احتضنت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2000 انتخابات رئاسية شنت فيها حملة جورج بوش الإعلامية تمييزًا بمراوغة غريبة على خطة الرعاية الصحية التي وضعها غريمه آل غور، إذ ظهر قرب نهاية الإعلان الذي اختُتم بعبارة (البيروقراطية تقرر) وميضًا بكلمة (جرذان) بسرعة بالكاد ملحوظة.

لفت موظفو آل غور انتباه صحيفة نيويورك تايمز إلى هذه الحادثة، ونشرت الصحيفة هذه القصة التي قال فيها العديد من الخبراء إنها تبدو كمحاولة لإرسال رسائل خفية مموهة. أنكر بوش هذا الاتهام وسحب الإعلان بعدها.

شكلت هذه الحادثة جزءًا من جدال لحق بصناعة الإعلانات عدة عقود: هل تعمل حقًا الرسائل الخفية؟ هل نحن واقعون تحت رحمة إشارات غير واعية تضخها في رؤوسنا شركات عديمة الضمير؟ أم هل هي مجرد هراء؟

الرسائل الخفية تعمل بالفعل!

شكك الكثير من علماء النفس في مقدار تأثير الرسائل الخفية. يقول ايان زيمرملن الباحث في علم نفس المستهلك والإدراك الضمني من جامعة ميسوري: «يشيع الاعتقاد أن تأثير الرسائل الخفية قوي جدًا وبإمكانها حملنا على فعل أشياء لا نرغب في فعلها، لكن هذا ليس صحيحًا».

لكن الرسائل الخفية موجودة بالفعل وبوسعها التأثير في الناس بمختلف الطرق غير الملحوظة، ودرسها الباحثون لعدة عقود، وهذا ما توصلوا إليه حتى الآن: صيغ المفهوم الشائع للرسائل الخفية في دراسة شهيرة ادّعى فيها الباحثون أن وميض عبارة (اشرب كوكاكولا) في السينما تدفع الناس إلى شراء المزيد من المشروبات الغازية. لكن هذه الدراسة مجرد هراء.

روى جيمس فيكاري وفرانسيس ثاير بالعودة إلى عام 1957 أنهم دأبوا 6 أسابيع على إظهار رسائل في شاشات السينما بسرعة كبيرة لم يدرك المشاهدون أنها كانت تظهر حتى مضمونها عبارتين هما (تناول الفوشار) و(اشرب كوكاكولا). نتج عنها ارتفاع نسبة مبيعات الفوشار 58% والكوكاكولا 18%. تأثير مبهر بالفعل لو لم تكن هذه التجربة مجرد هراء! إذ اعترف فيكاري لاحقًا أنه ابتدع هذه الدراسة للترويج لشركته التسويقية. ولم يتمكن أي باحث آخر من تكرار هذه النتائج. بقيت مع ذلك هذه القصة حيةً في أذهان الكثيرين على كونها حقيقة.

قد تكون الرسائل الخفية قادرةً على التأثير في استهلاكنا للمشروبات بطرق أخرى:

ألهمت دراسة مسرح الكوكاكولا المبتدعة مجموعة من الأبحاث عن مدى تأثير الرسائل الخفية في دفع الناس إلى شراء المشروبات، تمخض عن هذا الإلهام بعض النتائج المثيرة.

نشر باحثون من جامعة برينستون عام 2002 دراسةً عمدوا فيها إلى إضافة 12 إطارًا بكلمة (عطشان) و12 إطارًا لصورة عبوة كوكاكولا إلى حلقة من مسلسل عائلة سيمبسون بطريقة لا شعورية لمجموعة الضبط، وحل محلها صور بيضاء في الحلقة المعروضة على مجموعة المراقبة. روى المشاركون من مجموعة الضبط أن عطشهم زاد بعد مشاهدة العرض بنسبة 27% مما كانوا عليه قبل مشاهدته وفق تقييمهم دون أن يعلموا بالصور المضافة. أما المشاركون من مجموعة المراقبة كانوا أقل عطشًا نسبيًا بعد انتهاء العرض. حصل الباحثون على نتائج مشابهة باستخدام صور لعبوات كوكاكولا وعلب حلويات.

نُشرت دراسة مشابهة عام 2005 من جامعة أوتريشت وجامعة رادبود من هولندا وجدت أن الرسائل الخفية قد تؤثر في تفضيل الشخص لصنف معين. عُرض على المشاركين في هذه الدراسة رسائل خفية مضمونها عبارة (شاي ليبتون المثلج)، ووجد الباحثون أن المشاركين مالوا لاختيار هذا الصنف عندما خيروهم بين مشروبين. لكن هذا التأثير لم يعمل إلا على مشاركين كانوا عطشى بالفعل. تلاعب الباحثون في عطش المشاركين في تجربة أخرى بدفعهم إلى تناول حلوى مملحة، ونتج عن هذه التجربة ذات النتيجة. لكن هذه نتائج دراستين فقط وتشوبهما الكثير من الثغرات.

قد تؤثر الرسائل الخفية في آرائنا حول المرشحين السياسيين:

وجد الباحثون أيضًا أن الرسائل الخفية في الإعلانات السياسية قد تحمل تأثيرًا. ففي دراسة مضبوطة أجراها باحثون من جامعتي أديلفي وإيموري قرروا محاكاة إعلان بوش (RATS) عبر إضافة هذه العبارة بوميض غير ملحوظ إلى دعايات حملة ترويجية مبتدعة لمرشح غير معروف. زادت الرسالة تقييمات المشاركين السلبية للمرشح المبتدع، ولم تعطِ رسائل خفية أخرى مثل (STAR) و(XXXX) أي تأثير.

عرض الباحثون في تجربة منفصلة في ذات الدراسة على المشاركين شاشةً تومض فيها صورة غير ملحوظة لبيل كلينتون قبل أن تظهر صورة حاكم كاليفورنيا غراي ديفيس، وبدا أنها جعلت المشاركين من الناخبين المستقلين يودون ديفيس أكثر (أو يكرهونه بصورة أقل مما سبق)، ربما نتج ذلك عن شعبية كلينتون بين الناخبين المستقلين. من ناحية أخرى لم يكن لهذه الرسالة أي تأثير في الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين نظرًا لامتلاكهم مشاعر سياسية قوية على الأرجح.

تأكد الباحثون في كلتا التجربتين من كون الرسائل الخفية خفيةً بالفعل عبر سؤال المشاركين تخمين الرسائل الخفية التي ربما قد رأوها، لم يتمكن سوى مشاركَين من أصل 272 من التخمين بصورة صحيحة.

هذه نتائج دراستين فقط، ومن غير الواضح ما إذا كانت الرسائل الخفية قوية بما يكفي للتأثير في كيفية تصويت الناخبين. مع ذلك وجدت دراسة مختلفة نُشرت في مجلة وقائع الأكاديميات الوطنية للعلوم عام 2007 أن تزويد الإسرائيليين برسائل خفية مضمونها العلم الإسرائيلي جعلتهم يصوتون بطريقة معتدلة في انتخابات حقيقية.

مع كل ذلك لم يُحسم النقاش بعد، تبقى أسئلة مهمة عدة أحدها: هل تدوم تأثيرات الرسائل الخفية مع الفرد في الفترة الفاصلة بين مشاهدته للتلفاز ووصوله إلى حجرة التصويت؟

لا يعني ذلك أن الرسائل الخفية تغسل أدمغتنا وتسلب إرادتنا:

تحوم إشارات استفهام عدة حول هذه الدراسات. إذ أُقيمت هذه التجارب في بيئة مضبوطة بإحكام في المختبرات، ولا يمكن فيها تشتيت انتباه المشاركين عن الرسائل الخفية، ما يعني أن الرسائل الخفية قد يتجاوزها الفرد نتيجة مؤثرات أخرى في الحياة الواقعية المليئة بالمشتتات. بالإضافة إلى أن التأثيرات في هذه الدراسات كانت صغيرة أحيانًا وإن كانت قابلةً للقياس. يميل تأثير الرسائل الخفية إلى كونه يعطي دفعةً بسيطة للمشاركين أكثر من كونه يهيمن على ميولهم الموجودة سلفًا، إذ اقتصر نجاح الرسائل الخفية السياسية في دراسة واحدة في التأثير على الناخبين المستقلين فقط، وأثرت الرسائل المخفية المتعلقة بشاي ليبتون المثلج على المشاركين العطشى فقط.

من غير الواضح أيضًا مدة تأثير الرسائل الخفية. بحثت معظم الدراسات عن الآثار التي تظهر خلال دقائق أو ساعات، ولم تختبر استمرار الآثار مدة أطول. على سبيل المثال، عرضت إحدى الدراسات رسائل خفية مضمونها صور لربح الجائزة الكبرى نتج عنها زيادة رغبة المشاركين بالمراهنة، لكن الأثر دام أقل من 5 دقائق.

لذا بالمجمل، من غير الواضح كم سيدوم أثر الرسائل الخفية في الحياة العملية خارج المختبرات. من المحتمل ألا يجدي تطبيق هذه الرسائل في الإعلانات.

يرى زيمرمان أنه من غير المرجح أن تستخدم وكالات الإعلان هذه الطريقة في الولايات المتحدة في الوقت الراهن، ويقول: «لا أعتقد وجود أي دليل يرجح أفضلية فعالية هذه الطريقة على الإعلانات التقليدية التي يعيها المشاهدون، فلم نجري بنفسنا نحو المتاعب؟».

يستخدم علماء النفس الرسائل الخفية كوسيلة لفهم العقل غير الواعي:

قد تكون الرسائل الخفية مفيدة للدراسات، والأبحاث بهذا الخصوص شائعة هذه الأيام لدراسة الرسائل الخفية نفسها إضافةً إلى استخدامها أداةً للأبحاث في ميدان علم النفس.

تنطوي آلية عملها على إظهار وميض غير ملحوظ بمضمون معين ومراقبة كيفية تأثيره في أداء مهمة أو اختبار معين. على سبيل المثال، وجدت دراسة أن تزويد المشاركين من ذوي البشرة البيضاء برسائل خفية تحمل عبارة (أسود) جعلتهم يستجيبون بصورة أسرع إلى الأنماط الاجتماعية السلبية في اختبار لاحق (حتى الأفراد الذين لم يعرضوا سلوكًا عنصريًا في استبيان مباشر).

هذا مثال واحد عن استخدام الباحثين للرسائل الخفية بهدف دراسة السلوكيات والمواقف الكامنة التي لا يدرك الناس امتلاكهم لها، فالرسائل الخفية أصبحت أداةً في يد علماء النفس لاستكشاف العقل غير الواعي.

اقرأ أيضًا:

هل تتحكم رسائل الإعلام الخفية بنا؟

هل تتحكم مواقع التواصل الإجتماعي بعقلك؟ 

ترجمة: رضوان مرعي

تدقيق: هزار التركاوي

المصدر