عادة ما يبذل علماء الفلك وعلماء الفيزياء الفلكية جهودًا جبارة وبمعايير دقيقة ومثيرة للاهتمام من حيث المسافة والزمن، فلا يسعك إلا أن تشعر بالذهول من الاكتشافات الجديدة التي يحققونها. مثلًا، قياس درجة حرارة الكون في مراحله الأولى، بعد نحو 880 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم، بمراقبة الظل الناجم عن سحابة من غاز الماء البارد على بُعد 13.8 مليار سنة ضوئية من الأرض.

تُعد هذه أول نظرة لنا حتى الآن عن درجة حرارة الكون، التي يظن العلماء أنها تبرد بمرور الوقت مع تمدد الكون وتوسعه، وتُعد أيضًا بيانات مفيدة حقًا في البحث عن تلك القوى الغامضة وراء التوسع: الطاقة المظلمة.

يقول عالم الفلك أكسل فايس، من معهد ماكس بلانك لعلم الفلك الراديوي: «هذا الحدث المهم لا يؤكد فقط مسار البرودة المتوقعة للكون في حقبة زمنية أبكر بكثير مما قيس سابقًا، بل قد يكون له أيضًا آثار مباشرة على فهم طبيعة الطاقة المظلمة».

كان مفتاح الاَلية التي استخدموها قياس التباين في درجات الحرارة، باستخدام تلسكوب المصفوفة المليمترية الشمالية الممتدة في فرنسا، إذ ركز علماء الفلك على مجرة (HFLS3) المعروفة باسم مجرة «الانفجار النجمي»، بسبب الأعداد الهائلة من النجوم التي تنتجها.

يستغرق الضوء وقتًا طويلًا للوصول إلينا من (HFLS3)، حتى أن ما نراه هو ما كان بعد مرور أقل من مليار عام من عمر الكون. ما نراه هو سحابة كبيرة من بخار الماء بيننا وبين المجرة، سحابة أبرد من إشعاع الخلفية الكوني الميكروي، الذي يشير إلى درجة حرارة الكون.

يؤدي اختلاف درجة الحرارة بين الغاز الأبرد و إشعاع الخلفية الكوني الميكروي إلى إنشاء ما يسمى «خطوط الامتصاص»، بدراسة هذه الخطوط تُحدد درجة حرارة إشعاع الخلفية الكوني الميكروي.

تُعد خطوط الامتصاص جزءًا معقدًا من الفيزياء الفلكية، أصبح ممكنًا بفضل انبعاث الأشعة تحت الحمراء من النجوم الناشئة في (HFLS3).

قدّر الباحثون درجة حرارة إشعاع الخلفية الكوني الميكروي بين 16.4 و30.2 كلفن (256.8- إلى 243- درجة مئوية) في الفترة الزمنية التي يمثلها (HFLS3)، ما يتناسب مع توقعات النموذج الكوني السابقة، البالغة 20 كلفن، ما يؤكد دقة النموذج.

يقول عالم الفيزياء الفلكية دومينيك ريتشرز من جامعة كولونيا: «إضافةً إلى إثبات برودة الكون المبكر، يوضح لنا الاكتشاف أن الكون في بداياته كان يتمتع ببعض الخصائص الفيزيائية المحددة التي لم تعد موجودة اليوم. في وقت مبكر جدًا، بعد نحو 1.5 مليار سنة من الانفجار العظيم، كان إشعاع الخلفية الكوني الميكروي باردًا جدًا بالفعل بحيث لا تمكن ملاحظة هذا التأثير. لدينا الاَن نافذة مراقبة فريدة على الكون المبكر جدًا».

تُظهر النتائج أن التقديرات السابقة لمعدل انخفاض درجة الحرارة متوافقة مع التوسع في المنطقة الصحيحة. محاولة أخذ القراءات الآن لن تنجح، لأن إشعاع الخلفية الكوني الميكروي بارد جدًا، فلا ينتج التباين ذاته في درجات الحرارة.

عندما يتعلق الأمر بالطاقة المظلمة، يُعتقد أن هذا يؤدي إلى تمدد الكون، لكن القدرة على مراقبتها مباشرةً تظل خارج إمكانية الأدوات المتوفرة حاليًا.

مع ذلك يمكننا معرفة المزيد عن الطاقة المظلمة بمراقبة تأثيرها، متضمنًا معدل تمدد الكون، وانخفاض درجة حرارة إشعاع الخلفية الكوني الميكروي.

عادةً يؤدي جزء من بحثٍ ما إلى ولادة بحوث أخرى، إذ يبحث فريق من الباحثين الآن عن سُحب غازية من الماء البارد يمكن تطبيق التقنية ذاتها عليها، بهدف الحصول على نتائج أخرى خلال 1.5 مليار سنة بعد الانفجار العظيم.

يقول عالم الفلك روبرتو نيري، من معهد الفلك الراديوي المليمتري: «يتابع فريقنا العمل باستخدام تلسكوب المصفوفة المليمترية الشمالية الممتدة، بدراسة المناطق المحيطة بالمجرات الأخرى، ومع التحسينات المتوقعة في الدقة في دراسات عينات أكبر من السحب المائية، يبقى أن نرى ما إذا كان فهمنا الحالي والأساسي لتوسع الكون صحيحًا».

اقرأ أيضًا:

ما مدى حرارة الكون؟

اكتشف العلماء أدلة لفيزياء جديدة وغريبة في إشعاع الخلفية الكونية

ترجمة: أنور عبد العزيز الأديب

تدقيق: تسبيح علي

المصدر