بدأت القصة قديمًا من مليارات السنين حين لم يوجد سوى الكيمياء ولا وجود للبيولوجيا أو الحياة بعد. أي وُجِدت الكثير من المركبات الكيميائية على الأرض، لكن الحياة لم تكن قد انبعثت فيها بعد. ثم، ومن بين الأعداد التي لا تحصى من البنى الكيميائية التي جمعت نفسها، جزيئة الحمض النووي الريبوزي (رنا) وحدها التي كانت مناسبة بل مثالية لتشكيل روابط بين الحموض الأمينية الفعالة التي تشكل حجر البناء للبروتينات المستقبلية.

إنها نقطة تحول في تاريخ كوكبنا، فمعها أصبح اصطناع البروتينات بوصفها الجزيئات الكيميائية الرئيسية للحياة ممكنًا. تعتقد البروفيسورة آدا يوناث وفريقها في معهد فيتسمان للعلوم أنهم استطاعوا إعادة هذه اللحظة مرة أخرى في مختبرهم، ليعرفوا كيف أمكن أن تحدث. واكتشفوا أن آلة تشكيل الروابط الببتيدية البدائية هذه موجودة في كل خلية من خلايا الكائنات الحية من الجراثيم للنباتات والحيوانات ومن ضمنهم نحن البشر.

يستند مشروع الفريق إلى نظرية منذ عشرين سنة بُنيت على نتيجة اكتشافات في مخبر البروفيسورة يوناث، إذ كانت تهدف لتحديد بنية ووظيفة الريبوزوم وهو البحث الذي نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 2009 لاحقًا. يؤدي الريبوزوم العملية الرئيسية للحياة وهي اصطناع البروتينات بناء على المعلومات القادمة من الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين (دنا).

تقول الدكتورة أنات باشان كبيرة فريق العلماء في مختبر يوناث في قسم البيولوجيا البنيوية والكيميائية في معهد فيتسمان: «اكتشفنا سمة مفاجأة في بنية آلة صنع البروتين هذه، الريبوزوم هو جزيئة ضخمة غير متناظرة أبدًا، لكنها تمتلك في داخلها جزئين نصف متناظرين مترابطين مع بعضهما ويشكلان جيبًا … ما فاجأنا بالتحديد هو حقيقة أن هذا الجيب موجود في الريبوزومات لكل الكائنات الحية وهو المكان الذي تحصل داخله التفاعلات، أي أنه المكان الذي تتشكل فيه الروابط الببتيدية التي تشكل سلسلة من الأحماض الأمينية التي تشكل بروتينًا، ولهذا يبدو أن هذه الآلية الرئيسية استمرت بدون تغيير خلال التطور».

أطلق العلماء على هذه البنى الشبيهة بالجيب اسم طليعة الريبوزوم (protoribosome)، وافترضوا أن طليعة الريبوزوم هو سلف لكل الريبوزومات الحديثة، أي أنه آلة صنع البروتين القديمة التي تعود لزمن ما قبل بدء الحياة. وتعد طلائع الريبوزوم صغيرة مقارنة مع حجم الخلية. تتألف هذه البنية من جزيئة حمض نووي ريبوزي تحوي 120 نكليوتيدًا حوالي 60 لكل من مكوناته نصف المتناظرة، وهذا يشكل أقل من 5% من طول جزيئة الحمض النووي الريبوزي في الريبوزوم الحديث؛ فبعضها يصل إلى 4500 نكليوتيد لدى الجراثيم مقابل 6000 لدى الإنسان.

فيما يلي توضيح لكيفية حصول ذلك بحسب يوناث وفريقها:

نشأت طلائع الريبوزوم عندما تجمعت سلاسل من الحمض النووي الريبوزي مع بعضها بطريقة تشكل حاجزين نصف متناظرين ومغلقين مشكّلين جيبًا. لا بد أن كثيرًا من الجزيئات الأخرى جمعت نفسها في وقت مماثل، لكن طليعة الريبوزوم نجت وبقيت. يبدو أنها أصبحت فيروسية، لأنها قادرة على تأدية بعض الوظائف كذلك، إضافةً إلى قدرتها على أن تتضاعف بنفسها بفضل خصائص الحمض النووي الريبوزي الداخلية.

عندما يتفاعل حمضان أمينيان مفعّلان مع بعضهما داخل الجيب، تنشأ بينهما رابطة ويسهل ذلك الظروف الكيميائية السائدة في الجيب.

قد يكون منشأ هذه الحموض الأمينية الأرض، أو أنها وصلت إلى الأرض مع الكويكبات من القادمة من الفضاء الخارجي، لكن مصدرها غير ذي صلة بقصتنا هذه. ما يهم هو أنه داخل طليعة الريبوزوم، تمكن حمضان أمينيان مفعّلان أن يرتبطا مع بعضهما. لاحقًا، سيرتبط المزيد من الأحماض الأمينية وتضاف إلى السلسلة باستخدام نفس الرابطة.

كانت هذه بداية البروتينات التي يثبّت بعضها طلائع الريبوزومات ذات نفسها ويعزز عملها، تتابعت إضافة البروتينات لبنية طليعة الريبوزوم ما جعله يتطور لشكله الحالي الصانع للبروتين ذي الدقة العالية.

تقول يوناث: «بالوسع وصف الريبوزوم بشكله الحالي على أنه بصلة مركزها طليعة الريبوزوم ويحاط به عدة طبقات أضيفت خلال التطور».

مع الوقت، سيصبح إنتاج البروتين ذي فعالية كافية لتشكيل سلاسل من آلاف الأحماض الأمينية، وسينتج البروتين بناء على التعليمات المكتوبة في الشيفرات الجينية. تؤدي عشرات الآلاف من البروتينات الموجودة في جسم الإنسان وظائف مختلفة، مثل الهرمونات كالإنسولين، والأضداد في جهاز المناعة والمكونات البنيوية للخلايا والأنسجة كالهيموغلوبين أو الكولاجين الموجود في الجلد، جميعها بدأت بروابط قد تشكلت يومًا ما صدفةً داخل طليعة الريبوزوم.

دُعمت هذه النظرية بالحسابات والاستنتاجات وتجارب الثنائيات التي صمم فيها العلماء بنىً ثنائية الوحدات من الحمض النووي الريبوزي بطريقة تحاكي بنية طليعة الريبوزوم المقترحة. وكانت مبادئ النظرية هذه حتى وقت قريب نظريةً جدًا، والآن بفضل دراسة حديثة بقيادة زميلة ما بعد الدكتوراه تانيا بوز في مختبر يوناث، زوّد العلماء النظرية بدليل تجريبي.

تأكدت بوز وزملاؤها فيما إذا كانت طلائع الريبوزومات المصنعة مخبريًا ثابتة بما يكفي لتستمر ولتشكّل الروابط، أي أنهم أرادوا أن يعرفوا إن كانت قادرة على أداء هذه المهمة. صمّمت بوز وزملاؤها الآخرين في مختبر يوناث طليعة ريبوزوم محتملة عبر تحليل البنى المشابهة للجيب الموجودة لدى الكثير من ريبوزومات الجراثيم، ثم حضّرت بوز بنى هذه الطلائع في طبق مخبري.

من ثم نفذوا الخطوة الأكثر أهمية وهي التأكد من قدرة هذه البنى الثنائية الوحدات المشابهة للجيب على تشكيل الروابط بين الحموض الأمينية. بعد مزج البنى مع محلول يحوي ركازات الحموض الأمينية المفعلة والكثير من الأملاح والكواشف الأخرى، أجرت بوز مجموعة من الاختبارات على نواتج التفاعل منها التحليل بمطياف الكتلة.

كانت نتيجة التجربة مبهجة للفريق. إذ تمكنت طلائع الريبوزوم المصممة في المخبر من إنجاز المهمة. تقول بوز: «تشكيل الروابط بين الحموض الأمينية هو النشاط الأكثر حيوية وأساسية لأي خلية، وقد أثبتنا أنه من الممكن أن يحدث داخل طليعة الريبوزوم».

يقول باشان: «قد تكون طلائع الريبوزومات هذه الحلقة المفقودة بين عالم الحمض النووي الريبوزي -الذي من الممكن أنه وجد قبل ظهور البروتينات والحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين- والحياة المعتمدة على البروتينات والحموض النووية التي نعرفها الآن».

اقرأ أيضًا:

العلماء يقتربون من تحديد أصل الحياة على الأرض

ما أصل الحياة على كوكبنا؟ قد يكون تطور بروتينات معينة هو ما أدى لظهور الحياة

ترجمة: تيماء الخطيب

تدقيق: يوسف صلاح صابوني

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر