العلم هو مسعى بشري واجتماعي:
إن الصورة النمطية لعلماء ليست اجتماعيةً بشكل جيد (شخص مهووس ومنعزل في مختبر تحت الأرض بدون نوافذ، يتبع قواعد المنهج العلمي بشكلٍ صارم إلى أن يكتشف اكتشافًا عظيمًا.

وذلك بدون أعوان وبدون اتصال مع العالم الخارجي وبصورةٍ رتيبة لا تعرف التغيير ولا التنوع.) الأخطاء في هذه الصورة النمطية للعالِم العادي هي:
1. كما ناقشنا في قسم سابق من هذه السلسلة، لا يوجد منهجٌ علميٌّ وحيدٌ يجب اتباعه بشكلٍ أعمى.

عملية العلم مرنة وقد تأخذ مساراتٍ محتملةٍ عديدة.

2. يتم العلم على يد أفراد وليس على يد روبوتات مبرمجة تتبع روتينًا معينًا بدون أي حافزٍ أو طموحٍ أو إبداع.

العلماء هم أناس أيضًا! والعديد منهم يهتم لعمله بشغفٍ شديد بالإضافة لكون العديد منهم أيضًا شديدي الإبداع.

لكن أهدافهم، خلفياتهم، وشخصياتهم عالية التنوّع.

3. وأخيرًا، العلم متداخل ضمن مجتمعٍ علمي عالمي، وهذا المجتمع يوفر عادات ثقافية، تطلعات، ومعرفة متراكمة، وتلك أمورٌ ضرورية للغاية في توسع المعرفة العلمية.

كما أن العلم، وبشكلٍ متعارضٍ مع النموذج الشائع المعروف عنه، يعمل بنمط أقرب للمثال التالي: بعد قراءة الأعمال والأبحاث الأخيرة للعلماء الذين يدرسون السلوك الحيواني، تخطر فكرة لعالمة برازيلية أثناء لعبها لعبة الكلمات مع أطفالها، وتتمحور الفكرة حول تجربة تتضمن أغنية طير جديدة.

فتقوم العالمة بالاتصال بزميلٍ لها في كندا لمناقشة الفكرة ولمعرفة من أين يمكن لها أن تحصل على معدات التسجيل الصوتي اللازمة للقيام بالتجربة.

ثم تقوم العالمة بتجنيد بعض الطلاب بالإضافة إلى باحث زائر من الصين من أجل مساعدتها في العمل على المشروع، ثم يقوم أعضاء هذا المشروع بتقديم طلب للحصول على التمويل اللازم.

بعد إكمال الدراسة، يقوم الفريق بكتابة محتوى العمل وإرساله إلى مدونة علمية من أجل النشر، ثم تقوم المدونة العلمية هذه بإرسال العمل إلى ثلاث علماء مختلفين من أجل المراجعة (أحدهم في اليابان، والثاني في الولايات المتحدة الأمريكية، والأخير في المملكة المتحدة).

يُعجَب المراجعون بالدراسة لكنهم يقومون باقتراح بعض التغييرات من أجل تحسين عملية التحليل الإحصائي، فيقوم فريق العمل بإجراء التغييرات ومن ثم يتم نشر الورقة البحثية بعد عدة أشهر.

فيقوم تلميذٌ جامعيٌّ في فرنسا بقراءة الورقة البحثية مع مجموعة المختبر خاصته، بعدها يبعث ببريد إلكتروني للعالمة البرازيلية من أجل الاستفسار أكثر عن الإجراءات التجريبية، ثم يبتكر هذا التلميذ تجربةً لاحقة للتجربة الأصلية، ويقوم بتجنيد تلميذ آخر وأستاذ جامعي للعمل على المشروع معه… وهلم جرّا.

نستنتج مما سبق أن العلم في الواقع معقدٌ أكثر من النموذج العام الشائع عنه، لكنه أيضًا أكثر إنسانية.

بالطبع يقوم العلماء بصرف بعض من الوقت في العمل بشكلٍ فرديٍّ ومنعزل، في ميدان العمل أو في المختبر أو على الحاسوب، لكن الغالبية تقوم أيضًا بالتعاون والتنسيق في البحث مع الآخرين.

كما أن عمل العلماء لا يقتصر على إجراء البحوث، فجزءٌ كبيرٌ من عملهم يتضمن مراجعة أعمال ومنشورات أقرانهم من الباحثين، بالإضافة إلى قيامهم بتعليم تلاميذ جامعيين وباحثين شباب ومراقبة عملهم، والتكلم في مؤتمرات مختلفة أيضًا، فضلًا عن المشاركة في المجتمعات العلمية.

فعمل العالم يتضمن ما هو أكثر بكثير من مجرد الدخول إلى مختبر خالي من النوافذ والقيام بسلسلة تجارب لا نهاية لها.

المجتمع العلمي: التعددية والتنوع يحدثان الفرق!

 

يتكون المجتمع العلمي من أناسٍ من مختلف الخلفيات والانتماءات والثقافات.

وفي نقطة معينة من التاريخ، كان الذكور البيض مسيطرين على العلم، إلا أن الأمر لم يعد كذلك الآن.

فبلمحةٍ سريعةٍ على الأوراق البحثية الأخيرة في المدونات العلمية الرائدة نتأكد أن التنوع هو السائد حاليًا.

مثال: تعاون جين كارليتون وفريقها المكون من 64 باحثًا موجودين بعشرة بلدان مختلفة حول العالم للبحث عن السلاسل الجينية الخاصة بمسببات الأمراض.

العديد منهم يأتي من ثقافات اجتماعية ومناطق جغرافية مختلفة، ورغم ذلك، ضمن بحثهم، هم جميعًا موحدون بفضل ثقافة العلم العالمية.

فإن العلم حقًا لا حدود له!
إن وجود علماء بخلفيات متنوعة بهذا الشكل يأتي بوجهات نظر عديدة في مواجهة المشاكل والمسائل العلمية.

فتلميذ الكيمياء ذو الأربع وعشرين عامًا من جنوب أفريقيا، وأخصائي بيولوجيا السمكيات ذو الواحد والأربعين عامًا من فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية، وعالم الأحفوريات ذو الخمس وستين عامًا من بكين في الصين، سيكون لديهم وجهات نظر مختلفة عن العالَم، والعلم يستفيد من هذا التنوع.

• التنوع والتعددية يسهلان التخصص:

للعلماء نقاط قوة واهتمامات مختلفة، فالناس الآتين من خلفيات مختلفة لا يختارون التحقيق في أسئلة مختلفة فحسب، بل يمكن لهم أحيانًا استخدام مقاربات مختلفة لحل ذات السؤال بطرق مختلفة.

فأخصائي البيولوجيا الذي لديه ولعٌ بالرياضيات، وأخصائي البيولوجيا الذي لديه ولعٌ بالسلوك البشري، وأخصائي البيولوجيا الذي لا يكتفي من المجاهر وأعمال المختبر، يمكن لكلٍّ منهم التركيز على نقاط قوته، فيمكن لكلٍّ منهم مواجهة الموضوع ذاته (مثال: الإدراك البشري) من زوايا مختلفة، الأمر الذي يوفر فهمًا أكمل حول الموضوع المذكور.

• التنوع ينشط حل المشاكل:

يستفيد العلم بشكلٍ كبيرٍ من وجود مجتمعٍ يواجه المشاكل والمسائل بطرقٍ خلّاقةٍ مختلفة.

فمجتمعٌ متنوعٌ سيكون أكثر قدرةً على توليد طرق بحثٍ جديدة، تفسيرات، وأفكار، الأمر الذي من شأنه مساعدة العلم على تجاوز العقبات وتسليط ضوء جديد على المشاكل التي يواجهها ويحاول حلها وتعليلها.

على سبيل المثال: قام ألبيرت أينشتاين بمقاربة مفاهيم الزمان والمكان بطريقةٍ تختلف عن طريقة معاصريه، مبتدعًا أفكارًا لم تكن بديهيةً على الإطلاق، لكنها كانت مدعومةً بالدلائل وبالتالي قامت بفتح مجالات جديدة للبحث فيها.

 

• يعدّل التنوع والتعددية من تأثير الانحيازات:

يستنفع العلم من ممارسين ذوي معتقداتٍ وخلفياتٍ وقيمٍ متنوعةٍ من شأنها موازنة التحيزات التي يمكن أن تحصل إن كان العلم حكرًا على مجموعةٍ فرعيةٍ ضيقةٍ من البشر.

كمثالٍ على ذلك: خذ التحقيق الجاري حاليًا حول التغيّر المناخي، فعندما يأتي الأمر إلى حديث مشحون كهذا، حديثٌ تدخل فيه العديد من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والمعتقدات الشخصية، يمكن بسهولةٍ حدوث انحيازٍ في بحث عالمٍ ما أو تقييمه للدلائل الموجودة أمامه.

إلا أن اعتماد العلم على مجتمعٍ متنوع ومتعدد، يجعل العلماء يسعون ليكونوا موضوعيين وغير منحازين في حكمهم وتقييمهم للأمور العلمية، وفي الحالات القليلة التي يتسلل التحيز إليها، يتم مراقبة وتصحيح هذا التحيز من قِبَل المجتمع العلمي العالمي المتنوع.


(ملاحظة: هناك خطأ لغوي في الصورة هدئ من روعك وليس هدء (المدقق))
إذًن فالعلم يعتمد على التعددية، فلو كان جميع العلماء مثل بعضهم البعض لكانت الجدليات العلمية نادرة، وبالطبع لكان التقدم العلمي المنجز نادرًا أيضًا.

فبالرغم من تنوعهم واختلافاتهم، إلا أن العلماء جميعهم ينتمون إلى المجتمع العلمي العالمي، وكلٌّ منهم يساهم في المؤسسة والإرث العلمي بطُرُقٍ قيّمةٍ للغاية.


إعداد: الياس سعود
تدقيق بدر الفراك

تحرير : رغدة عاصي
المصدر 1

المصدر 2