رغم عقودٍ من البحث المستمر، يحاول العلماء فهم كيفية ملاءمة القوى الأساسية الأربعة للكون معًا.

بينما يمكن لميكانيكا الكم أن تشرح كيف تعمل ثلاثة من هذه القوى معًا على أصغر المقاييس (الكهرومغناطيسية، والقوى النووية الضعيفة والقوية).

وتوضح النسبية العامة كيف تتصرف الأشياء عند أكبر المقاييس (أي: الجاذبية).

لذلك لاتزال الجاذبية في صدارة الأبحاث.

لفهم كيفية تفاعل الجاذبية مع المادة عند أصغر المقاييس، طوّر العلماء بعض التجارب الحديثة.

أحدها هو مختبر الذرة الباردة (CAL) التابع لوكالة ناسا، والذي يقع على متن محطة الفضاء الدولية، والذي حقق مؤخرًا إنجازًا بارزًا من خلال إنشاء سحابات من الذرات تعرف باسم تكاثف (بوز آينشتاين – BECs) كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إنشاء التكاثف في الفضاء، ما وفّر فرصًا جديدة للتحقيق في قوانين الفيزياء.

وتنبأ (ناث بوز) و(ألبرت أينشتاين) قبل 71 عامًا بأن هذا التكاثف هو في الأساس ذرات متناهية الصغر تصل درجة حرارتها إلى أقل من الصفر المُطلّق، وهي النقطة التي يجب أن تتوقف عندها الذرات تمامًا (نظريًا).

هذه الجسيمات طويلة العمر ومراقبةٌ بدقة، ما يجعلها منصةً مثالية لدراسة الظواهر الكمومية، وهذا هو الغرض من مختبر الذرة الباردة بدراسة الغازات الكميّة فائقة البرودة في بيئة الجاذبية الصغرى.

تم تركيب المعمل في مختبر العلوم الأمريكي على متن محطة الفضاء الدولية أواخر مايو، وهو الأول من نوعه في الفضاء.

وهو مصممٌ لتعزيز قدرة العلماء على إجراء قياسات دقيقة للجاذبية ودراسة كيفية تفاعلها مع المادة عند أصغر المقاييس.

وكما أوضح العالِم (روبرت طومسون) المشارك في مشروع مختبر الذرة الباردة بمختبر الدفع النفّاث التابع لوكالة ناسا، في بيانٍ صحفي حديث: «تحقيق تجربة تكاثف (بوز – آينشتاين) على محطة الفضاء هو حلمٌ أصبح حقيقة.

لقد كان طريقًا طويلًا وصعبًا للوصول إلى هنا، ولكنه يستحق النضال».

منذ حوالي أسبوعين، أكد العلماء أن المنشأة أنتجت التكاثف من ذرات (الروبيديوم) وهو عنصر معدني ناعم أبيض فضي من المجموعة القلوية.

وفقًا لتقريرهم، فقد وصلوا إلى درجات حرارة منخفضة تصل إلى 100 (نانو كيلفن – Nano Kelvin) أي: واحد فوق الصفر المطلق، ما يساوي (273- درجة مئوية/459- فهرنهايت).

وهو أبرد من متوسط ​​درجة حرارة الفضاء التي تبلغ (270- درجة مئوية/ 454- فهرنهايت). بسبب سلوكه الفريد، يتميز تكاثف (بوز – آينشتاين) بأنه حالة خامسة من المادة، متميزة عن الغازات والسوائل والمواد الصلبة والبلازما.

في هذا التكاثف، تعمل الذرات مثل الأمواج أكثر من عملها كجسيمات على مقياس الماكروسكوبي (الكبير)، في حين أن هذا السلوك عادةً ما يكون قابلًا للملاحظة على النطاق المجهري فقط.

بالإضافة إلى ذلك، تمتلك الذرات جميعًا أدنى حالة للطاقة وتحمل نفس هوية الموجة، ما يجعلها غير مميزةٍ عن بعضها البعض.

باختصار، تبدأ سحابة الذرات بالتصرف مثل «ذرات فائقة مجتمعة» ما يجعلها أسهل للدراسة.

تم إنتاج أول جسيمات مكثفة في المختبر عام 1995م من قِبل فريق علمي يتألف من (إريك كورنيل) و(كارل ويمان) و(ولفغانغ كيتيرل) الذين تشاركوا جائزة نوبل للفيزياء عام 2001م لإنجازهم التكاثف. منذ ذلك الوقت، أُجريت مئات التجارب على الأرض، حتى تم إرسالها إلى الفضاء على متن صواريخ عابرة.

مُنشأَة مختبر الذرة الباردة كانت الأولى التي تُجري التجربة على محطة الفضاء الدولية، حيث يمكن للعلماء إجراء دراسات يومية على مدى فترات طويلة.

تتكون المنشأة من حاويتين قياسيتين، كل حاوية تتكون من خزانة رباعية كبيرة وأخرى أصغر، تحتوي الخزانة الرباعية على حِزم المختبر، وهي الحيز الذي تنتج فيه سحابة الذرات شديدة البرودة.

ويتم ذلك باستخدام حقول مغناطيسية أو ليزرية مركّزة لإنشاء حاويات خالية من الاحتكاك تُعرف باسم «مصائد الذرات».

عندما تخمد سحابة الذرة داخل المصيدة، تنخفض درجة حرارتها بشكل طبيعي، وتصبح أكثر برودة كلما بقيت في المصيدة. على الأرض، عندما يتم إيقاف هذه المصائد تتسبب الجاذبية بانتقال الذرات مرةً أخرى، ما يعني أنه لا يمكن دراستها إلا لأجزاء من الثانية.

على متن محطة الفضاء الدولية -وهي بيئة من الجاذبية الصغرى- يمكن للتكاثف أن يصل إلى درجات حرارة أكثر برودة من على الأرض، ويمكن للعلماء مراقبة التكاثف لمدة خمس إلى عشر ثوانٍ في كل مرة، ويتم تكرار هذه التجارب لمدة تصل إلى ست ساعات في اليوم الواحد.

وبما أن المنشأة يتم التحكم فيها عن بُعد، من مركز عمليات بعثة مدار الأرض في مختبر الدفع النفاث، فإن العمليات اليومية لا تتطلب تدخلًا من رواد الفضاء على متن المحطة.

كبير مهندسي قسم الفلك والفيزياء في مختبر الدفع النفاث (روبرت شوتويل) أشرف على المشروع منذ فبراير 2017م وأشار في نشرة صحفية حديثة لوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) أن: «مختبر الذرة الباردة هو أداة معقّدة للغاية.

عادةً ما تتضمن تجارب التكاثف معداتٍ كافية لملء غرفة، وتتطلب مراقبة شبه ثابتة من قِبل العلماء، في حين أن مختبر الذرة الباردة بحجم ثلاجة صغيرة ويمكن تشغيله عن بُعد من الأرض.

لقد كان صراعًا صعبًا وتطلّب جهدًا كبيرًا للتغلب على جميع العقبات اللازمة لإنتاج منشأة متطورة تعمل في محطة الفضاء».

بالنظر إلى المستقبل، يريد علماء مختبر الذرة الباردة الذهاب إلى أبعد من ذلك وتحقيق درجات حرارة أقل من أي شيء تم تحقيقه على الأرض.

بالإضافة إلى (الروبيديوم)، يعمل فريق مختبر الذرة الباردة أيضًا على تحقيق التكاثف باستخدام نظيرين مختلفين من ذرات (البوتاسيوم).

في الوقت الحالي مازال مختبر الذرة الباردة في مرحلة الاختبار التي تتكون من فريق عمليات يُجري سلسلة طويلة من الاختبارات لمعرفة كيف سيعمل المختبر في الجاذبية الصغرى.

ومع ذلك، فبمجرد تشغيله ستُجري خمس مجموعات علمية – بما في ذلك مجموعات بقيادة العالمين (كورنيل) و(كيترل) – تجارب فيه خلال السنة الأولى. ومن المتوقع أن تبدأ المرحلة العلمية في أوائل سبتمبر وستستمر ثلاث سنوات.

قال (كمال أودريهيري) مدير مهمة (JPL) في مختبر الذرة الباردة: «هناك فريق من العلماء على امتداد العالم جاهز ومتحمس لاستخدام هذه المنشأة.

إن المجموعة المتنوعة من التجارب التي يخططون لتنفيذها تعني أن هناك العديد من التقنيات للتلاعب والتبريد في الذرات التي نحتاجها للتكيف مع الجاذبية الصغرى قبل أن نحوّل الأداة إلى الباحثين الرئيسيين لبدء العمليات العلمية».

مع مرور الوقت، قد يساعد مختبر الذرة الباردة (CAL) العلماء على فهم كيفية عمل الجاذبية عند أصغر المقاييس.

جنبًا إلى جنب، مع التجارب عالية الطاقة التي أجرتها المنظمة الأوروبية للبحوث النووية، وغيرها من مختبرات الفيزياء الجزيئية في جميع أنحاء العالم، هذا يمكن أن يؤدي في النهاية إلى نظرية كل شيء (ToE) وفهم كامل للكيفية التي يعمل بها الكون.


  • ترجمة: أحمد طريف المدرس
  • تدقيق: محمد عبدالحميد ابوقصيصة
  • تحرير: صهيب الأغبري
  • المصدر