اللاشيء، الصفر، المجموعة الفارغة، المساحة الفارغة … نفكر في العدم بأنه غياب أو نقص أو انعدام قيمة، ولكن من المثير للاهتمام أن اللاشيء يبدو في الغالب المصدر! فنحن بحاجة إلى مساحة فارغة للابتكار وإلى الصفر كأساس مترابط منطقيًا من أجل القياس، وفي الواقع إن نظرية التضخم الكوني تجعل الكون بأكمله ينبثق من اللاشيء.

أينما نظرنا يبدو اللاشيء وكأنه شيء في الحقيقة، فهل ما نسميه لاشيء موجود بالفعل؟ يبدو أن اللاشيء يتحول من شكل إلى آخر. ومن بعض رموزه:

الصفر العلمي والفراغ والقيمة العدم، والكثير منها إدراكي كالفكرة الميتافيزيقية عن اللاوجود، أو منفعي كعبارة «لا يوجد شيء يختبئ تحت السرير»، فهل من الممكن أن تكون جميع (اللاأشياء) هي ذاتها؟ أو هل يُعد اللاشيء كلمة لوصف كثير من الأشياء المختلفة؟

تناول كتاب اللاشيء للفيلسوف روي سورنسون كثيرًا من الألغاز المفاهيمية، وتضمنت التجارب الفكرية والتناقضات، وذكر في كتابه تمسك المفكرين العظماء بفكرة اللاشيء. وقد اجتاز سورنسون الذي أطلق عليه اسم (مجنون الفلسفة) اللاشيء المطلق والعلمي والافتراضي وغيرهم الكثير. وقد أقرن كل مفهوم بفيلسوف أو عالم، مع إن السؤال الذي لطالما تخاطر إلى ذهنهم: كيف ينسجم اللاشيء مع العقيدة الدينية؟

لاحظ سورنسون أن إسحاق نيوتن تساءل إن كانت المساحة الفارغة مادة أم خاصية، وكتب: «من شروط المادة قدرتها على التصرف على أساس أي مادة، والخلاء لا يسبب أي شيء»، في النهاية قرر إسحاق نيوتن حل المشكلة بملء الفراغ بالأثير، وأشار إلى أن اللاشيء هو نموذج للإمكانية، ومساحة لله ليخلق الكون، بالإضافة إلى أنه نهاية القدرة أو الهاوية أو نهاية الطريق.

في وصف اللاشيء، يقول سورنسون: «الثقوب في الإسفنج هي نقص في الإسفنج، الثقوب هي التي تجعل الإسفنج مفيدًا لامتصاص السائل. قد يوجد الإسفنج دون الثقوب، لكن الثقوب لا توجد بدون الإسفنج، الثقوب هي طفيليات تعتمد على مضيفها».

ولكن هذا هو المكان الذي يصبح فيه اللاشيء صعبًا، لأن هذه العبارة ليست صحيحة دائمًا. فالرقم صفر لا يدل على شيء يمثل حرفيًا شكل الثقب. لكنه يحتل مكانًا أساسيًا على خط الأعداد، ولا نستطيع دونه التعبير عن الأرقام السالبة، ولن يكون للكون أي معنى.

وربما يكون الثقب الأسود هو مولّد المجرات: الثقب الأسود في مركز المجرة هاينز 2-10 يصنع النجوم، ولا يبتلعها. وهناك اللاشيء قبل الانفجار العظيم، ويشير مصطلح (طاقة نقطة الصفر) إلى الطاقة في حالة الفراغ، ويعتقد بعض الفيزيائيين أن حالة الخلاء الكلي للكون (الثابت الكوني) هي الصفر.

من البديهي أن يدب الرعب في قلوبنا عندما نسمع باللاشيء الأكبر، الفراغ اللامتناهي، الموت. عندما ذهب ويليام شاتنر إلى الفضاء في سن التسعين، متوقعًا مواجهة لغز الكون، فوجد نفسه يقول بدلاً من ذلك: «لم يكن هناك لغز، ولا رهبة عظيمة. كل ما رأيته كان الموت. رأيت فراغًا باردًا، مظلمًا، أسود. كان على عكس أي سواد تراه أو تشعر به على الأرض، لقد كان عميقًا و شاملًا».

لكن في مفارقة أخرى متعلقة باللاشيء، لم يكن شاتنر في الواقع ينظر إلى الخلاء، بل مجرد فراغ، ففي تلك اللحظة كانت توجد الكثير من الأشياء التي لم يستطع رؤيتها.

اللاشيء الكمي

تُعد نظرية الحقل الكمي النظرية الأكثر نجاحًا في الفيزياء، لأنها دقيقة جدًا في التنبؤ بنتائج أنواع لا حصر لها من التجارب. وتقول إننا لا نعيش في كون تطفو فيه المادة في الفراغ، بل نعيش في عالم من حقول الطاقة التي تنتشر في جميع أنحاء الكون وتتفاعل مع بعضها وتخلق كل ما نراه.

في الواقع، نحن جزء من هذه الحقول. يشبهها بعض الفيزيائيين بالماء في بركة السباحة، ويقارنها آخرون بمجال حرارة موزع في جميع أنحاء غرفة بمستويات مختلفة من الطاقة في نقاط مختلفة.

تتحرك الحقول باستمرار بسبب التقلبات الكمية، وهي تغيرات مؤقتة في الطاقة، كتموجات الطاقة في الموجة، عندما يثير شيء ما الجسيمات في الحقل. فقد يتسبب المغناطيس الكهربائي مثلًا في تغير الطاقة ضمن الحقل الكهرومغناطيسي.

ما تزال أدنى حالة طاقة في الحقول أو حالة الفراغ تعج بالحركة، لأن أزواج الجسيمات الموجبة والسالبة تقترض الطاقة باستمرار من الفراغ، تظهر في الوجود، وتخرج من الوجود مرة أخرى، لتعيد الطاقة إلى الفراغ، وتُعرف هذه الجسيمات باسم الجسيمات الافتراضية. وعندما يُثار الحقل أو يصل إلى مستوى طاقي أعلى، يكون له موجات تخلق جسيمات أولية لا تفنى. هذه الجسيمات، تتفاعل مع بعضها وهي التي تخلق العالم الذي نعرفه.

ويعتمد نوع الجسيم الذي ينتجه الحقل على نوع ذلك الحقل. فيوجد 12 حقلًا من المادة التي تنتجها الإلكترونات والكواركات العلوية والكواركات السفلية وهي أساس البناء لجميع الذرات والجزيئات المحايدة، وتوجد أيضًا ثلاثة حقول للقوة: الكهرومغناطيسية بجسيماتها والفوتونات، والقوة النووية القوية مع غلووناتها، والقوة النووية الضعيفة ببوزوناتها W و Z.

يقول ديفيد تونغ بوصفه عالم فيزياء نظرية من جامعة كامبريدج: «لولا حقول القوة، فإن جسيمات المادة ستتجول في الكون كالأرواح الضائعة، ولن تتفاعل أبدًا، ولن تفعل أي شيء مثير للاهتمام».

ثم لدينا حقل هيغز الذي يشبهه تونغ بدبس السكر (المولاس)، وهو منتشر في جميع أنحاء الكون ويعطي الجسيمات الأخرى كتلة بطريقة تمنعها من الحركة بسرعة الضوء، مع إنه يعترف بأن تشبيهه خاطئ لأنه يحمل معنى الاحتكاك، وفي الواقع تتفاعل الجسيمات بطريقة مختلفة مع حقل هيغز.

الحقول موجودة في كل مكان لكنها تتفاعل جميعًا بطريقة مختلفة، إذ تتجاهل بعض الجسيمات بعضها تمامًا، بينما تؤثر بعض الجسيمات في بعضها وتخلق ردود فعل. وبعملها معًا تمثل هذه الحقول كل ما نعرفه وما نراه، بالإضافة إلى الكثير من الذي لا نعرفه ولا نراه، لكن الغريب أن تكوين الجسيمات التي تصنع شيئًا ما هو الاستثناء.

فمثلًا، تولد الذرة عندما توجد طاقة كافية في حقول الكواركات لتكوين كواركات لا تفنى بواسطة الكواركات المضادة للمادة (مع إننا غير متأكدين من السبب).

تتصل جسيمات الغلونات (ذات القوة الكبيرة) مع كواركين علويين وكوارك سفلي واحد لتكوين بروتون، ثم توصل الغلوونات البروتونات بالنيوترونات لتشكيل النواة.

يرى الفيزيائيون أن الكون المرئي هو البقايا، الجسيم الواحد في المليار الذي تمكن من النجاة من عملية خلق الجسيمات الافتراضية أو تدميرها، والجسيمات في المادة المظلمة هي مادة مختلفة تمامًا.

لماذا يوجد شيء بدلًا من اللاشيء؟

إن امتلاء الكون بالجسيمات الافتراضية لا ينفي تمامًا فكرة اللاشيء. فقبل كل شيء كان هناك اللاشيء ما قبل الانفجار العظيم، ولا نعرف ما كان ذلك، ولا نفهم طبيعة هذا اللاشيء (الحقول الشاسعة للطاقة الكمومية) التي تبدو وكأنها مزيج من المكونات والمادة والقوة لخلق عالم.

لا يعرف الفيزيائيون سبب بقاء أي جسيمات أساسية بعد الانفجار العظيم، أشار الفيزيائي النظري وعالم الكونيات لورانس كراوس في كتابه (كون من اللاشيء) إلى أن الإجابة كانت في الدليل: تؤدي الطبيعة غير المستقرة للاشيء إلى ظهور جسيمات أولية، وبهذا ينهي الجدال، ويقول في مقابلة مع الراديو الوطني العام: «السؤال عن سبب وجود شيء بدلاً من اللاشيء هو في الحقيقة سؤال علمي، وليس سؤالًا دينيًا أو فلسفيًا».

وقد كتب بعض الفلاسفة انتقادات شديدة بحق كتابه، وجادلوا بأن كون العالم المحيط بنا شيء بدلاً من اللاشيء لا يمكن أن يكون سببًا لذلك. ويبقى السؤال الفلسفي، لماذا توجد بعض الجسيمات الأولية؟ هل يوجد في عالم ما عالم من اللاشيء المطلق ولا حتى جسيمات افتراضية؟ وقد شارك سورنسون وكراوس نقاشًا عبر الإنترنت حول هذا الموضوع.

قال سورنسون في المقابلة: «كان الغرض من حديثنا هو التحدث بلطف مع بعضنا البعض. كان كراوس محبطًا لأنه وبحسب اعتقاده، إذا التزمت بالسؤال الأصلي، فلن تكون قادرًا على إجابته، لأنه يفكر في الإجابات التي أستطيع تقديمها بوصفي عالم فيزياء».

وعندما سُئل سورنسون عن رأيه في طبيعة اللاشيء مع إنه فيلسوف قال: «لدي الكثير من الإجابات». وبهذا نصل إلى ذلك اللاشيء المتغير مرة أخرى، إذ يرى سورنسون أن السؤال «لماذا يوجد شيء بدلاً من اللاشيء» هو سؤال عميق وصعب ويستحق الجهد في التحقق.

في النهاية لا يوجد جواب مثبت حتى الآن، لكن لحسن حظ الفلاسفة والفيزيائيين، تظهر بعض أفضل الإجابات بسبب ذلك.

اقرأ أيضًا:

ما أصل الحياة على كوكبنا؟ قد يكون تطور بروتينات معينة هو ما أدى لظهور الحياة

اكتشاف أربعة جسيمات أصغر من الذرة قد تختبر فهمنا قوانين الطبيعة

ترجمة: حنا مسيكه

تدقيق: بشير حمّادة

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر