لماذا الكون موجود؟

بدأ مؤخّرًا ظهور النتائج الأولية للتجارب التي تبحث في أحد أكبر ألغاز الفيزياء المحيّرة، واضعةً حدود الأماكن التي يجب أن نبحث عن أدلّة فيها.

بناءً على فهمنا الحالي للفيزياء، لا ينبغي أن توجد المادة.

والحقيقة أنّ هذا الأمر يعني أنّ شيئًا ما خاطئٌ في معادلاتنا، ويبحث العلماء لتحديد ماهيّته بدقّة.

توجد الآن أربع تجارب رئيسيّة تُجرى في جميع أنحاء العالم بحثًا عن علامات للجسيمات التي بالكاد يمكن ملاحظتها، والتي تمرّ بتغيّرات نادرة للغاية.

ولفهم سبب أهميّة ذلك، يجب أن نعود إلى بداية كلّ شيء: أثناء تبريد الجسيمات دون الذرية من الإشعاع الذي كان يشكّل اللحظات الأولى من الكون، أخذت إحدى شكلين؛ وهما ما نطلق عليهما الآن المادة-Matter والمادة المضادة-Antimatter.

تكمن المشكلة في أنّ هذه الأجسام المتعاكسة تفني بعضها منتجةً ومضةً من الطاقة عندما تجتمع مرّة أخرى.

إذا ظهر كلا النوعين من الجسيمات بجانب بعضهما البعض بكميات متساوية، تقول الرياضيات البسيطة إنّه يجب ألّا يتبقى لدينا شيء.

في حين أنّ كمية قليلة من المادة المضادة ما زالت موجودة بعد حوالي 13,8 مليار سنة، فإنّ معظم الأجسام المرئية مصنوعة من نوع واحد فقط من الجسيمات.

من الواضح أنّ المادة قد تغلّبت على المادة المضادة من ناحية العدد، على الأرجح في لحظات ما بين إنشاء الجسيمات وفنائها.

يقدّم نوع من الجسيمات يُسمّى نيوترينو-Neutrino إجابة مُحتملة لهذا التناقض.

كما يظهر من اسمه، فالنيوترينو ليس له شحنة كهربائية (Neutro تعني معتدل باللاتينية).

وبما أنّها أخفّ مليون مرّة من الإلكترون، فهذا يعني أنّها بالكاد تتفاعل مع جسيمات أخرى.

لكنّ الخواصّ الغريبة لهذه الجسيمات الشبحية تعني أيضًا أنّ هناك احتمالًا لأن يكون النيوترينو هو مادة ومادة مضادة لنفسه في نفس الوقت.

إذا كان من الممكن إثبات صحة ذلك، فإنه سيفتح طريقًا لتوضيح سبب عدم فناء كوننا على الفور.

إحدى الطرق لمعرفة ذلك هي محاولة الحفاظ على عدد كموميّ معيّن حيث تتحلّل أزواج النيوترينوات داخل نظائر معيّنة.

يجب أن تكون الجسيمات التي ينتجها هذا الاضمحلال متوازنةً في عدد اللبتونات (اللبتون-Lepton هو أيّجسيم أوليّ أساسيّ للمادة): إذا خرج 1+ يجب أن يظهر -1 أيضًا.

في النظائر التي يتحوّل فيها زوج من النيوترونات إلى زوج من البروتونات، يمكننا أن نتوقّع خروج إلكترونين واثنين من النيوترينوات.

بما أن النيوترينوات يجب أن يكون لها أرقام لبتون معاكسة للإلكترونات، يمكننا اعتبار هذا النوع منهم نيوترينوات مضادة (يُطلق على تحوّل النيوترون إلى بروتون تحلّل بيتا).

في الحالة غير المحتملة ولكن المثيرة لعدم خروج النيوترينواتالمضادة، ستُكسَر قاعدة رقم لبتون.

هذا من شأنه أن يمنحنا أفكارًا كثيرةً في استكشاف كيف أنّ سلوك النيوترينو قد يؤدّي إلى نوع واحد من المادة تهيمن على الأخرى (كلّ المادة الموجودة والمادة المضادة نادرة جدًا).

كلّ هذا جيّد على الورق، لكن تذكّر أنّ النيوترينوات لا تظهر بوضوح وهي تلوّح بالأعلام! ولهذا يأتي دور هذه التجارب الأربعة.

يتطلّع مرصد التبريد الفائق للأحداث النادرة تحت الأرض(CUORE) في مختبر غران ساسو في إيطاليا إلى مجرّد إشارة في واحدة من 1000 بلورة من ثاني أكسيد التيلوريوم على حدوث تحلّل بيتا مزدوجٍ بدون نيوترينوات (إذا أفنى الزوج من النيوترينوات بعضهم البعض يتأكّد لنا أن النيوترينو هو نفسه النيوترينو المضاد).

نتوقّع حدوث ذلك بالنسبة لأيّ جزيءٍ واحدٍ من ثاني أكسيد التيلوريوممرّة واحدة في فترة 10 سيبتليون سنة (السيبتليون عدد مكوّن من 1 متبوعًا بـ 24 صفرًا).

وحتّى مع وجود عدد كبير من الجزيئات في كلّ هذه البلورات، فإنّهم يتوقّعون رؤية خمسة اضمحلالات فقط في السنوات الخمس المقبلة.

وقال ليندليوينسلوالعضو في مختبر (CUORE) لجينيفر تشو في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «إنّها عملية نادرة للغاية، وإذا ما لُوحِظت فذلك سيكون أبطأ شيءٍ تمّ قياسه».

بالمناسبة، تُجرى التجربة بأكملها في درجة باردة تُقدَّر بستّدرجات كلفن فوق الصفر المطلق، ممّا يجعلها أبرد مترٍ مكعّبٍ من الفضاء في الكون بأكمله.

تستخدم تجربة ثانية في معهد (Gran Sasso) للعلوم نظير جيرمانيوم-76 (germanium-76) بدلًاعن ذلك.

لديهم تجهيزات أقلّ لملاحظة عملية الفناء، ولكن ثبتت كفاءة المعدّات وحساسيّتها بشكلٍ فعّالٍ للحدّ من خطر عدم ملاحظة الحدث إن حصل.

وعبر المحيط الأطلنطي في نيو مكسيكو، يستضيف مرصد الزينون المخصب (EXO-200) تجربةً على عمق 600 مترٍ (1970 قدمًا) تحت الأرض لمراقبة الاضمحلال المُحتمَل في نظير الزينون-136 (xenon-136).

وأيضًا في الولايات المتّحدة في مرفق أبحاث سانفورد تحت الأرض، يعمل فريق على تجربة تُسمّى (MAJORANA Demonstrator).

هذه التجربة عبارة عن كتلة من الجرمانيوم-76 محفوظة تحت 1,6 كيلومتر من الصخور، داخل منجم قديم.

وقد شارك الفريق مؤخّرًا تحليله الخاصّ لتنظيم التجربة، وأظهر أنّ الصخور المحيطة تُنجز عملًا كبيرًا في حماية أجهزة الكشف الخاصّة بهم من جزيئات الإشعاع الضالّة التي قد تثير إنذاراتٍ خاطئةً.

حتّى الآن، أدّت نتائج هذه التجارب إلى تقليص أماكن البحث عن هذه الظواهر الغريبة الخارقة للقانون.

هذا مفيد، لكنّه ليس الإجابة التي نبحث عنها تمامًا.

ثم من جديد، إنّ معرفتنا عن الكون هي التي على المحك فقط.

لذلك دعونا نتمنّى نجاح التجارب وملاحظة شيء غريب في السنوات القليلة القادمة.


  • ترجمة: حبيب بدران.
  • تدقيق: اسماعيل اليازجي.
  • تحرير: سهى يازجي.
  • المصدر