خططت فرنسا لاحتلال مصر في القرنين السابع والثامن عشر مرات عديدة، لكنَّ الهدف الرئيسي من الحملة الفرنسية التي أبحرت من ميناء طولون في مايو سنة 1798 تحت قيادة نابليون الأول كان متعلقًا بحربها مع بريطانيا. إذ لم يكن غزو إنجلترا أمرًا سهلًا على فرنسا لكن نابليون أراد أن يدمَّر احتلاله لمصر التجارة البريطانية ويهدد مستعمراتها في الهند ويمنح بلاده ورقة رابحة تساوم بها بريطانيا في أي تسوية سلمية مستقبلية.

أما مصر، فقد رأى أنها ستستعيد أمجادها الغابرة وازدهارها تحت حكم فرنسا الثورية والتقدمية. ولهذا رافقت القوات العسكرية والبحرية مجموعة من المفكرين والعلماء لدراسة ظروف البلاد الماضية والحاضرة.

نزل الفرنسيون في خليج أبي قير في 1 يوليو بعد إفلاتهم من الأسطول البريطاني بقيادة هوراشيو نيلسون في البحر الأبيض المتوسط، واستولوا على الإسكندرية في اليوم التالي. أكد نابليون للمصريين في منشور له باللغة العربية، أنه جاء صديقًا للإسلام والسلطان العثماني لمعاقبة المماليك المغتصبين وتحرير الناس. تحرك نابليون من الإسكندرية نحو القاهرة هازمًا في طريقه مراد بك في شبراخيت في 13 يوليو، ثم هزمه مجددًا هزيمة حاسمة في إمبابة قرب القاهرة في معركة إمبابة في 21 يوليو. هرب مراد إلى صعيد مصر في حين توجه زميله إبراهيم بك ومعه نائب السلطان العثماني إلى سوريا.

الحملة الفرنسية على مصر - الأسطول البريطاني بقيادة هوراشيو نيلسون في البحر الأبيض المتوسط - الاحتلال الفرنسي لمصر - السلطان العثماني

سعى نابليون بعد دخوله إلى القاهرة في 25 يوليو إلى استمالة الشعب خاصة رجال الدين من العلماء بالتأكيد على تعاطفه مع الإسلام وتأسيس مجالس «الدواوين» لتكون صلته مع الرأي العام المصري. لكن تحطُّم الأسطول الفرنسي في أبي قير على يد الأسطول الإنجليزي بقيادة نيلسون في معركة النيل في 1 أغسطس، قطع اتصالات نابليون مع فرنسا وجعل من الضروري له أن يعزز حكمه في مصر ويحقق الاكتفاء الذاتي لحملته قدر المستطاع. وهنا جاء دور العلماء الفرنسيين الذين جاؤوا مع حملته ضمن ما أُطلِق عليه اسم «المجمع العلمي المصري».

بدأ المصريون في تلك الأثناء يضيقون ذرعًا بالحكم الأجنبي والتعديلات الإدارية والعبء المالي للاحتلال العسكري الذي تفاقم بعد أن أعلن السلطان العثماني سليم الثالث الذي حكم بين عامي (1789-1807) الحرب على فرنسا في 11 سبتمبر. ثم قامت ثورة غير متوقعة في القاهرة في 21 أكتوبر، نجح الفرنسيون في قمعها بعد قصف مدفعي قضى على أي أمل في التعايش السلمي بين الفرنسيين والمصريين.

كانت سوريا العثمانية تحت حكم والي عكا أحمد الجزار، نقطة الانطلاق لأي هجوم مُحتَمل ضد الوجود الفرنسي في مصر، فقرر نابليون أن ينتزعها من أعدائه بإرسال قوة غزو فرنسية عبرت الحدود في فبراير 1799 لكنها فشلت بالاستيلاء على عكا بعد حصار مطوِّل امتد من 19 مارس حتى 20 مايو، انسحب نابليون على إثره من المناطق السورية. وصلت قوات بحرية عثمانية إلى ميناء أي قير في يوليو لكنها فشلت بالاحتفاظ بسيطرتها على الميناء. وقرر نابليون في تلك المرحلة العودة إلى فرنسا، واستطاع الإفلات من الأسطول الإنجليزي في 22 أغسطس.

خلَف نابليون في القيادة الجنرال «جان باتيست كليبر» الذي كان متشائمًا في نظرته إلى وضع الحملة الفرنسية وتمنى مثل كثير من الجنود الفرنسيين العودة إلى حربهم في أوروبا. فدخل في مفاوضات مع العثمانيين ووافق بتوقيعه على اتفاقية العريش في 24 يناير 1800 على الخروج من مصر. رعى هذه الاتفاقية السير «سيدني سميث» قائد البحرية البريطانية في شرق البحر المتوسط، لكنه بذلك كان قد تجاوز صلاحياته فأمره رئيسه الأدميرال اللورد كيث بأن يطلب من الفرنسيين الاستسلام بوصفهم أسرى حرب.

ومع أن العثمانيين كانوا على وشك استعادة سيطرتهم على مصر بموجب الاتفاقية، فقد رفض كليبر والفرنسيون الاستسلام وصمموا على المقاومة وهزموا القوات التركية في معركة هليوبوليس في 20 مارس. اندلع تمرد ثان في القاهرة ساهم الفارون من الجيش العثماني في إذكائه ودام شهرًا، حتى استطاع الفرنسيون إخماده. ولم تكد السلطات الفرنسية تُحكِم سيطرتها على مصر حتى اغتيل كليبر على يد رجل سوري يدعى سليمان الحلبي في 14 يونيو.

بعد كليبر، حكم مصر «عبد الله جاك مينو» وهو ضابط فرنسي ونبيل سابق اعتنق الإسلام، وقد أصر على بقاء الاحتلال الفرنسي لمصر ونجح في البداية في إدارة الدولة والحفاظ على استقرارها رغم افتقاره لهيبة سلفَيه. تعرضت مصر سنة 1801 لغزو ثلاثي، فوصلت قوات بريطانية ميناء أبي قير في مارس، بينما زحف العثمانيون إليها من سوريا، وتبعتهم بعدها بفترة قصيرة قوات هندية بريطانية وصلت ميناء قصير على البحر الأحمر. استسلمت الحامية الفرنسية في القاهرة في يونيو، أما مينو فقد استسلم في سبتمبر وهو في الإسكندرية.

كان لاحتلال فرنسا القصير لمصر أهمية كبيرة من عدة نواح، فقد ساهم وصول المفكرين والعلماء مع الحملة الفرنسية ببدء التأثُّر المصري بالغرب الذي ظهرت آثاره جلية في وقت لاحق. ولم تعد مصر منعزلة كما كانت تحت حكم المماليك والسلاطين العثمانيين، وأصبحت هدفًا ومطمعًا لسياسات كل من فرنسا وبريطانيا التنافسية وجزءًا من «المسألة الشرقية».

ورغم أن علماء نابليون لم ينجحوا في مهمتهم في تعليم رجال الدين المصريين التقليديين عن الحضارة الغربية، فقد نجحوا في تعليم أوروبا عن مصر. إذ كان لهم الفضل باكتشاف حجر رشيد الذي نُقِش عليه نص بثلاث لغات، سهَّل فك رموز اللغة الهيروغليفية وقاد لاحقًا إلى تأسيس علم المصريات الحديث. وجُمِعَت دراسات علماء الحملة الفرنسية وكتاباتهم عن مصر في مجلد «وصف مصر» الذي نُشِر على أجزاء بين أعوام 1809 و1828 في باريس.

كانت إحدى النتائج المباشرة للحملة الفرنسية هي تأثيرها في سياسات مصر الداخلية، فضعف حكم المماليك كثيرًا خاصة أن مراد بك الذي وقع اتفاقية السلام مع الفرنسيين، توفي قبل استسلامهم بفترة قصيرة سنة 1801. وعاد إبراهيم بك إلى مصر مع العثمانيين، حيث تمتَّع بنفوذ محدود. أما قادة المماليك الجدد عثمان بك البرديسي الذي توفي سنة 1806 ومحمد بك الألفي الذي توفي سنة 1807، فقد كانا خادمين سابقين لمراد بك وقادا فصائل متناحرة واضطرا للتعايش مع الحكمين العثماني والبريطاني للبلاد.

وفي مارس سنة 1803، اضطر البريطانيون لسحب قواتهم من مصر بموجب معاهدة أميان، أما العثمانيون فقد أصروا على توطيد حكمهم في مصر بتعيين نائب للسلطان العثماني في مصر وإرسال جيش احتلال كانت أقوى كتائبه القتالية هي «الكتيبة الألبانية». تصرف الألبانيون بوصفهم حزبًا مستقلًا، وفي مايو سنة 1803 تمردوا وعينوا قائدهم نائبًا للسلطان العثماني، لكن قائدهم اغتيل بعد ذلك بفترة قصيرة، وانتقلت قيادة الكتيبة الألبانية إلى زميله محمد علي الذي وطَّد حكمه بحذر في أول سنتين من حكمه على حساب كل من العثمانيين والمماليك، ليحكم مصر بين عامي (1805-1849).

اقرأ أيضًا:

دراسة للحمض النووي تكشف التاريخ المروع لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي

نابليون بونابرت

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: حسام التهامي

مراجعة: وئام سليمان

المصدر