يمكن للحواسب الكمية – كما يبدو- أن تغير العالم، ومن المؤسف أنها محيرة جدًا، وفي هذا المقال التمهيدي، سيُزال بعض الغموض المحيط بهذا الموضوع؛ لنضعك في الاتجاه الصحيح؛ لاكتشاف هذا العلم.

ما هي الحوسبة الكمّية؟

تعمل الحواسيب العادية وفق القوانين الصارمة للمنطق، ولكن الجسيمات الكمومية كالإلكترونات والفوتونات، يمكن أن تخترق هذه القوانين.

والحوسبة الكمّية، ما هي إلا فكرة إمكانية استخدامنا لعملية الاختراق الكمية لهذه القوانين؛ لمعالجة المعلومات بطريقةٍ جديدةٍ، وهي طريقةٌ مختلفةٌ تمامًا عن طريقة عمل الحواسيب العادية، وهذا ما يجعلها في بعض الحالات، أسرع بشكلٍ كبيرٍ جدًا من الحواسيب العادية، فمثلًا: يمكن لحاسب كمّي واحدٍ أن يخترق بسهولةٍ، الرموز البرمجية التي تحافظ على أمن الخدمات المصرفية عبر الإنترنت.

هل هذا يجعلها مثل أجهزة الكومبيوتر العملاقة؟

بالطبع ليس تمامًا، فالحاسوب الكمّي ليس فقط حاسوبٌ سريعٌ، فهناك بعض العمليات، مثل حساب العوامل الأولية لأرقامٍ كبيرةٍ جدًا، والتي سيكون الحاسوب الكمّي مدهشًا بأدائها، وسيكون الحاسوب الكّمي لمعظم الوظائف أسرع بقليلٍ من الحاسوب العادي.

إذًا لماذا يمكن استخدام الحاسوب الكمّي؟

إنه من المرجح إمكانية إفادتها للوكالات الحكومية، وشركات البحث والتطوير، والجامعات، في حل القضايا التي تواجه الحواسيب الحالية صعوبةً في حلها.

والفكرة العملية الأولى، التي اقترحها عالم الفيزياء ريتشارد فينمان عام 1981م، هي استخدام الحواسيب الكمية لمحاكاة ميكانيكا الكم، مما سيؤثر على الكيمياء، وعلم الأحياء، إذ يمكن لعلماء الكيمياء أن يضعوا نموذجًا دقيقًا لطريقة تفاعل المواد الكيميائية، والدوائية مع بعضها بعضًا، ويمكن لعلماء الأحياء دراسة كل الطرق الممكنة لتشكل، وتفاعل البروتينات مع بعضها بعضًا.

وفي حين كانت الحوسبة الكمية سابقًا مجرد فضولٍ أكاديميٍ، توسع الاهتمام بها بشكلٍ كبيرٍ عام 1994م، عندما وجد عالم الرياضيات الأمريكي بيتر شور، طريقةً لاستخدام الحواسيب الكمية لاختراق الرموز البرمجية.

وفي الوقت الحالي، تعمل العديد من أنظمة الحماية على شبكة الإنترنت اعتمادًا على مبدأ كون عملية أخذ رقمٍ كبيرٍ جدًا، ويعد استخراج عوامله الأولية أمرًا شبه مستحيل، وكل ما يمكن لحاسوبٍ عاديٍ فعله، هو تجريب كل احتمالٍ ممكنٍ واحدٍ تلو الآخر، وهو أمرٌ يمكن أن يتطلب المليارات من السنين، وباستخدام خوارزمية شور، يستطيع الحاسوب الكمّي أن يحل هذه المسائلة في بضع ساعات.

ويمكن للحواسيب الكمّية أن تقدم أداءً رائعًا في التعرف على الأنماط ضمن مجموعةٍ من المعطيات، وهو أمرٌ مفيدٌ في مسائل التعلم الآلي، كالقدرة على التعرف على أجسامٍ مختلفةٍ في صورةٍ ما، بالإضافة إلى قدرتها على بناء نماذج لتوقع المستقبل، كالتنبؤات الجوية على مدى طويل.

وفي النهاية، لا يمكن التنبؤ بالتطبيقات التي يمكن استخدام الحوسبة الكمية فيها، ويمكن –على سبيل المثال- أخذ قول توماس واتسون، رئيس شركة (IBM) في عام 1943م، الذي مفاده: “أظن أن هناك سوقًا عالميًا لخمسة أجهزة كومبيوتر”، والآن هناك خمسة أجهزة في كل منزل، وإذا أخذنا ما سبق كدليل، سنجد أننا لم نتصور بعد استخدامات الحواسب الكمية.

