثير من التفكير المنطقي لكي تكون أهلًا للإختبار، قد تكون صعبة الاختبار، قد تتطلب تطويرًا لدورات تقنيَّة جديدة من أجل الاختبار، أو قد تتطلب شخصًا من أجل القيام بافتراضاتٍ قابلة للاختبار بشكلٍ مستقل ــ لكن لكي تكون الفكرة علميَّة، يجب أن تكون قابلةً للاختبار، بطريقةٍ ما…

إذا طابق تفسيرٌ معينٌ جميع الملاحظات الممكنة، لكن لم يكن قابلًا للاختبار فلن يكون ضمن نطاق العلم.

وهكذا هو الأمر بشكلٍ عام مع القضايا التي تخص الأفكار حول الظواهر الخارقة للطبيعة.

على سبيل المثال، لنأخذ فكرة وجود كائن ماوراء طبيعي مطلق القوة متحكم في أفعالنا.

هل بإمكاننا فعل أي شيء من أجل إختبار تلك الفكرة؟ لا.

لأن هذا الكائن الماوراء طبيعي مطلق القوة، أي شيء نلاحظه قد يكون مجرَّد نزوة يرسمها ذلك الكائن.

المغزى هنا أننا لا نستطيع إستعمال أدوات العلم من أجل جمع المعلومات التي تخص وجود هذا الكائن من عدمه ــ إذن، هكذا فكرة هي خارج نطاق العلم.

نموذج للعلم : رذرفورد و الذرَّة

قبل سنة 1910، اعتقد إرنست رذرفورد والعديد من العلماء الآخرين أنَّ كُلًّا من الشحنة الإيجابيَّة وكتلة الذرة موزَّعتان عبر مجموع الذرَّة، مع الإلكترونات المنتشرة في كل الأرجاء.

يمكنك تخيُّل هذا النموذج ككراتِ ثلجٍ معبَّئة (الكتلة الإيجابيَّة للذرَّة) وبعض الذرَّات المتناهية في الصغر من الرمل (الإلكترونات) منتشرة في كل مكان.

يُمكن أن تختبر فكرة تنظيم الذرَّة على هذا الشكل بتصويب شعاع من جسيم ألفا قبالة رقاقة ذهبيَّة.

إذا كانت الفكرة صحيحة، إذن ستنتشر الكتلة الإيجابيَّة بشكلٍ نسبي في الرقاقة الذهبيَّة (كرات الثلج) وستسمح بمرور جسيمات ألفا عبر الرقاقة مع انتشارٍ ضئيل.


إعداد: وليد سايس
تدقيق: بدر الفراك
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث