الفوضى في كل مكان


إن الأنظمة في الطبيعة معقدة للغاية، فعندما نتحدث عنها فإن الشيء الوحيد المؤكد هو أنه لا شيء أكيد، فيقول ألبرت آينشتاين: “بقدر ما تنطبق القوانين الرياضية على الواقع فإنها تكون غير مؤكدة، وبقدر ما تكون مؤكدة فإنها لا تنطبق على الواقع”. نظرية الفوضى تمكنت من وصف الغير متوقع، وساعدت على سبر أغوار العديد من الأمور كأنظمة الطقس وهجرة الطيور والأنظمة الاقتصادية وغيرها.
قبل البدء بالموضوع يجب الانتباه إلى أمر هام جداً، وهو أن الفوضى التي نتحدث عنها هنا يجب فهمها بالسياق العلمي وليس بالمفهوم المتعارف عليه بحياتنا العادية (بمعنى عدم وجود انتظام أو ترتيب). تشير هذه الكلمة إلى انعدام ظاهري للرتابة في نظام ما، وبالرغم من ذلك وبنفس الوقت انصياع هذا النظام إلى قوانين معينة.

إن ثورة ميكانيك الكم أدرك الناس من خلالها أن كل شيء يحصل نتيجة لشيء آخر “مسبب”، ولكن الطبيعة غالباً ما تعمل بشكل نماذج نشأت بسبب حفنة من العديد من التذبذبات الصغيرة، مجموع هذه التذبذبات يمثل السبب الذي يؤدي لحدوث شيء ما، وبمعنى آخر: الأنظمة الطبيعية هي أنظمة غير خطية.

كيف بدأ كل هذا؟

في الستينيات من القرن الماضي قام إدوارد لورنز Edward Norton Lorenz، وهو عالم أرصاد جوية، بإنشاء نموذجٍ لمحاكاة أحوال الطقس والتنبؤ بها، حيث يقوم بإدخال قيم ابتدائية لبارامترات معينة (مثلًا درجة الحرارة، الرطوبة…). وحدث أن عَمِل على نموذج بقيم ابتدائية معينة وحصل على النتائج، ثم أراد بعدها أن يكرر العملية ولكن بدلاً من أن يبدأ من القيم الابتدائية السابقة قرر أن يبدأ من نقطة معينة ناتجة عن المحاكاة السابقة، فقام بإدخال بارامترات هذه النقطة على أنها شروط الحالة الابتدائية، وبإجراء المحاكاة توقع أن يحصل على نفس النتائج النهائية ولكنه تفاجئ بنتائج أخرى مختلفة تماماً عنها، وبعد أن بحث في الأمر اكتشف أن السبب هو إدخاله لقيم غير دقيقة تماماً فبدلاً من إدخال 6 أرقام بعد الفاصلة قام بتقريب الرقم وأدخل 3 أرقام بعد الفاصلة. حتى ذلك الوقت كانت كل التوقعات العلمية تقول بوجوب عدم تأثير هذا التقريب بهذا الشكل الكبير، وكان من المتوقع أن يكون الشكل الناتج له بعض الاختلاف عن سابقه، ولكن مشابه جداً ولحد بعيد مع الشكل الأول. هذا ما يسمى بالحساسية للشروط الابتدائية، حيث أن تغيير طفيف جداً في المدخلات يسبب تغيراً كبيراً جداً في المخرجات.

تأثير الفراشة

في عام 1972 سأل لورنز السؤال الشهير: هل من الممكن لرفرفة جناح فراشة في البرازيل أن تسفر عن إعصار في ولاية تكساس؟ مثال كهذا، حيث يكون فيه نظام صغير كأجنحة الفراشة مسؤولٌ عن تكوين نظام آخر بعيد وكبير كالإعصار في تكساس، يلقي الضوء على الحساسية التي تكلمنا عنها سابقاً واستحالة عملية التوقع للنتائج في الأنظمة المعقدة.

الجاذب Attractor

الأنظمة المعقدة غالباً ما تبدو فوضوية جداً بحيث لايمكننا التعرف على نموذج متكرر فيها. وباستخدام تقنيات معينة، يمكن اختصار الكثير من البارامترات بنقطة تمثل على شكل بياني. في المخطط السابق ذكره كل نقطة تمثل حالة متكاملة من سرعة الرياح، تساقط الأمطار، درجة حرارة الهواء.. الخ، وهكذا نقطة بعدها نقطة ينتج الشكل، وكل نقطة فيه تمثل حالة الطقس بلحظة ما فيقدم لنا نظرة لتطور نظام الطقس.
وكما تحدثنا فإن الأنظمة المعقدة غالباً ما تبدي نموذجاً مكرراً. حيث أنه بإدخال عدة أنظمة في مخطط بياني بسيط يظهر أنه هنالك حالة من نمط ما يحاول النظام تحقيقها، أو بمعنى آخر، توازن من نوع ما يحاول النظام تحقيقه.

من أجل فهم هذا الأمر فلنأخذ المثال التالي: لنفترض أننا ندرس نظام معين وليكن مدينة تعداد سكانها 10.000 شخص، وأجريت دراسة أوضحت أن هذا التعداد من السكان يحتاج لمجَمَّع تجاري، مسبحين، ومكتبة، ولنفترض أن هذا العدد من المنشآت الخدمية قد نال رضى السكان، أي أن التوازن محقق، فيما بعد تقرر شركة ما أن تنشئ مصنعاً للمثلجات في ضواحي هذه المدينة، ممّا سيخلق فرصاً لعمل 10.000 شخص سيتخذون من المدينة سكناً لهم، فتتوسع المدينة لتلبي احتياجات التعداد السكاني الجديد الذي بلغ الآن 20.000 شخص، سيصبح في المدينة مجمعين تجاريين، أربعة مسابح و مكتبتين، وتحافظ المدينة على توازنها، فإن هذا التوازن يسمى جاذباً Attractor.

والآن فلنتخيل السيناريو التالي: بدلاً من إضافة 10.000 إلى التعداد الأصلي للسكان سنقوم بإزالة 3000 شخص أي يصبح تعداد المدينة 7000 شخص، أصحاب المتاجر يقولون بأنه لكي يدرّ المتجر ربحاً يجب أن يكون هناك 80.000 شخص على الأقل، لذلك وبعد فترة سيتم إغلاق هذا المجمع التجاري، والآن أصبح لدينا مدينة بدون مجمع تجاري. ارتفعت المطالب وقررت شركة أخرى افتتاح مجمع آخر، آملة أن يجذب هذا أناس جدداً للمدينة، ويحدث ذلك بالفعل، ولكن أناس آخرين كانوا قد بدؤوا بالانتقال إلى خارج المدينة وافتتاح المجمع الجديد لن يغير رأيهم. تبقي الشركة على المجمع مفتوحاً لمدة سنة ومن ثم تقرر إغلاقه لأنه لا يمكن أن يأتي بالربح المرجو منه، ونتيجة لذلك ينتقل الناس خارجاً، وترتفع المطالب. بعدها تأتي شركة أخرى تفتتح متجراً آخر، ينتقل أناس جدد إلى المدينة ولكن بشكل غير كافي، يغلق المتجر مجدداً وهكذا.
هذا الوضع هو أيضا نوع من التوازن، ولكنه توازن ديناميكي، وهو ما يسمى بالجاذب الغريب Strange Attractor.
cha1
الفرق بين النوعين من الجواذب هو أنه بالحالة الأولى النظام يتوازن بوصوله إلى حالة مستقرة لا تتغير، بينما الجاذب الغريب يكون توازنه بسلوك مسار معين حيث ينتقل النظام من حالة لأخرى بدون الاستقرار على حالة معينة أبداً.
هندسة الكسيريات Fractal Geometry
فلننظر إلى هذا المسار المعين الذي يتكرر في الأنظمة العشوائية بطريقة أخرى، تأمل معنا العبارات التالية:
طول لا نهائي في مساحة محدودة، وعدد لانهائي في طول يساوي الصفر. كلامٌ غريب؟ حسناً، إليك الأمثلة التالية:

مثال 1:

لدينا مثلث متساوي الأضلاع، في منتصف كل ضلع من أضلاعه نقوم برسم مثلث آخر متساوي الأضلاع أيضاً طول ضلعه يساوي ثلث طول المثلث الأصلي، ونكرر العملية لكل من المثلثات الثلاثة الجديدة، أي نرسم في منتصف كل ضلع من أضلاعها مثلث متساوي الأضلاع بطول ضلع يساوي ثلث طول الضلع المرسوم عليها، نكرر هذه العملية باستمرار فنحصل على ما يعرف بالشكل ذو الأبعاد الكسيرية، وهناك العديد من الأشكال التي يمكننا الحصول عليها بهذه الطريقة، والشكل الناتج يسمى بندف كوخ Koch snowflake، ونلاحظ أنه سيبقى محدوداً بالدائرة المارة برؤوس المثلث الأصلي، بينما طول محيطه هو طول لا نهائي، بتعبير آخر: طول لا نهائي ضمن مساحة محدودة.
cha2

مثال 2:

إليك هذا المثال المشابه، فليكن لدينا خط مستقيم بطول معين، نقوم بإزالة الثلث الأوسط من المستقيم، ثم نزيل القسم الأوسط من الأقسام المتبقية ونكرر العملية باستمرار فنحصل على ما يسمى بغبار كانتورCantor Dust، الحالة التي نصل إليها بالنهاية يمكن وصفها بما يلي: عدد غير منته ضمن طول يساوي الصفر.

cha3

شأن هذه الأمثلة شأن أي نظام طبيعي، حيث يبدي النظام المعقد عشوائية وعدم ترتيب، ولكن هذه العشوائية هي نتيجة لتكرار نموذج معين لا نستطيع إدراكه لأنه يتوقف على العديد من البارامترات.
وكما يقول بينوا ماندلبروت Benoît B. Mandelbrot: “الغيوم ليست كروية الشكل، والجبال ليست بمخاريط، الخطوط الساحلية ليست بدوائر، والنباح ليس بصوت ناعم، والبرق لا ينتقل بخط مستقيم.”


إعداد: آلاء صعيدي
تدقيق: الياس سعود
المصدر 1
المصدر 2
المصدر 3