كيف تعمل الحوسبة الكمية؟

تعتمد الحواسيب العادية على البتات – يمكن تخيلها قواطع صغيرة تشير إلى (0) أو (1)-، وتعتمد الحوسبة الكمية على البتات الكمية، أو ما يسمى بـ (الكيوبت- qubit)، وهي التي يمكن أن تشير أيضًا إلى الصفر أو الواحد، والأمر الغريب حقًا، هو قدرة الكيوبت على تحقيق حالةٍ مختلطةٍ، تدعى بـ: (التراكب – superposition)، إذ تكون (1) و(0) في الوقت نفسه، ويمثل هذا الغموض – أي القدرة على أن تكون ولا تكون – المفتاح الرئيس لقدرات الحوسبة الكمية.

كيف تساعد عملية التراكب؟

يكمن الاختلاف الأساسي بين الحواسيب العادية والحواسيب الكمية، في طريقة التعامل مع مسألةٍ معينةٍ، ويحاول الكومبيوتر العادي حل مشكلةٍ ما بالأسلوب نفسه الذي ممكن أن تتبعه في الهروب من متاهة – وهو محاولة كل طريق ممكن، حتى تصل في النهاية إلى مخرج المتاهة-، بيد أن عملية التراكب للحاسوب الكمي تسمح بالعمل على جميع الطرق الممكنة في آنٍ واحدٍ، وبكلمةٍ أخرى إيجاد الطريق المختصر.

ويمكن لاثنين من البتات في حاسوبك الشخصي أن يكونا في أربع حالات، وهي: (00، 01، 10، 11) ولكن حالة واحدة فقط في أي لحظةٍ من الزمن، مما يؤدي إلى حد قدرة الحاسوب بمعالجة دخلٍ واحدٍ في كل لحظةٍ، مثل: محاولة إيجاد طريقٍ واحدٍ في المتاهة.

وفي الحاسوب الكمي، يمكن لاثنين من البتات الكمية أيضًا أن يأخذا الحالات الأربعة نفسها (00، 01، 10، 11)، ولكن الاختلاف هو وبسبب عملية التراكب، قدرة البتين الكميين على تمثيل الحالات الأربعة في اللحظة نفسها، وهذا مشابهٌ قليلًا لوجود أربعة حواسيب عادية تعمل بجانب بعضها بعضًا.

وإذا قمت بإضافة بتاتٍ أخرى للحاسوب العادي، سيبقى قادرًا على التعامل مع حالةٍ واحدةٍ في كل لحظةٍ، ولكن عند إضافة بتاتٍ كميةٍ، تزداد قدرة حاسوبك الكمي بشكلٍ أُسّي، ويمكن التعبير عن ذلك بشكلٍ رياضيٍ بالقول إنه في حال كان لديك بتات كمية عددها (n) فستستطيع في اللحظة نفسها تمثيل( 2n) حالة، إنها مثل تلك الأسطورة القديمة عن شخصٍ هنديٍ يدعى سيسا، وهو الذي اخترع لعبة الشطرنج، فكان الملك سعيدًا باللعبة، وطلب من سيسا أن يذكر الجائزة التي يريدها كمكافأةٍ له، فطلب سيسا بشكلٍ متواضعٍ رقعة شطرنجٍ واحدةٍ مع حبة قمحٍ واحدةٍ على المربع الأول، وحبتين على المربع الثاني، وأربع حبات على المربع الثالث وهكذا، وافق الملك مباشرةً، ومن دون إدراكه أنه وعد بكمية قمحٍ تفوق ما هو موجودٌ على الأرض كلها، وهذه هي قوة النمو الأسي.

وبشكلٍ مشابهٍ لمضاعفة كمية القمح في كل مربعٍ، يضاعف كل بتٍ كمٍي إضافيٍ قوة المعالجة، إذ تعطي ثلاثة بتاتٍ كمّيةٍ (23)، وهي ثمان حالاتٍ في اللحظة نفسها، تعطي أربع بتات كمية ((24، وهي: (16)، و(64) بتًا كميًا؟ تعطي (264)، وهي: (18,446,744,073,709,600,000) حالة ممكنة! وهذا حوالي مليون تيرا بايت.

وفي حين يمثل 64 بتًا اعتياديًا هذا الرقم الهائل (264) من الحالات، فهي قادرةٌ على تمثيل الرقم الواحد في كل لحظة، للمرور على كل هذه الحالات الممكنة، بسرعة ملياري حالة في الثانية، وهي السرعة العادية للحواسيب الحديثة، وسيتطلب الأمر حوالي 400 سنة.

ويعني هذا كله أن الحواسيب الكمية قادرةٌ على حل مسائل قد تكون شبه مستحيلة للحواسيب العادية، ولكن للحصول على النمو الأسي في السرعة، يجب ربط جميع البتات الكمية بعمليةٍ تسمى التشابك الكمي، وهذه الظاهرة الغريبة، والتي أطلق عليها أينشتاين اسم العمل المخيف على بعد مسافة، قادرةٌ على ربط الجزئيات الكمية حتى لو كانت على طرفين مختلفين من الكون.

مما يتكون البت الكمّي أو الكيوبت؟

تحتاج لصنع بتٍ كمّي، جسمًا قادرًا على أخذ حالةٍ من التراكب الكمّي بين حالتين، إن نواة الذرة هي أحد أنواع البت الكمي، إن جهة اللحظة المغناطيسية – دورانها- يمكن أن يشير إلى اتجاهاٍت مختلفةٍ، لنقلٍ نحو الأعلى، والأسفل بالنسبة لحقلٍ مغناطيسيٍ آخر، ويكمن التحدي في وضع هذه الذرة الوحيدة في مكانها، ثم التخاطب معها.

وقام فريقٌ استراليٌ بقيادة مايكل سيمونز في جامعة نيو ساوث ويلز، بصنع بت كمي عن طريق وضع ذرة فسفور واحدةٍ في موضعٍ معروف داخل كريستالة سليكون.

وأما الفكرة الأخرى فهي إخراج إلكترونٍ من الذرة مما يحولها إلى ذرةٍ مشحونةٍ أو أيون، عندها يمكنك استخدام الحقول الكهرومغناطيسية لتعليق الأيون في الفضاء، وتغيير حالته عن طريق إطلاق شعاعٍ من الليزر باتجاهه، وهذا ما يشكل حاسوبًا كميًا تحت اسم (أيونٍ محتجزٍ)، مثل الذي يتم تطويره في معهد ماساتشوستش للتكنولوجيا.

ويمكن لتيارٍ يمر في حلقةٍ من معدنٍ ذو ناقلةٍ فائقةٍ أن يكون أيضًا في حالة تراكبٍ بين دورانٍ بجهة عقارب الساعة، ودورانٍ عكس عقارب الساعة، وبشكلٍ مشابهٍ قليلًا لبساطٍ متحركٍ يدور إلى الأمام والخلف في الوقت نفسه، وتبني الشركة الكندية دي-ويف تكنولوجيا الحوسبة الكمية الخاصة بها اعتمادًا على هذه الفكرة المسماة بالبتات الكمية ذو خاصية التدفق، وتشمل قائمة زبائنها شركة لوكهيد مارتن، ووكالة ناسا، وشركة غوغل.

ويمكن لفوتون ضوئيٍ أن يكون في حالة تراكبٍ بالنسبة لجهة انتشار موجته، وتعمل بعض المجموعات مثل جامعة بريستول في المملكة المتحدة على تجميع دارات كمية عن طريق إرسال فوتونات في متاهةٍ من الألياف الضوئية، والمرايا.

كيف يمكن تشكيل حالة التراكب؟

هل سبق لك أن حاولت موازنة قطعةٍ من النقود على حافتها؟ إن برمجة بت كمي أمر مشابه لذلك، ويتضمن ذلك القيام بأمرٍ ما للبت الكمي حتى ينتهي به الأمر متوازنًا بين حالتين.

وفي حالة النواة الذرية، قد يتم ذلك عن طريق تعريضها لحقلٍ كهربائيٍ أو مغناطيسيٍ، مما يتركها باحتماليةٍ متساويةٍ لتدور بجهةٍ ما أو عكسها.

كيف يمكننا قراءة المعلومات من البتات الكمية؟

هناك هالة من الغموض تحيط بما يحدث عند القيام بالحسابات الكمية، ويصف الفيزيائيون البتات الكمية بانخراطها بنوعٍ من جلسة تحضير الأرواح مع عوالم موازية لاستحضار الجواب، وهذا ليس سحرًا، إنه فقط ميكانيكا الكم.

ولنقل أنك قمت بتشغيل حاسوبك الكمي ذو الـ (64) بتًا كميًا للمرة الأولى، ستقوم وقتها بوضع كل البتات الكمية الـ (64) في حالةٍ من التراكب، مثل وضع (64) قطعةً من النقود بشكلٍ متوازنٍ على حافتها، ومع بعضها البعض، ويمكنها أن تمثل (264) حالةً ممكنةً في حالةٍ من عدم اليقين، وأنت تعرف أن إحدى هذه الحالات تمثل الجواب الصحيح، ولكن أي منها؟
تكمن المشكلة في أن قراءة قيمة البتات الكمية تسبب انهيار حالة التراكب، مثل أن تقوم بضرب قبضتك بالطاولة التي عليها كل تلك القطع من النقود المتوازنة، هنا تصبح كل خوارزمية كمية مفيدة مثل خوارزمية شور، إذ تقوم بتحميل البتات الكمية، وتصبح أكثر قابليةٍ للسقوط على الجهة المطلوبة، وتعطينا الجواب الصحيح.

ومع ذلك لا زلت لم أفهم الأمر، إذ كيف تقوم البتات الكمية بتحليل الرقم إلى عوامله؟ أين تحدث بقية الحسابات؟
سنعترف أننا نقوم بتجاوز بعض التفاصيل هنا، وللمزيد منها يمكن زيارة الرابط .

إنه مما يمكن فهمه مما سبق أن الحاسوب الكمي ليس كميًا بشكلٍ كاملٍ، ولا تزال تحتاج العديد من المكونات الإلكترونية للقيام بمعظم الأعمال الأساسية.

هل تم بناء أي حاسوب كمي حتى الآن؟

على الأغلب أنه ليس بعد، فلا يزال العمل في المرحلة البحثية، ويميل العلماء إلى التكلم عن تجميع مجموعة من البتات الكمية بحماسةٍ مفرطةٍ، وفي حزيران من عام 2016م، – على سبيل المثال-، احتفلت مجلة نيتشر بإنجاز حاسوب كمي تم تطويره من قبل باحثين في شركة غوغل.

وتترأس شركة دي- ويف العمل في هذا المجال، إذ تدعي بنائها حاسوبًا كميًا بحجمٍ كبيرٍ يصل إلى (1024) حلقةً ذات ناقلة فائقة؛ لتشكل البتات الكمية، ويبدو أن النظام يقدم عمل جيدًا في مسائل إيجاد حلٍ أفضل، مثل تنظيم مواعيد خطوط الطيران لزيادة الربح الناتج عن قافلةٍ صغيرةٍ من الطيارات، ولكن لا يزال العديد من الفيزيائيين يشككون في أن شركة دي- ويف قامت ببناء حاسوب كمي حقيقي.

ما الذي يقف في طريقنا؟ لماذا يعد بناء حاسوب كمي أمرًا صعبًا جدًا؟
بالرغم من أننا نعرف نظريًا كيف يبدو الحاسوب الكمي، إلا أن هناك تحديات على جميع المستويات، بدءًا من تجميع البتات الكمية، إلى قراءة وكتابة المعلومات عليها، إلى نقل المعلومات من دون أن تختفي في سحابةٍ من عدم اليقين.

إن البت الكمي هو العنصر الأكثر حساسية في هذه العملية، وفي حين قد تطالب ممثلةٌ صاعدةٌ في هوليوود بغرفة تبديل ملابس كبيرة، وحوض استحمام مليء بالورود، يتطلب بت كمي عزل تام، ودرجة حرارةٍ ثابتةٍ على مئة درجة فوق الصفر المطلق، وقد يسبب أي اهتزازٍ بسيطٍ في الذرة المجاورة نوبة غضبٍ كمية في البت الكمي، مما يفقده حالة التراكب.

وتكمن الصعوبة الكبيرة في كيفية المحافظة على هذه الحالة الحساسة من التراكب والتشابك لمدة زمنيةٍ كافيةٍ للقيام بالحسابات، وتعرف هذه المدة الزمنية باسم زمن التجانس.

والحقيقة هي أننا لا نعلم كم يلزمنا من الوقت حتى نستطيع بناء الشروط المحيطة التي يطلبها البت الكمي، بل أيضًا لا نعلم إذا ما كان هذا الأمر ممكنًا، وبالرغم من هذا التحدي الشاق، أصبح السباق لبناء أول حاسوب كمي عملي واحدًا من أهم التحديات العلمية الكبرى في زمننا الحالي، والذي يتضمن الآلاف من الفيزيائيين والمهندسين في العشرات من معاهد الأبحاث الموزعة حول العالم.


إعداد: مازن ملص
تدقيق: رجاء العطاونة
تحرير: سهى يازجي
المصدر