منذ أكثر من نصف قرن، حين بدأ علم الفلك بالتطور، عرف العلماء أن الكون في تمدد مستمر منذ الانفجار العظيم، وعلى مدى 8 مليارات سنة كان معدل التوسع ثابتًا، وقد فسر العلماء ذلك بقوة الجاذبية التي حافظت على ثباته، لكن بفضل البعثات الفضائية مثل مرصد هابل الفضائي، وجد العلماء أن معدل التوسع أصبح يتسارع منذ نحو 5 مليارات سنة.

بدأت أبحاث ودراسات العلماء حول توسع الكون وأسبابه، وأدى ذلك إلى نظرية مقبولة على نطاق واسع، تفترض وجود قوة غامضة وراء هذا التوسع والتمدد، أطلق العلماء على هذه النظرية اسم الطاقة المظلمة. لا يخلو الأمر من آراء متناقضة، إذ يُصر العديدون على أن السبب وراء توسع الكون ليست الطاقة المظلمة، بل مجرد تغير في قوة الجاذبية.

نظرية الطاقة المظلمة مثيرة للجدل، إذ تتناقض مع نظرية النسبية العامة.

وفقًا لدراسة جديدة أجراها التعاون الدولي لمسح الطاقة المظلمة (DES)، ما زالت قوة الجاذبية ثابتة طوال تاريخ الكون بأكمله. يتألف هذا التعاون من باحثين من جامعات ومعاهد في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وتشيلي وإسبانيا والبرازيل وألمانيا واليابان وإيطاليا وأستراليا والنرويج وسويسرا.

تأتي نتائج هذه الدراسة قبل وقت قصير من إرسال تلسكوبين فضائيين من الجيل التالي -نانسي غريس رومان وإقليدس- إلى الفضاء لإجراء قياسات أدق للجاذبية، ودورها في تطور الكون.

في الفترة ما بين ستينيات وتسعينيات القرن العشرين، اكتُشف تناقضان غريبان دفعا علماء الفلك إلى التساؤل حول صحة النسبية العامة. إذ لاحظ علماء الفلك أن آثار الجاذبية للهياكل الضخمة -مثل المجرات وعناقيد المجرات- لا تتفق مع كتلتها المرصودة، ما أدى إلى ظهور نظرية أخرى تفترض أن الفضاء مملوء بكتلة غير مرئية تتفاعل مع المادة العادية -المرئية- بواسطة الجاذبية. في الوقت ذاته أدى توسع الكون الملحوظ إلى ظهور نظرية الطاقة المظلمة، ونظرية المادة المظلمة الباردة «لامدا».

تمثل نظرية المادة المظلمة الباردة تفسيرًا، إذ تتكون المادة من جسيمات كبيرة بطيئة الحركة، في حين تمثل لامدا الطاقة المظلمة، وتُشكل هاتان القوتان نظريًا 95% من المحتوى الكلي للكتلة والطاقة في الكون، ومع ذلك فشلت كل المحاولات في العثور على دليل مباشر عليهما.

بسبب عدم وجود دليل مباشر على هاتين النظريتين، كان أمام العلماء بديل وحيد هو تعديل نظرية النسبية العامة لتتوافق مع هذه التناقضات. استخدم أعضاء (DES) تلسكوب فيكتور بلانكو الذي يبلغ قطره 4 أمتار، لمراقبة المجرات التي تبعد 5 مليارات سنة ضوئية.

كانوا يأملون تحديد تغير الجاذبية خلال 5 مليارات سنة الماضية -منذ بدء التسارع- أو عبر المسافات الكونية. واطلعوا على بيانات من مراكز أخرى، متضمنة ساتل بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، الذي يرسم خرائط الخلفية الكونية للموجات الدقيقة منذ عام 2009.

أولى العلماء اهتمامًا شديدًا للصور التي حصلوا عليها من ساتل بلانك، التي احتوت على تشوهات دقيقة بسبب المادة المظلمة. أوضحت الصورة الأولى الصادرة عن تلسكوب جيمس ويب الفضائي إمكانية استنتاج قوة الجاذبية من خلال تحليل مدى تشوه عدسة الجاذبية للزمكان.

رصد تعاون (DES) أكثر من 100 مليون مجرة، وجميع الملاحظات تطابق توقعات نظرية النسبية العامة، ما يعني أن نظرية أينشتاين ما تزال قائمة، لكنه يعني أيضًا أن لغز الطاقة المظلمة ما زال دون حل.

لحسن الحظ، لن يضطر العلماء للانتظار طويلًا قبل أن تتاح لهم بيانات جديدة أكثر تفصيلًا. إذ من المقرر انطلاق مهمة إقليدس التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية بحلول عام 2023، والتي سترسم خريطة لهندسة الكون خلال 8 مليارات سنة، لقياس آثار المادة المظلمة والطاقة المظلمة.

بحلول مايو 2027، سينضم إلى هذه المهمة تلسكوب نانسي غريس رومان التابع لوكالة ناسا، والذي سينظر إلى الماضي لأكثر من 11 مليار سنة. من المتوقع أن تكون هذه الدراسة إحدى أكثر الدراسات الاستقصائية الكونية تفصيلًا على الإطلاق.

قال المؤلف المشارك في الدراسة أغنيس فيرت: «مع ازدياد دقة القياسات، ما زالت نظرية أينشتاين عن الجاذبية قابلة للتعديل، لكن ما زال لدينا الكثير لنفعله كي نكون مستعدين لإقليدس ورومان. يجب أن نواصل التعاون مع العلماء حول العالم، كما فعلنا في مسح الطاقة المظلمة».

أيضًا فإن عمليات الرصد التي يوفرها تلسكوب جيمس ويب لأقدم النجوم والمجرات في الكون، ستمكّن الفلكيين من رسم تطور الكون في عمره المبكر، ما يتيح لنا الإجابة عن بعض أعقد الألغاز الكونية.

ما يميز العصر الحالي لعلم الفلك هو الطريقة التي تجتمع بها عمليات المسح طويلة الأمد، وأدوات الجيل التالي لاختبار صحة النظريات. الاكتشافات المحتملة التي قد تثمرها هذه التطورات قد تكون مبهجة ومربكة. لكن في النهاية، سيطور الجيل القادم من العلماء الطريقة التي ننظر بها إلى الكون.

اقرأ أيضًا:

المجال المغناطيسي القوي قد يكون تفسيرًا لأحد أسرار قمرنا

كيف يعمل مرصد جيمس ويب؟

ترجمة: يزن دريوس

تدقيق: منال توفيق الضللي

المصدر