الحلقة السادسة من سلسلة “فهم العلم”
آلية عمل العلم


يتم التعريف بالمنهج العلمي عادةً في الفصل الأول من كتب العلوم المدرسية، ويتم عرض هذا المنهج كوصفةٍ بسيطةٍ للقيام بالتحقيقات العلمية.

ورغم وجود العديد من النقاط المفيدة المتجسدة ضمن هذا المنهج، إلا أنه قد يتم بسهولة الخطأ في تفسيره على أنه خطيٌّ وجامدٌ ككتب الطبخ:

اختر مشكلة ما من بين المشاكل المطروحة، قُم بالمراقبة، أدرِج بعض الأسئلة، اعط فرضية، ضعها في تجربة بدرجة حرارة تبلغ 350 درجة مئوية، وبعد 50 دقيقة ستحصل على استنتاج علمي في الفرن.

إن ذلك كان ليحصل لو كان العلم كالهامبرغر، إلا أن العلم معقد ولا يمكن تقليصه وحصره بوصفةٍ واحدة معلّبة مسبقًا.

يمكن تبسيط العملية الخطية لكيفية عمل العلم إلى خطوات معينة مع الحفاظ على المنطق الجوهري للعلم:

وهو اختبار الأفكار بالأدلة. ورغم ذلك، فإن هذا الطرح للمنهج العلمي مبسَّطٌ وجامدٌ لدرجةٍ تجعله يفشل في رسم صورةٍ دقيقة عن كيفية عمل العلم.

إلا أنه قادرٌ على وصف كيفية تلخيص العلم في أمور واقعيةٍ، عبر المقالات والكتب والمدوّنات، أكثر من قدرته على وصف كيفية عمل العلم.

يقول المنهج العلمي الخطي المبسط أن الدراسات العلمية تتبع وصفةً خطيةً غير متغيرة.

ولكن في الواقع فإن العلماء ينخرطون أثناء عملهم في نشاطات عديدة متنوعة وبطرقٍ عديدةٍ ومختلفة.

فغالبًا ما تتضمن التحقيقات العلمية تكرار ذات الخطوات عدة مرات لأخذ المعلومات الجديدة والأفكار بعين الحسبان.

يقول المنهج العلمي الخطي المبسط أن العلم يتم بواسطة علماء أفراد يعملون لوحدهم وفي بعزلة.

ولكن في الواقع يعتمد العلم على التفاعل ضمن المجتمع العلمي، حيث أن أجزاء مختلفة من عملية العلم يمكن أن تتم من قِبَل أشخاص مختلفين وفي أزمنةٍ مختلفة.

يوحي المنهج العلمي الخطي المبسط بأن العلم ليس لديه مجالٌ واسع للإبداع.

ولكن في الواقع فإن ممارسة العلم هي ديناميكية مثيرة للحماس ولا يمكن التنبؤ بها.

فالعلم يعتمد على أشخاص مبدعين يفكرون خارج الصندوق.

يوحي المنهج العلمي الخطي المبسط بأن العلم يحسم الأمور بشكلٍ نهائي ومطلق.

ولكن في الواقع فإن النتائج التي يحصل عليها العلم تكون دائمًا قابلة للمراجعة إن تطلبت الأدلة ذلك، فالتحقيقات العلمية غالبًا ما تكون مستمرّة، حيث أنها تطرح أسئلة جديدة حتى أثناء الإجابة عن أسئلةٍ قديمة.

العملية الحقيقية للعلم:

العملية التي يمر بها العلم، كما تم تقديمها هنا، هي معاكسة تمامًا لافتراض “كتاب الطبخ والوصفات” العلمية.

إن عملية العلم هي تكرارية وتقاربية وترابطية:

يقوم العلم بالعودة إلى نفسه لكي يتم البناء على الأفكار المفيدة واستخدامها لتعلم ومعرفة المزيد عن العالم الطبيعي.

يمكن أن يقودنا، في كثير من الأحيان، التحقيق المتكرر والمتتالي في موضوعٍ ما إلى السؤال ذاته، لكن بدرجة أعمق بكثير وأكثر تعقيدًا.

فلنبدأ بالسؤال الأساسي المتعلق بكيفية عمل الوراثة البيولوجية. في منتصف القرن التاسع عشر، أظهر جريجور مندل أن الوراثة تكون مجزأة، أي أن المعلومات يتم تمريرها في حزم منفصلة لا يمكن الانتقاص منها.

في بدايات القرن العشرين، ساعد والتر ساتون وثيودور بوفري وآخرون في إظهار أن الجزئيات الوراثية هذه، والتي تعرف اليوم بالجينات، تتواجد في الكروموسومات.

بالإضافة إلى أن تجارب فريدريك جريفيث وأوزوالد أيفري وكثيرون غيرهم أوضحت وأكدت هذه النتيجة ووسعتها حيث أنها استنتجت أن الحمض النووي DNA في الكروموسومات هو الذي يحمل المعلومات الوراثية.

ثم في عام 1953، وفر كل من جيمز واتسن وفرانسيس كريك، أيضًا بمساعدة كثيرين غيرهم، فهمًا أكثر تفصيلًا للوراثة برسم البنية الجزيئية للحمض النووي DNA.

لاحقًا في ستينات القرن الماضي، قام كل من مارشال نيرنبيرغ وهينريش ماتهاي وآخرون بالبناء على هذا العمل ليكشفو الشيفرة الجزيئية التي تتيح للحمض النووي DNA ترميز البروتينات. والأمر لم يتوقف هنا، فقد تابع البيولوجيون تعميق وتوسيع فهمنا للجينات، كيف يُتَحَكَّم بها، وكيف يتم توريث أنماط التحكم هذه، بالإضافة لكيفية إنتاجها للصفات الفيزيولوجية والشكلية التي يتم نقلها من جيلٍ لآخر.

وهذا مجرّد مثال على كيفية طرح العلم لأسئلة أعمق وأعمق بشكلٍ مستمر ليوسع دائرة المعرفة.

إن عملية العلم هي ليست شيئًا محددًا مسبقًا:

تقود كلُّ نقطةٍ من العملية إلى عدة خطواتٍ تالية، وقد يكون المكان التي تقودنا هذه الخطوات التالية إليه مفاجئًا لنا.

على سبيل المثال، بدلًا من أن يؤدّْي بنا إلى استنتاجات حول الحركات التكتونية، فاختبار الأفكار حول الصفائح التكتونية يمكن أن يؤدي إلى مراقبة وملاحظة طبقة صخرية غير متوقعة.

وهذه الطبقة يمكن أن تقود إلى الاهتمام بالانقراضات البحرية، الذي بدورة يمكن أن يؤدي إلى أسئلة حول انقراض الديناصورات، الأمر الذي من شأنه أن يأخذ المحقق في الموضوع باتجاهٍ مختلفٍ كليًا.

يمكن في البداية أن تبدو هذه العملية معقدةً ومنهِكة، وحتى ضمن منظور تحقيق وحيد يمكن للعلم أن يتضمن مشاركة العديد من الأشخاص المختلفين المنخرطين في العديد من النشاطات المختلفة في ترتيب مختلف ونقاط زمنية متباينة.

إن العملية هي ديناميكية ومرنة وغنية ويصعب التنبؤ بها أكثر مما تصوره لنا الكتب والمقالات بكثير.

لكن لا داعي للهلع! فالعملية العلمية يمكن أن تكون معقدةً فعلًا، إلا أن التفاصيل هي أقل أهميةً من الصورة الكبيرة.


إعداد الياس سعود

تدقيق بدر الفراك
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث