تاريخ اكتشاف خط الهيدروجين (أشعة الـ 21 سنتيمتر)

كانت هولندا خلال أغلب سنوات الحرب العالمية الثانية ترزح تحت الاحتلال النازي، الذي قام بحملة اعتقالات واسعة بين أساتذة الجامعات ومنع الكثير من الفعاليات الأكاديمية والعلمية. لكن هذه الاجراءات والقيود القاسية لم تمنع الكثيرين من أساتذة الجامعات من الاستمرار في العطاء العلمي والفكري، فمثلًا استمر الكثيرون ممن لم يُعتقلوا بإعطاء محاضرات للطلاب سرًا، أما من اعتُقلوا فرتبوا محاضرات تثقيفية لغيرهم من المسجونين. هذه الروح المقاوِمَة أنتجت إحدى أهم مساهمات العلماء الهولنديين العلمية لفيزياء الفلك، وهي إدراك أهمية ما يُسمى خط الهيدروجين -خط الـ 21 سنتيمتر- الذي يقع في مجال أشعة الراديو في علم الفلك.

حتى نفهم ماهية هذا الاكتشاف وأهميته، علينا العودة إلى أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، حين كان المهندس الأمريكي كارل جانسكي يعمل في مختبرات بل (Bell Labs) على تطوير هوائيّات للاتصال العابر للمحيط الأطلسي. كانت هذه الهوائيات حساسة للأشعة الكهرومغناطيسية بطول 14.6 مترًا، أي تقع في مجال أشعة الراديو، التي تُعرف بأنها أي أشعة كهرومغناطيسية طول موجتها أكبر من 1 مليمتر، مع ملاحظة أنه لا يوجد حد أعلى لطول موجة أشعة الراديو، وقد قيست أمواج يزيد طولها على 100 كيلومتر. خلال فحص الهوائيات، لاحظ جانسكي تشويشًا يتكرر كل 24 ساعة. ظن جانسكي في البداية أن مصدر هذا التشويش هو الشمس، لأن دورة الأرض اليومية حول نفسها تستغرق 24 ساعة، لكنه اكتشف لاحقًا أن مصدره أشعة تأتي من مصدر آخر ثابت في سماء الليل، نراه كأنه يسير في الليل دورةً واحدة كل 24 ساعة، هذا المصدر هو مجرتنا، مجرة درب التبّانة. كان هذا أول اكتشاف لأشعة راديو تأتي من الفضاء الخارجي، ما قاد البحث عن مصادر أشعة الراديو التي تأتي من المجرة.

نعود الآن إلى قصة علماء الفلك الهولنديين خلال الحرب. بادر العالم الهولندي يان أورت، أحد أهم علماء الفلك في القرن العشرين، بترتيب سلسلة محاضرات تتناول آخر التطورات في علم الفلك، يلقيها العلماء وطلاب الدكتوراه الذين لم يعتقلهم النازي. أقترح أورت أن يكون أحد الموضوعات مصادر أشعة الراديو المكتشفة قبل أقل من عقد، وطلب من أحد ألمع الطلاب، هندريك فان دي هولست، أن يتحدث عن المصادر المحتملة لأشعة الراديو في الفلك. وفي أبريل 1944 ألقى فان دي هولست محاضرةً حول أشعة الراديو ذكر فيها المصادر المختلفة في مجرتنا التي قد تطلق هذه الأشعة، ذكر أهمها في نهاية محاضرته، وهي أشعة خاصة بطيف الهيدروجين تُسمى أشعة خط الهيدروجين، طول موجتها 21.1 سنتيمترًا، لذلك تُسمى أيضا «أشعة الـ 21 سنتيمتر»، التي ثبت أنها مصدر مهم لأشعة الراديو في الفلك، خاصةً في مجرتنا. في هذه المحاضرة، والمقال الذي كتبه فان دي هولست حول مضمونها سنة 1945، أدركنا للمرة الأولى إمكانية رصد الهيدروجين المتعادل في الكون مباشرةً.

بعد انتهاء الحرب مباشرة وتحرر هولندا من قبضة النازيين، بادر أورت عام 1949 ببناء تلسكوب راديو لرصد هذه الأشعة من مجرتنا. استخدم أورت وزملاؤه أطباق رادار -تركها الجيش النازي- لرصد هذه الأشعة. كان تقدمهم نحو رصد الأشعة جيدًا، إلا أن مهندس الراديو بالفريق لم يكن على مستوى المهمة، إذ تسبب عدم إلمامه في حريق في مارس 1949 دمر أغلب الأجهزة. أدى هذا الحريق إلى تأخّر الهولنديين نحو سنة، ما أتاح لفريق منافس من جامعة هارفارد الأمريكية، بقيادة هارولد يوين وإدوارد بورسل، بناء تلسكوب راديو آخر مكنهم من رصد أشعة خط الهيدروجين القادمة من مجرتنا سنة 1951، بالضبط كما توقع فان دي هولست. بعد أربعة أشهر من إعلانهم رصد هذه الأشعة، أعلن الفريق الهولندي بقيادة أورت، ومهندس الراديو الجديد مولر، تأكيد صحة نتائج الفريق الأمريكي. سنة 1951 نشرت مجلة (Nature) في العدد 168 مقالين متتاليين عن هذا الاكتشاف المهم، الأول للفريق الأمريكي والثاني للفريق الهولندي.

منذ ذلك الوقت تطور هذا المجال نظريًا ورصديًا بدرجة كبيرة، ليصبح خط الهيدروجين اليوم أحد أهم الوسائل لرصد الأجرام الفلكية والكون عمومًا. لكن ما هذا الخط؟ وما مصدره؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن ندخل قليلًا في تفاصيل فيزيائية.

فيزياء خط الهيدروجين

في ذرة الهيدروجين المتعادلة يوجد بروتون وإلكترون، يؤثر كل منهما في الآخر بعدة طرق، منها التجاذب الكهربائي بين شحنة البروتون الموجبة وشحنة الإلكترون السالبة. تذكّر أن الأبعاد التي نتحدث عنها هنا صغيرة جدًا، إذ إن البعد بين الإلكترون والبروتون نحو خمسة أجزاء من مليار جزء من السنتيمتر (5.29 X 10 مرفوعة للأس -9 سنتيمتر). في هذه الأبعاد، تحكم نظرية الكمّ قوانين الفيزياء، لا قوانين نيوتن. لصعوبتها وغرابتها، لن نتطرق إلى تفاصيل نظرية الكم، التي وصفتها بتفصيل كبير في مقال آخر، لكننا سنذكر بعض السمات التي تهمنا هنا.

من صفات الجسيمات الصغيرة ما يُسمى «اللف المغزلي» (Spin)، وهو يشبه مقدار الحركة الزاويّة في الميكانيكا الكلاسيكية، أو عزم دوران الجسم حول نفسه في الفيزياء الكلاسيكية. قيمة اللف المغزلي لكل من الإلكترون والبروتون هي ½، ولا يمكن أن تكون أي رقم آخر. والأغرب أن اتجاه هذه القيمة إما أن يكون إلى أعلى وإما إلى أسفل فقط. أي أنه في ذرة الهيدروجين احتمالان، الأول أن يكون اتجاه اللف المغزلي للبروتون والإلكترون متوازيًا -كما يظهر في الشق الأيسر من الشكل رقم 1- أو أن يكون اتجاه اللف المغزلي لكل منهما متعاكسًا، كما يظهر في الشق الأيمن من الشكل.

الشكل رقم 1: ذرة الهيدروجين المتعادل. على اليمين نرى اللف المغزلي للإلكترون معاكس للف المغزلي للبروتون، وهي حالة الطاقة الأقل. على اليسار اللف المغزلي للإلكترون والبروتون متوازيان. عندما ينتقل الهيدروجين من الحالة المُثارة -يسار- إلى الحالة القاعيّة -يمين- يُطلق فوتونًا بطول موجة 21 سنتيمتر

الشكل رقم 1: ذرة الهيدروجين المتعادل. على اليمين نرى اللف المغزلي للإلكترون معاكس للف المغزلي للبروتون، وهي حالة الطاقة الأقل. على اليسار اللف المغزلي للإلكترون والبروتون متوازيان. عندما ينتقل الهيدروجين من الحالة المُثارة -يسار- إلى الحالة القاعيّة -يمين- يُطلق فوتونًا بطول موجة 21 سنتيمتر

نتيجة التفاعل بين اللف المغزلي للإلكترون والبروتون، أو بالأحرى العزم المغناطيسي الناتج عن اللف المغزلي للجسمين، يوجد فرق في طاقة ذرة الهيدروجين بين الحالتين، إذ إن الطاقة في الحالة التي يصفها الشق الأيمن من الشكل رقم 1 أقل، وتُسمى الحالة القاعيّة (Ground state) مقارنةً بالحالة في الشق الأيسر، الحالة المُثارة (Excited state). عندما تكون ذرة هيدروجين في الحالة المُثارة، تحاول دائما أن تنتقل إلى الحالة القاعيّة. يحدث هذا الانتقال من الحالة المُثارة إلى الحالة القاعيّة لأن الطبيعة تفضل أن تكون في حالة أقل طاقة ممكنة، مثل كرة تتدحرج من قمة جبل لتستقر في السفح.

نتيجة لهذا الانتقال من الحالة المُثارة إلى الحالة القاعية تفقد ذرة الهيدروجين طاقةً، فتطلق فوتونًا -موجة أشعة كهرومغناطيسية- طول موجته 21.1 سنتيمترًا بالضبط. يُسمى الانتقال نتيجة تغيّر اتجاه اللف المغزلي بين الإلكترون والبروتون من الحالة الموازية إلى الحالة المعاكسة: الانتقال فائق الدقة (Hyperfine transition)، وذلك لفرق الطاقة الضئيل جدًا بين الحالتين، إذ إن طاقة الفوتون ذي الطول الموجي 21 سنتيمتر أصغر نحو مليون مرة مقارنةً بطاقة فوتون الضوء ذي اللون بنفسجي.

لهذه الأشعة جانب آخر، مرتبط أيضًا بنظرية الكم، ويتعلق بالزمن الذي يستغرقه الانتقال الذي يُطلق أشعة الـ 21 سنتيمتر. من خصائص نظرية الكم أنها تَحظُر حدوث أنواع معينة من الانتقال من حالة إلى أخرى في الذرات أو المركبات الكيميائية، وإن كانت هذه الانتقالات أفضل للذرة أو المركب فيما يتعلق بالطاقة.

الانتقال الذي يطلق أشعة الـ 21 سنتيمتر هو أحد تلك الانتقالات المحظورة. إذن كيف يحدث الانتقال رغم أنه ممنوع حسب قوانين ميكانيكا الكم؟ هل يعني هذا أن القوانين التي تحظر الانتقال الذي يطلق هذه الأشعة خاطئة؟ للإجابة عن السؤال علينا أن نفهم أن قوانين ميكانيكا الكم هي قوانين غريبة وطبيعتها إحصائية أساسًا، ما يعني أنه عندما نقول إن الانتقال من حالة كميّة معينة إلى أخرى محظور -مثل الانتقال الذي يصفه الشكل رقم 1- نقصد أن احتمال حدوثه ضئيل جدًا، وأن المجموعة الفيزيائية مثل ذرة الهيدروجين تبقى في الحالة المُثارة مدةً طويلة جدًا قبل أن تنتقل إلى الحالة القاعيّة.

تبين الحسابات والقياسات أنه إذا وُجدت ذرة هيدروجين في الحالة المثارة -الشق الأيسر من الشكل رقم 1- فإنها سوف تبقى به أكثر من عشرة ملايين عام قبل أن تنتقل إلى الحالة القاعيّة، يمين الشكل. هذا يعني أن عملية إطلاق أشعّة الـ 21 سنتيمتر هي عملية نادرة الحدوث، مع هذا نراها بكثرة في الكون لوجود عدد هائل من ذرات الهيدروجين به، بالذات في الأماكن ذات الكثافة العالية نسبيًا. هذا العدد الهائل من ذرات الهيدروجين المتعادل يجعل أشعة الـ 21 سنتيمتر من أهم أنواع الأشعة التي نرصد بها الكون.

يوجد الهيدروجين في الطبيعة بأشكال مختلفة، فقد يكون متأينًا، إذ لا يكون الإلكترون مرتبطًا بالبروتون، أو في حالة الهيدروجين الذري المتعادل إذ يرتبط الإلكترون والبروتون معًا في ذرة هيدروجين متعادلة -كما في الشكل 1- منفصلةً عن الذرات الأخرى. أيضًا قد يكون الهيدروجين جزءًا من جزيء أو مركب حيث يرتبط بذرات أخرى، مثل الماء حيث ترتبط ذرتا هيدروجين بذرة أكسجين، أو الهيدروجين الجزيئي حيث ترتبط ذرتا هيدروجين معًا.

مع وجود كل هذه الأشكال المختلفة من الهيدروجين، توجد حالة واحدة فقط يطلق بها الهيدروجين أشعة 21 سنتيمتر: حالة الهيدروجين الذري المتعادل، لأنه في الحالات الأخرى حيث يكون الهيدروجين جزءًا من جزيء، يشوش وجود الذرات الأخرى في الجزيء التفاعل بين اللف المغزلي للإلكترون والبروتون، أما إذا كان متأينًا فلن يوجد مثل هذا التفاعل أصلًا.

دور خط الـ 21 سنتيمتر في اكتشاف المادة المظلمة في المجرات

كما ذكرت في القسم السابق، نستطيع استعمال أشعة 21 سنتيمتر لرصد الكثير من الظواهر في الكون، لكن أهمها ظاهرة غمامات الهيدروجين الباردة في المجرات اللولبية، التي توجد في المادة الغازية وحبيبات الغبار التي تملأ الفراغ الممتد بين النجوم، ما نطلق عليه اسم الوسط بين النجمي (Interstellar Medium). نتيجةً لظروف الحرارة وأنواع الأشعة الموجودة في هذا الوسط، تمتد غمامات الهيدروجين الباردة على مساحات أكبر من امتداد النجوم داخل المجرات اللولبية، ما يتيح رصد خواص المجرات على مناطق أوسع من مناطق وجود النجوم (انظر الشكل رقم 2). إن الوسط بين النجمي في المجرات الإهليجية -البيضوية- خال تقريبًا من الغاز، لهذا لا نتوقع رصد أشعة 21 سنتيمتر من هذا النوع من المجرات.

نرى في الشكل رقم 2 المجرة اللولبية (NGC 6964). يبيّن الشق الأيسر صورة لهذه المجرة التُقطت بواسطة تلسكوب في مجال الضوء المرئي الذي تشعه النجوم في المجرة. يبيّن الشق الأيمن من الشكل صورة المجرة كما تظهر بواسطة أشعة 21 سنتيمتر التي تنطلق من غاز الهيدروجين المتعادل المنتشر على امتداد المجرة. يُظهر الشكل أيضًا أن غاز الهيدروجين المتعادل ينتشر في مجال المجرة إلى أبعاد أكبر بكثير من النجوم، لأن مساحة شقي الشكل الأيمن والأيسر هي نفسها.

الشكل رقم 2: مقارنة بين مناطق وجود النجوم الذي يظهر في مجال الضوء المرئي -يسار- والغاز البارد كما يظهر بواسطة أشعة الـ 21 سنتيمتر -يمين- في مجرة (NGC 6964) اللولبية. المساحة التي تشغلها الصورتان في شقّي الشكل هي نفسها

الشكل رقم 2: مقارنة بين مناطق وجود النجوم الذي يظهر في مجال الضوء المرئي -يسار- والغاز البارد كما يظهر بواسطة أشعة الـ 21 سنتيمتر -يمين- في مجرة (NGC 6964) اللولبية. المساحة التي تشغلها الصورتان في شقّي الشكل هي نفسها

يساعد انتشار الغاز والوسط بين النجمي على امتداد المجرة، الذي نراه بوضوح في المجرات اللولبية بواسطة أشعة الـ 21 سنتيمتر، على فهم أعمق لطبيعة المادة التي تكوّن المجرات وتوزيعها على امتداد المجرة. تحديدًا، تكشف أشعة الـ 21 سنتيمتر عن وجود مكوِّن ثالث للمادة في المجرّات، إضافةً إلى النجوم والوسط بين النجمي، المكوَّن من غاز وغبار، ألا وهو المادة المظلمة.

ساهم تطور تلسكوبات الراديو، خصوصًا تلك التي ترصد أشعة الـ 21 سنتيمترًا، والتي تطورت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، في اكتشاف وجود المادة المظلمة في كل المجرات اللولبية المرصودة. في الحقيقة، أصبحنا نعرف اليوم أن المادة المظلمة هي أحد أهم مكونات الكون، فهي تفوق المادة العادية التي تصنع كل ما نراه حولنا على الأرض بأكثر من خمسة أضعاف.

في سبعينيات القرن الماضي بدأ العلماء برصد سرعة دوران النجوم وغاز الهيدروجين، بواسطة الضوء المرئي وأشعة الـ 21 سنتيمتر، حول مركز المجرات اللولبية، بوصفها دالّةً لبُعد الغاز عن مركز المجرة. تُسمى الدالّة التي تصف هذه المعطيات «مُنحنى دوران المجرة» (Galaxy Rotation Curve)، يُستخدَم تأثير «دوبلر» لقياس سرعة النجوم والغاز في المجرة على بعد معين من مركزها دالةً للبعد عنه. في السبعينيات لاحظت العالمة الأمريكية «ڤيرا روبين»، التي قاست سرعة دوران النجوم -لا الغاز- أن المنحنى يتصرف بشكل غير متوقع، إِذ يبقى ثابتًا وراء بُعد معين، واقترحت أن هذا بسبب المادة المظلمة. لكن المعطيات التي استعملتها روبين كانت في مجال الضوء المرئي، الذي يتبع النجوم ولا يصل بعيدًا جدًا، ولم يبيّن الظاهرة التي ادعت وجودها بشكل مقنع.

في الفترة ذاتها كان فريق هولندي من جامعة خروننجن -الجامعة التي أعمل بها- بقيادة «تييرد فان ألبادا» و«رينزو سانشيزي» يستعمل معطيات أشعة 21 سنتيمتر الذي يتبع غاز الهيدروجين في المجرّة، والذي يصل أبعد بكثير إلى الأقسام الخارجية من المجرّة مقارنةً بما تصل إليه النجوم. استطاع الفريق قياس سرعة دوران الغاز إلى أبعاد كبيرة نسبيًا وتبين أن منحنى الدوران يبقى ثابتًا. هذا الثبات لسرعة الدوران يدل على وجود مادة إضافية مظلمة تحوي معظم كتلة المجرة.

في الشق الأيسر من الشكل رقم 3 نرى مثالًا لمنحنى السرعة الدائرية دالّةً للبعد عن مركز المجرة اللولبية (NGC 6503)، التي نراها في الشق الأيمن من الشكل. الرموز المربعة تبيِّن سرعة الدوران المرصودة بواسطة غاز الهيدروجين في المجرة، في حين نرى أربعة خطوط أخرى تمثل توقعاتنا لسرعة الغاز والنجوم. الخط المنقط والخط المقطع، التي هي أصغر بكثير من أن تفسر ما نراه، أما الخط الثالث -الخط المقطع المنقط- فيُبّين السرعة نتيجة هالة من المادة المظلمة تصل الى أبعاد أكبر من النجوم داخل المجرة وتحتوي على خمسة أضعاف المادة العادية. وأما الخط الرابع، الخط الأسود الثابت الذي يقع فوق نقاط الرصد المربعة تمامًا، فهو نتيجة جمع السرعات المتوقعة من سرعة الغاز والنجوم والمادة المظلمة -أي جمع الخطوط الثلاثة الأخرى- لنحصل على ملاءمة تامة بين نتائج الرصد والتوقعات النظرية، من الواضح أنه لا يمكن أن نحصل على توافق بينهما دون فرضية وجود مادة مظلمة.

الشكل رقم 3: مجرة (NGC 6503) من معطيات تلسكوب هابل الفضائي والتلسكوب الياباني سوبارو

الشكل رقم 3: مجرة (NGC 6503) من معطيات تلسكوب هابل الفضائي والتلسكوب الياباني سوبارو

مع تزايد الأدلة الواضحة لوجود المادة المظلمة، التي أتت من قياس منحنيات السرعة الدائرية في المجرات اللولبية بواسطة أشعة الـ 21 سنتيمتر، تراكمت خلال العقود الخمسة الأخيرة أدلة كثيرة على وجود هذه المادة في الكون من مصادر قياس أخرى يستعملها فيزيائيو الفلك. تبين هذه الأدلة أن هذه المادة ليست مظلمة فحسب بل هي تختلف جوهريًا عن المادة العادية التي تصنع كل شيء نراه على سطح الأرض، إذ إن الجانب الأساسي الذي يميزها هو أنها لا تتأثر بالقوة الكهرومغناطيسية ولا تشارك بها، على عكس المادة العادية المكونة من العناصر الكيميائية، التي تؤدي القوة الكهرومغناطيسية الدور المركزي في تحديد صفاتها. تبين الأدلة أيضًا أن الكون يحوي مادة مظلمة أكثر بخمسة أضعاف مما يحوي مادة عادية، أي أن ما نصفه بالمادة «العادية» هو في الحقيقة المادة الاستثنائية الجانبية في الكون. كانت هذه إحدى أهم الحقائق التي علمتنا إياها أشعة الـ 21 سنتيمتر عن الكون في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

إعداد: سليم زاروبي

تدقيق: أكرم محيي الدين

استمرار البحث عن الثقوب السوداء البدائية لحل مشكلة المادة المظلمة

هل اقتربنا من معرفة وزن المادة المظلمة؟