ما هو الحمض النووي الخردة ؟ وما دوره في التطور؟ يساعدنا فويتشيك ماكلوسكي على إجابة هذه التساؤلات، وهو بروفيسور في علم البيولوجيا في جامعة بنسلفانيا وباحث في علم الجينات التطورية الحاسوبية.

تتألف بصمتنا الجينية من 3.42 مليار من النكليوتيدات الموجودة ضمن 23 زوجًا من الكروموسومات الخطية. وتملك معظم جينومات الثدييات حجومًا متماثلة، فهي 3.45 مليار عند الفئران ولدى 2.9 مليار لدى الجرذان، أما البقرة فتملك 3.65 مليار نكليوتيد، وتشفر جينوماتها عددًا مماثلًا من الجينات التي يرمز لها جينومنا البشري وذلك في 35000 جين.

توجد بعض الحالات الاستثنائية بالتأكيد، فالخفاش منحني الأجنحة يملك جينومًا صغيرًا نسبيًا مكون من 1.69 مليار نكليوتيد، بينما يملك فأر السهول جينومًا كبيرًا مكونًا من 8.21 مليار نكليوتيد. ونلاحظ أكبر التباينات في حجوم الجينوم بين الفقاريات عند الأسماك، إذ يحوي جينوم سمك الينفوخ النهري 0.34 مليار نكليوتيد فقط، بينما يضم جينوم سمك الرخامي ما يقارب 130 مليار نكليوتيد. من المثير للاهتمام أن جميع الحيوانات تملك فائضًا ضخمًا من الحمض النووي الذي لا يرمز لأي من البروتينات اللازمة لبناء الجسم أو تحفيز التفاعلات الكيميائية داخل الخلايا. فمثلًا يرمز 2% فقط من الحمض النووي لدى الإنسان بروتينات.

حيرت هذه الظاهرة العلماء عقودًا، وذلك لعدم وجود وظيفة واضحة لهذه الأجزاء غير المرمزة لبروتينات من الجينوم، فعُدّت عديمة الفائدة وأطلق عليها اسم (الحمض النووي الأناني) الموجود من أجل نفسه فقط دون المساهمة في سلامة العضوية.

أطلق عالم الوراثة الراحل سوسومو أوهنو مصطلح الحمض النووي الخردة على أقسام الجينوم غير المرمِّزة، ويتألف معظمها من أجزاء مكررة ومبعثرة عشوائيًا عبر الجينوم.

تأتي هذه الأجزاء عادة من تحرك أجزاء الحمض النووي أو انتقالها إلى مواضع مختلفة عبر الجينوم. بالنتيجة ستمتلك معظم هذه الأجزاء عدة نسخ من الجينات القافزة، وهي عبارة عن تتاليات تنقل نفسها من موضعها في الجينوم إلى موضع آخر في الجينوم نفسه.

إن استخدام العناصر لآليات النسخ للتحرك حول الجينوم يزيد من كمية المادة الجينية، في حالة عناصر القص واللصق تكون العملية أبطأ وأكثر تعقيدًا، وتتضمن آلية لإصلاح الحمض النووي. ومع ذلك، إذا حدث نشاط الجينات القافزة في الخلايا المنتجة للبيوض أو النطاف، فسيكون لهذه الجينات فرصة في أن تشكل مجموعة كبيرة وتزيد حجم الجينوم.

ومع أن مصطلح الحمض النووي الخردة جذاب، فإنه يجعل العلماء يتجنبون دراسة المادة الوراثية غير المرمزة للبروتينات، فمن يرغب في دراسة القمامة الجينية؟

لكن لحسن الحظ، يوجد بعض الباحثين الذين يدرسون المواضيع غير الشهيرة. وبفضلهم، بدأت تتغير طريقة النظر إلى دي إن إيه الخردة في بداية التسعينيات من القرن العشرين، وبالتحديد العناصر المكررة فيه.

في الواقع، يعد الكثير من علماء البيولوجيا الآن هذه العناصر المكررة كنوزًا جينية. فقد تبين أن هذه العناصر المتنقلة ليست عديمة الفائدة بالنسبة إلى الحمض النووي، إذ تتفاعل مع البيئة الجينية المحيطة وتزيد من قدرة العضوية على التطور، فهي تمثل مواقعًا هامة للتأشيب، وتعطي أيضًا إشارات لتنظيم التعبير الجيني.

تعد الجينومات بنى ديناميكية؛ إذ تظهر فيها عناصر وظيفية جديدة وتنقرض منها القديمة، ما يعني أنه من الممكن أن يتطور الحمض النووي الخردة ويصبح حمض نووي وظيفي.

استخدم كل من عالم البيولوجيا التطورية الراحل ستيفن جاي جولد وعالمة الأحفوريات إليزابيث فربا العاملين في جامعة ييل مصطلح التكيف المسبق (exaptation) لتفسير كيف يمكن للمكونات الجينية أن تأخذ أدوارًا جديدة بغض النظر عن وظيفتها الأصلية، حتى لو لم يكن لها أي وظيفة على الإطلاق.

في الواقع، تُكتشَف عناصر جينومية جديدة يوميًا، حتى في الجينوم البشري بعد خمس سنوات من سلسلته الكاملة. اكتشف عالم الأحياء التنموية جيل بيجيرانو الأستاذ في جامعة ستانفورد حاليًا الذي كان زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا سانتا كروز أنه في أثناء تطور الفقاريات، ظهر جين قافز عكسي جديد (وهو جزء من الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين نُسِخ عكسيًا من الحمض النووي الريبي وبإمكانه أن يدخل نفسه في أي مكان في الجينوم) تكيف مسبقًا ليعمل بوصفه محفزًا (أي إشارة تزيد من انتساخ الجين). من ناحية أخرى، قد تصبح التسلسلات المجهولة غير المرمزة في أحد الكائنات اكسون في كائن حي آخر، والمقصود به قسم من الحمض النووي يُنسَخ في النهاية إلى رنا مرسال، أظهرت إيزابيلا ماكالوسكا من جامعة ولاية بنسلفانيا حديثًا أن هذه الآلية غالبًا ما تشير إلى ميزة أخرى مثيرة للاهتمام في جينومات الفقاريات، وهي الجينات المتداخلة، أي الجينات التي تشترك مع بعضها في بعض النيوكليوتيدات.

يوضح هذا المثال وغيره أن هذه العناصر المكررة ليست خردة بل مكونات هامة وأساسية في جينومات حقيقيات النوى. ونستطيع القول أن التطور أكثر حكمة من أن يضيع مثل هذه المعلومات القيمة!

اقرأ أيضًا:

التعبير الجيني

لغزٌ جديدٌ بانتظارنا.. يمكن أن يكون لدى الإنسان 20% أقل ممّا توقعنا من الجينات المُشَفِّرة

ترجمة: تيماء الخطيب

تدقيق: طارق طويل

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر