يقول عالم الفيزياء فرانك ويلزيك (Frank Wilczek): «بدا ريتشارد فينمان متعبًا عندما تجول في مكتبي.

لقد كانت نهاية يوم طويل ومرهق في سانتا باربرا في عام 1982.

حيث كانت هناك ندوة ومناقشات حيّة مع كبار الباحثين وقد سألت فينمان السؤال الأكثر إثارة للقلق في الفيزياء: هناك شيء كنت أفكر فيه كثيرًا وهو لماذا لا يزن الفراغ أي شيء؟».

وقال على نحو غامض: «اعتقدت مرة أني أملك جواب لذلك، والسبب في كون الفضاء لا يزن أي شيء لأنه لا يوجد هناك شيء».

لإدراك هذا الحوار الخيالي تحتاج معرفة القليل من الدرامية من ضمنها التمييز بين الفراغ (vacuum) والفجوة (void).

الفراغ في المفهوم الحديث هو ما تحصل عليه عند إزالة كل ما يمكن، سواء من الناحية العلمية أو من حيث المبدأ.

عندما نقول منطقة الفضاء ندرك أنه الفراغ إذا كان خاليًا من جميع أنواع الجسيمات والإشعاعات المختلفة التي نعرفها (بما في ذلك المادة المظلمة التي نعرفها بشكل عام وإن لم تكن بالتفصيل)، بمعنى آخر الفضاء هو أدنى حالة من الطاقة.

الفضاء ما بين المجرات هو وصف تقريبي جيد للفراغ.

الفجوات من ناحية أخرى، هي حالة مثالية نظرية وهذا يعني العدم: الفضاء بدون خصائص مستقلة، ويمكن أن نقول إن دورها الوحيد هو الحفاظ على كل شيء من الحدوث في نفس المكان، الفجوات تعطي عناوين الجسيمات لا شيء أكثر.

ادّعى أرسطو مرة أن الطبيعة تفسد الفراغ، وأنا متأكد أن الترجمة الأصح هو أن الطبيعة تفسد الفجوات وليس الفضاء.

يبدو أن إسحاق نيوتن يتفق مع هذا عندما كتب: «قد يؤثر جسم واحد على جسم آخر تفصل بينهما مسافة خلال الفراغ دون أي وساطة على الإطلاق والتي من خلالها يمكن نقل قوة وتأثير جسم إلى جسم آخر».

تحفة نيوتن هي أن المبادئ بمثابة الأجسام التي تسلط قوى على جسم آخر، والمنصة هي الفراغ وهو وعاء فارغ، ليس له حياة خاصة به، بمعنى أنه في فيزياء نيوتن الفراغ هو الفجوة.

هذا الإطار النيوتني عمل ببراعة لمدة قرنين تقريبًا، كما ازدهرت معادلات نيوتن للجاذبية من انتصار إلى انتصار.

وفي البداية كانت القوى الكهربائية والمغناطيسية مناظرة لما تفعله أيضًا، ولكن في القرن التاسع عشر عندما بدأ العلماء يحققون في ظواهر الكهربائية والمغناطيسية بشكل أعمق، فإن معادلات نيوتن أثبتت بأنها غير كافية.

وثمرة هذا الجهد ظهرت في معادلات جيمس كلارك ماكسويل (James Clerk Maxwell)، بأن المجالات الكهرومغناطيسية هي الأشياء الأساسية للواقع لا الأجسام المنفصلة.

نظرية الكم قامت بتضخيم ثورة ماكسويل، وفقًا لنظرية الكم أن الجسيمات هي مجرد فقاعات من الرغوة، يتم فقعها بواسطة المجالات الأساسية، الفوتونات على سبيل المثال هي اضطرابات في المجالات الكهرومغناطيسية.

أراد فاينمان إعادة نهج نيوتن والعمل مباشرة مع الجسيمات التي ندركها بالفعل.

للقيام بذلك، سعى فينمان لتحدي الافتراضات الخفية والتوصل إلى وصف أبسط للطبيعة وتجنب مشكلة كبيرة خلقتها التحولات في المجالات الكمية.

في نظرية الكم، فإن المجالات الكمية لديها الكثير من النشاط التلقائي، فهي تتقلب في الكثافة والاتجاه.

بالرغم أن معدل قيمة المجال الكهربائي في الفراغ هو صفر، إلا أن معدل قيمة مربعه ليس صفرًا.

وهذا أمر مهم، لأن كثافة الطاقة في المجال الكهربائي تتناسب مع مربع قيمة المجال.

في الواقع إن قيمة كثافة الطاقة هي لا نهائية.

النشاطات التلقائية الكمية تحمل عدة أسماء مختلفة: التقلبات الكمية (quantum fluctuations)، أو الجسيمات الافتراضية (virtual particles)، أو حركة نقطة الصفر (zero-point motion).

هناك اختلافات طفيفة في دلالات هذه التعبيرات، ولكنها تشير جميعها إلى نفس الظاهرة.

مهما تسميها فإن النشاط يشمل وجود طاقة، والكثير من الطاقة هو في الحقيقة كمية لا نهائية.

يمكننا أن نترك هذه الكمية اللانهائية المربكة خارج الاعتبار، التغيرات في الطاقة فقط هي التي يمكن ملاحظتها.

ولأن حركة النقطة الصفرية هي سمة جوهرية للمجالات الكمية، فإن التغيرات في الطاقة استجابة للأحداث الخارجية هي عمومًا كميات محدودة يمكننا حسابها.

إنها تؤدي إلى ظهور بعض التأثيرات المثيرة جدًا مثل تحولات لامب (Lamb shift) لخطوط الطيف الذرية وقوة كاسيمير (Casimir force) بين لوحين موصلين متعادلين كهربائيًا والتي لوحظت تجريبيًا.

وبعيدًا عن كونها مشكلة، فإن هذه التأثيرات هي انتصارات لنظرية المجالات الكمية.

الاستثناء الوحيد هو الجاذبية، لأن الجاذبية تستجيب لجميع أنواع الطاقة، مهما كان شكل الطاقة.

لذا فإن كثافة الطاقة اللانهائية المرتبطة بنشاط المجالات الكمومية والموجودة حتى في الفراغ تعتبر مشكلة كبيرة عندما نأخذ بعين الاعتبار تأثيرها على الجاذبية.

من حيث المبدأ، ينبغي لهذه المجالات الكمومية أن تجعل الفراغ ثقيلًا.

ومع ذلك أثبتت التجارب أن جاذبية الفراغ صغيرة جدًا، وحتى وقت قريب كنا نظن أنها صفر.

لعل فكرة فينمان الخيالية في التحول من المجالات إلى الجسيمات سيتجنب المشكلة.

بدأ فينمان من الصفر يرسم صورًا بحيث تظهر خطوطها علاقات التأثير بين الجسيمات، وظهر أول رسم بياني لفينمان في دورية (Physical Review) في عام 1949.

لفهم كيف يؤثر الإلكترون على إلكترون آخر، باستخدام مخططات فينمان، عليك أن تتخيل أن الإلكترونات، وهي تتحرك عبر الفضاء وتتقدم في الزمن وتتبادل الفوتون ويطلق على ذلك الكم الافتراضي وهذا هو أبسط الاحتمالات، من الممكن أيضًا تبادل اثنين أو أكثر من الفوتونات، وقدم فينمان مخططات مماثلة لذلك.

تساهم هذه المخططات في إضافة جزء آخر للحل وتعديل قانون كولومب الكلاسيكي للقوة.

إنها تشرح كيف يمكن للإلكترون أن يشع فوتونًا، وهكذا خطوة بخطوة يمكنك وصف العمليات الفيزيائية المعقدة، وتجميعها مثل لعبة الليغو من المكونات البسيطة جدًا.

تبدو مخططات فينمان أنها صور للعمليات التي تحدث في المكان والزمان وهي إلى حدّ ما كذلك.

ما تظهره الرسوم البيانية ليست مسارات هندسية جامدة، بل هي تركيبات طوبوغرافية أكثر مرونة وهي تعكس مبدأ عدم اليقين الكمومي (Quantum Uncertainty).

بعبارة أخرى، قد تكون مبهم تمامًا عن فهم شكل وتكوين الخطوط والانحناءات.

وجد فينمان أنه يمكن أن يصيغ عبارة رياضية بسيطة لكل رسم بياني، وتعبر الصيغة الرياضية عن العمليات التي يصفها المخطط، ووجد أنه في حالات بسيطة حصل على نفس الإجابات التي حصل عليها العلماء بدقة أكبر باستخدام المجالات الكمية.

هذا ما قاله فينمان عندما سئل عن الفراغ وقال لا يوجد هناك شيء، عند إزالة المجالات الكمية، فإنها تتخلص من مساهمتها في الجاذبية.

اعتقد فينمان أنه وجد منهجًا جديدًا للتفاعلات الأساسية الذي لم يكن فقط أبسط من المنهج التقليدي بل أصح أيضًا.

كانت طريقة جديدة رائعة للتفكير في العمليات الأساسية.

من المؤسف أن المظاهر الأولى أثبتت أنها خادعة، اكتشف فينمان أن نهجه الجديد لديه مشكلة مماثلة لتلك المشكلة التي كان من المفترض حلها.

يمكننا رسم مخططات فينمان بشكل مستقل تمامًا دون الجسيمات لبدء الأحداث.

وهذه الرسوم البيانية المسماة المخططات غير المترابطة أو فقاعات الفراغ تمثل مخططات فينمان عن حركة نقطة الصفر.

يمكن رسم المخططات لكيفية تأثير الكم الافتراضي على جسيمات الجاذبية وبالتالي إعادة اكتشاف الكأس المقدسة للفراغ.

أدرك فينمان تدريجيًا أن طريقة الرسم البياني ليست بديلًا حقيقيًا للنهج الميداني ولكنها مقاربة له.

مع ذلك تبقى مخططات فينمان مدخرات ثمينة في الفيزياء، لأنها غالبًا ما توفر تقريبات جيدة للواقع، بالإضافة إلى ذلك فهي سهلة وممتعة للعمل عليها.

إنها تساعدنا في صقل قدراتنا على التخيلات الافتراضية لكي نستوعب عوالم لا يمكننا رؤيتها واقعيًا.

الحسابات التي من خلالها حصل الفيزيائي فرانك ويلزك على جائزة نوبل عام 2004 لا يمكن تصورها حرفيًا دون مخططات فينمان، وكذلك الحال بالنسبة للحسابات التي مهدت الطريق لإنتاج ومراقبة جسيمات هيغز.

في السنوات الأخيرة أدّت تلك الحسابات المباشرة المطبقة على عدد من الحواسيب الفائقة إلى حسابات ناجحة لكتلة كل من البروتونات والنيوترونات، وفي السنوات القادمة سوف تحدث ثورة في فهمنا الكمي للفيزياء النووية على نحو واسع.

اللغز الذي اعتقد فينمان أنه تمكن من حله لا يزال معنا، بالرغم من أنه تطور في عدة نواحي.

التغيير الأكبر هو أن العلماء قاموا بحساب كثافة الفراغ بشكل أدق واكتشفوا أنه لا يتلاشى وهو ما يسمى بالطاقة المظلمة (Dark energy) (الطاقة المظلمة هي أساسًا نفس الشيء الذي أطلق عليه أينشتاين الثابت الكوني (cosmological constant)، وإذا قمنا بحساب معدلها في جميع أنحاء الكون نجد أن الطاقة المظلمة تشكل حوالي 70% من إجمالي مكونات الكون.

يبدو ذلك مثيرًا للإعجاب، لكن يبقى اللغز الكبير بالنسبة للفيزيائين هو لماذا كثافتها صغيرة بهذا القدر، عليك أن تتذكر كان من المفترض أن تكون لا نهاية، وذلك بسبب مساهمتها في تذبذب المجالات الكمية.

نعرف الآن طريقة للتخلص من حالة اللانهائية، فقد تبين أن فئة معينة من المجالات المرتبطة بجسيمات تسمى البوزونات (Bosons) تكون فيها كثافة الطاقة لانهائية موجبة.

أما بالنسبة لفئة أخرى من المجالات المرتبطة بجسيمات تدعى الفرميونات (Fermions) فإن كثافة الطاقة هي لا نهائية سالبة.

لذلك إذا كان الكون يحتوي على مزيج متوازن من البوزونات والفرميونات فإن اللانهائية الموجبة تلغي اللانهائية السالبة، نظريات التناظر الفائقة (Supersymmetric theories) التي لديها عدة ميزات مثيرة تؤيد هذا الإلغاء.

هنالك شيء آخر تعلمناه هو أنه بالإضافة إلى تذبذب المجالات، فإن الفراغ يحتوي على مجالات غير متذبذبة وغالبًا ما تسمى المكثفات (Condensates)، أحد هذه المكثفات يدعى مكثفات سيغما (Sigma Condensate)، وآخر يدعى مكثفات هيغز (Higgs Condensate)، هذه المكثفات راسخة بقوة وهنالك العديد لم يتم اكتشافها بعد.

إذا كنت تفكر في تناظر مألوف، تخيّل أن المجال المغناطيسي أو مجال الجاذبية الأرضية مرتفع إلى أبعاد كونية (ومتحرر من الأرض)، هذه المكثفات يجب أن تزن شيئًا.

في الحقيقة أن التقديرات البسيطة لكثافتها تعطي قيمًا أكبر بكثير من الطاقة المظلمة التي تم مراقبتها.

بقينا مع التقديرات التي تشير إلى أن الطاقة المظلمة هي محدودة، ولكن لم يتم حسابها نظريًا وما يبدو عليه هي كبيرة جدًا.

يفترض أن هنالك إلغاءات إضافية لا نعرف عنها.

إن الفكرة الأكثر شيوعًا في الوقت الحاضر هو أن صغر الطاقة المظلمة هو نوع من حدث نادر والذي صادف أن يحدث في إحدى الزوايا الخاصة للأكوان المتعددة، على الرغم أنه غير مرجح لهذا الحدث مسبقًا إلا أنه ضروري لوجودنا وبالتالي أصبح هو الحدث المحتم علينا مراقبته.


  • إعداد: سرمد يحيى.
  • تدقيق: دانه أبو فرحة.
  • تحرير:عيسى هزيم.
  • المصدر