طورت أثينا نظامًا كفل لكل مواطن حق التصويت في البرلمان. في أواخر القرن السادس ق.م، بدأت أثينا إرساء أسس نظامها السياسي الجديد نوعًا ما، «ديموكراتيا» كما أصبح معروفًا. أعطى ذلك النظام القوة السياسية لمواطني أثينا الأحرار من الرجال، عوضًا عن الطبقة الأرستقراطية الحاكمة، أو الحاكم المطلق «الدكتاتور»، الذي كان الأساس في أثينا عدة مئات من السنين.

تُعد الديموقراطية الأثينية أحد أقدم نماذج الديموقراطية، إذ استمرت حتى عام 322 ق.م. ومع أن دراسات حديثة اعتبرت وجهة النظر الأوروبية بشأن كونها الديموقراطية الأولى، فإن هذا النظام السياسي القديم كان مؤثرًا للغاية في منطقة البحر المتوسط، وألهم أنظمةً سياسية مشابهة في مدن يونانية أخرى وأثر في الجمهورية الرومانية.

كان هيبياس آخر طاغية حكم أثينا، وقد فر منها عندما غزتها إسبارطة عام 510 ق.م. ثم بعد عامين، أدخل أرستقراطي من أثينا اسمه كليسثينس إصلاحات ديموقراطية عليها. بعد عدة عقود وسعت الإصلاحات اللاحقة النظام السياسي الجديد وضيقت أيضًا تعريف المواطن الأثيني.

لكن ماذا كانت مصلحة كليسثنيس وراء هذه الإصلاحات؟ يجيب بول كارتيليدج، أستاذ الكلاسيكيات في جامعة كامبردج: «للأسف لا دليل لدينا في المصادر التاريخية المعاصرة من أثينا ليخبرنا بما حدث». بعد سنة 514 ق.م، ربما شعر كليسثنيس بعد مقتل أخيه هيبياس، بوجود دعم متنام لنظام سياسي لا ترأسه النخبة الحاكمة.

يقول كارتيليدج: «أظن أن كليسثينيس قد نصب نفسه بطلًا لوجهة النظر الغالبة، ربما كان ذلك جزءًا من الترويج الذاتي، لذا يمكن اعتبار حركته شكلًا من أشكال النظام الشعبي».

كان من شروط المشاركة في العملية الديموقراطية أن يكون الشخص ذكرًا، وحرًا، ومن أثينا. في البداية كان شرطًا أن يكون والد المواطن الأثيني من أثينا، وأمه حرةً. وفي أواسط القرن الخامس ق.م تغير القانون، ولم تُعط المواطنة إلا لمن وُلد لأم وأب من أثينا. في ظل غياب وثائق الميلاد، أو اختبارات النسب لإثبات البنوة، لم تبدأ حياة الصبي الأثيني السياسية إلا بتسجيل والده له في الوحدة السياسية المحلية «ديموس»، إذ يقسم أنه والد الصبي، مع إحضار شهود على ذلك.

لم تكن ديموقراطية أثينا تمثيليةً، بل مباشرة، بمعنى أن البرلمان كان مؤلفًا من الشعب. لا نعرف اليوم عدد رجال أثينا في القرن الخامس ق.م لغياب التعداد السكاني آنذاك. لكن تراوحت تقديرات المؤرخين بين 30 ألف رجل، حضر 5000 منهم اجتماعات البرلمان بانتظام، وشاركوا في هيئة المحلفين، واختيروا سنويًا بالقرعة للخدمة بمجلس الـ 500.

نظريًا، أتيحت مناصب حكومية أخرى للرجال الأثينيين، ومع ذلك أثرت الثروة والموقع في احتمالية شغل المواطن وظيفةً حكومية بدوام كامل، أو حتى التصويت في البرلمان. وظلت بعض المناصب متاحةً للنخبة فقط، إذ كان أمناء الخزانة من الأثرياء بحجة أنهم أدرى بإدارة الأموال، ودائمًا ما كان الجنرالات العشرة الذين تقلدوا أعلى المناصب، من النخبة والرجال المعروفين.

ضآلة المشاركة السياسية:

ظل باقي الناس معزولين عن المشاركة في الحياة السياسة في أثينا. بافتراض أن عدد الرجال كان نحو 30 ألفًا عند تطور الديموقراطية، قدر المؤرخون عدد سكان أثينا الآخرين بنحو 90 ألفًا، ولا بد أن كثير من هؤلاء كانوا عبيدًا غير أثينيين، إذ إنه وفقًا للقانون لا يستعبد الأثينيون الأثينيين الآخرين.

آخرون من السكان كانوا أجانب مقيمين أحرارًا، يعيشون في أثينا لكنهم لم يستوفوا متطلبات المواطنة الأثينية، والباقي هم النساء والأطفال الذين لم يتمكنوا من المشاركة في البرلمان. يقول جوزيا أوبر، أستاذ الكلاسيكيات في جامعة ستانفورد: «مع ذلك لم تحصل الفئات الأخرى قط على الحقوق السياسية ذاتها التي تمتع بها الرجال الأثينيون، ودارت نقاشات حول إمكانية منحهم تلك الحقوق».

وفقًا لأوبر، دارت مناقشات حول منح المرأة حق المشاركة السياسية. سنة 391 ق.م، ألف الكاتب المسرحي أريستوفان مسرحيةً كوميدية بعنوان «برلمان النساء» تتولى فيها نساء أثينا السيطرة على الحكومة، يعلق أوبر: «من المفترض أنها مسرحية فكاهية، لكنها تحمل دلالات عميقة». مع أن أرسطو لم يعتقد بملاءمة المرأة نفسيًا للسياسة، يذكر أوبر أن أستاذ أرسطو –أفلاطون- ذكر في كتابه الجمهورية سنة 375 ق.م أن النظام السياسي المثالي يجب أن يشمل النساء والرجال.

يضيف أوبر: «حدثت حركات عديدة في تاريخ الأزمات في أثينا، من أجل تحرير العبيد وإعطائهم المواطنة، أوعلى الأقل اعتبارهم أجانب مقيمين، بدعوى أن أثينا بحاجة إلى مزيد من الناس للمشاركة في الحروب. مع أن هؤلاء الأشخاص كانوا عادةً من المهزومين».

تزامنت الفترة الديموقراطية في أثينا مع إحكام الدولة/ المدينة «أثينا» قبضتها على ما كان أصلًا تحالفًا طوعيًا للمدن اليونانية، لتتحول بعدها إلى الإمبراطورية الأثينية. كان لدى كل دولة/ مدينة حكومتها الخاصة. تأثر بعضها بالنظام الديموقراطي الأثيني، لكنها لم تؤثر سياسيًا في نظام أثينا الديموقراطي.

انتهى النظام الديموقراطي في أثينا رسميًا سنة 322 ق.م، عندما فرضت مقدونيا حكومة أوليغارشيا، بعد هزيمة أثينا. ترك نظام أثينا الديمقراطي إرثًا جوهريًا، وهو تأثيره في الإمبراطورية الرومانية الذي دام حتى سنة 27 ق.م. إذ أخذت الجمهورية الرومانية فكرة الديموقراطية المباشرة، وعدلت عليها لتصبح ديموقراطيةً تمثيلية، وهو نوع من الحكومات أثار اهتمام الأوروبيين بعد قرون.

اقرأ أيضًا:

مهمة دارت نجحت، ناسا تغير مسار كويكب في حدث تاريخي

الباحثون رصدوا أقوى إنبعاث لأشعة غاما في التاريخ

ترجمة: رغد جيوسي

تدقيق: منال توفيق الضللي

المصدر