تخيل أنك من صيادي اﻷحافير، وقد أمضيت شهورًا في حرارة أريزونا تحفر باحثًا عن العظام، ثم وجدت أن ما اكتشفته ينتمي إلى ديناصور مُكتشَف سابقًا!

يشبه ذلك الانتقادات الموجهة إلى الباحثين في مجال المضادات الحيوية حديثًا. إذ يعكف الباحثون عن المضادات الحيوية على البحث ثم لا يجدون إلا نفس الأنواع السابقة.

نتيجة زيادة مقاومة الجراثيم المُمرضة للمضادات الحيوية، أصبحنا في أمس الحاجة إلى مضادات حيوية جديدة. ربما هي مسألة وقت قبل أن يصبح الجرح البسيط مهدِّدًا للحياة.

رغم ذلك، دخل السوق عدد قليل من المضادات الحيوية، وإنْ كانت لا تعدو كونها تعديلات بسيطة على المضادات القديمة.

في حين يبدو الأمل ضئيلًا، يعطي التطور اﻷخير للذكاء الصناعي أملًا جديدًا. في دراسة نُشرت يوم 20 فبراير في مجلة Cell، استعمل علماء من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفرد التعلم العميق، وهو نوع من الذكاء الصناعي، لاكتشاف مضادات حيوية جديدة.

الذكاء الصناعي يكشف مضادات حيوية جديدة للتغلب على مقاومة العقاقير - زيادة مقاومة الجراثيم المُمرضة للمضادات الحيوية - البكتيريا المقاومة

لم تنجح الطرق التقليدية لاكتشاف المضادات الحيوية استنادًا إلى مكونات التربة والنباتات في إيجاد أي مرشح جديد، إضافةً إلى المصاعب المُجتمعية والاقتصادية التي تزيد من صعوبة المشكلة.

حاول العلماء حديثًا البحث في الحمض النووي للبكتيريا عن جينات جديدة منتجة للمضادات الحيوية. ويبحث آخرون عن المضادات الحيوية في أماكن غريبة مثل أنوفنا.

تواجه هذه العقاقير طريقًا صعبًا للوصول إلى السوق نتيجة اكتشافها بطرق غير تقليدية. قد لا تعمل الأدوية الفعالة في صحن بتري جيدًا داخل الجسم. فقد لا تُمتَص جيدًا أو قد يكون لها آثار جانبية. يمثل تصنيع هذه الأدوية بكميات كبيرة أيضًا تحديًا كبيرًا.

التعلم العميق deep learning

تُشَغِّل العديد من خوارزميات التعلم العميق أنظمة التعرف على الوجه والقيادة الذاتية. تحاكي هذه اﻷنظمة طريقة عمل العصبونات في دماغنا، من طريق تعلم أنماط البيانات.

قد يكشف عصبون اصطناعي، يشبه مُستشعر صغير، أنماطًا بسيطة كالخطوط والدوائر. باستعمال آلاف العصبونات الاصطناعية، يستطيع التعلم العميق إجراء عمليات معقدة كالتعرف على القطط في الفيديوهات، أو كشف اﻷورام في صور الخزعات.

أما وقد وصلنا إلى هذا القدر من النجاح، فليس مفاجئًا أن يستخدم الباحثون في مجال الأدوية تقنية التعلم العميق. لكن الأمر لن يكون سهلًا، إذ ليس من السهل في مجال الذكاء الصناعي أن تحصل على شيء دون مقابل.

المشكلة هي عدم وجود خوارزمية متفوقة في جميع المجالات. أي أن خوارزميةً تؤدي أداءً مُبهرًا في أحد المجالات، كالتعرف على الوجوه، ستفشل فشلًا ذريعًا في مجال مختلف، كاكتشاف الأدوية. بهذا ﻻ يستطيع الباحثون استعمال أي من خوارزميات التعلم العميق بصرف النظر عن نوعها.

استعمل فريق Harvard-MIT نوعًا جديدًا من التعلم العميق، يُسمى الشبكات العصبية البيانية للكشف عن اﻷدوية. في عهد الذكاء الصناعي البدائي سنة 2010، بُنِيَت نماذج الكشف عن اﻷدوية باستعمال أوصاف نَصية للعناصر الكيميائية. يشبه هذا وصف وجه شخص بكلمات من قبيل عيون سوداء وأنف طويل.

تُعَد هذه النصوص مفيدةً لكنها بالطبع ﻻ ترسم الصورة الكاملة. تصف نماذج الذكاء الصناعي التي استعملها الفريق العناصر الكيميائية بوصفها شبكةً من الذرات، ما يوفر صورةً أكثر اكتمالًا للعناصر الكيميائية.

المعرفة البشرية وصفحات الذكاء الصناعي الفارغة

مع ذلك يُعَد الذكاء الصناعي غير كافٍ لاكتشاف مضادات حيوية جديدة. إذ يجب أن تصاحبه معرفة بيولوجية بطبيعة العدوى.

دَرَّب الفريق خوارزمية الذكاء الصناعي بدقة، باستخدام أمثلة من أدوية فعالة وأخرى غير فعالة، إضافةً إلى أدوية معروفة بكونها آمنةً للاستعمال الآدمي.

ثم استخدموا خوارزمية الذكاء الاصطناعي لتحديد المضادات الحيوية التي قد تكون آمنةً وفعالة من بين ملايين المواد الكيميائية.

على عكس البشر، ليس لدى الذكاء الاصطناعي معرفةً سابقة، خاصةً حول الشكل الذي ينبغي أن يبدو عليه المضاد الحيوي. باستعمال الذكاء الصناعي من المدرسة القديمة، اكتشف الفريق بعض المرشحين المفاجئين لعلاج مرض السل، متضمنين دواءً مضادًّا للذهان.

في الدراسة التي أجراها الفريق، وجدوا كنزًا من المرشحين الجدد. وهي عقاقير مختلفة عن المضادات الحيوية المعروفة. أحد المرشحين الواعدين هو هاليسين Halicin، وهو دواء مُكتشَف لعلاج مرض السكري.

المدهش أن هاليسين كان فعالًا ليس فقط ضد الإشريكية القولونية، البكتيريا التي تدربت خوارزمية الذكاء الاصطناعي عليها، ولكن أيضًا ضد الجراثيم المُمرضة المسببة للسل والتهاب القولون.

أيضًا كان هاليسين فعالًا ضد بكتيريا الراكدة البومانية Acinetobacter baumanni المُقاوِمة للعقاقير، التي تتصدر قائمة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها لمسببات الأمراض الفتاكة.

لكن للأسف، تشير الفعالية الواسعة لهاليسين إلى أنه قد يدمر أيضًا البكتيريا النافعة في الجسم. وقد يكون له أيضًا آثار جانبية استقلابية، بسبب تصميمه أصلًا بوصفه علاجًا للسكري. لكن نظرًا إلى الحاجة الماسّة إلى مضادات حيوية جديدة، فقد تكون هذه تضحيات صغيرة تُدفع من أجل إنقاذ الأرواح.

مواكبة التطور

بالنظر إلى نتائج هاليسين الواعدة، هل يجب أن نوقف البحث عن مضادات حيوية جديدة؟
قد يتخطى هاليسين جميع العقبات ويصل في النهاية إلى السوق. ولكن ما زال يجب عليه التغلب على المسبب الرئيسي لأزمة مقاومة اﻷدوية: التطور.

استخدم البشر العديد من العقاقير ضد الجراثيم المُمرِضة على مدار القرن الماضي. لكنها طورت باستمرار مقاومةً للدواء. لذلك لن نلبث طويلًا حتى نواجه عدوى مقاومة للهاليسين.

ومع ذلك، بفضل قوة التعلم العميق، قد نكون الآن أكثر ملاءمةً وجاهزية للرد السريع بمضادات حيوية جديدة.

ما زال العديد من التحديات تنتظر المضادات الحيوية المُكتشَفة باستخدام الذكاء الاصطناعي قبل أن تصل إلينا. إذ تختلف الظروف التي تُختبر فيها هذه الأدوية عن تلك الموجودة داخل جسم الإنسان.

تُنشأ أدوات الذكاء الصناعي الجديدة على أساس محاكاة البيئة الداخلية للجسم، لتقييم فعالية المضادات الحيوية. تستطيع نماذج الذكاء الاصطناعي أيضًا أن تتنبأ بسُمِّية الأدوية والآثار الجانبية.

قد يوفر لنا دمج هذه التقنيات معًا أفضليةً في هذه المعركة اﻷبدية ضد مقاومة اﻷدوية.

اقرأ أيضًا:

المكورات المعوية المقاومة للفانكوميسين: الأسباب والأعراض والتشخيص والعلاج

اكتشاف مضادات حيوية جديدة قد تسهم في القضاء على البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية المعتادة

ترجمة: حمزة جبار

تدقيق: بدر الفراك

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر