أصبح لدينا الآن الخريطة الأدق لجميع المادة المرصودة في الكون، وذلك نتيجة جهدٍ هائل من فريق دولي من العلماء، إذ جمعوا بيانات من مسحين رئيسيين لكشف جميع أنواع المادة في الكون، ليس فقط المادة العادية التي تكون المجرات والنجوم والكواكب والغبار الكوني والثقوب السوداء، بل أيضًا المادة المظلمة (الكتلة غير المرئية التي تولّد الجاذبية التي لا تفسرها المادة العادية).

تظهر الخريطة النهائية الأمكنة التي تجمعت المادة فيها طوال 13.8 مليار عام (هو عمر الكون)، وستكون مرجعًا قيمًا للعلماء لفهم كيفية تطور الكون. وفي الواقع، تظهر النتائج أن المادة لا تتوزع تمامًا بالشكل الذي نعرفه، بل ترجّح وجود شيء ما مفقود في النموذج المعياري لعلم الكونيات.

وفقًا للنماذج الحالية لعلم الكونيات فإن مادة الكون بالكامل ضُغطت في نقطة واحدة لحظة الانفجار العظيم وتسمى بنقطة التفرد، وهي بالتعريف نقطة تصبح عندها الكثافة والحرارة لا نهائية، فتنفجر (تتمدد) في لحظة مُطلقةً أربعة أشكال من جسيمات الكوارك الأولية، وبدورها تكوّن سريعًا ما يسمى حساء من البروتونات والنيوترونات. نشأت ذرات الهيدروجين والهيليوم أولًا خلال مئات السنين المبكرة من عمر الكون، ومن هنا تحديدًا نشأ الكون بأسره.

يُعد تحديد الكيفية التي انتشرت بها تلك الذرات وتبريدها وتجمعها معًا مكونة النجوم والصخور والغبار الكوني عملًا بحثيًا آخر يعتمد على الكيفية التي أصبح فيها الكون ما هو عليه اليوم. أحد الأدلة الرئيسية التي يعتمدها العلماء هو أين توجد تلك المادة الآن، فعند معرفة ذلك يستطيع العلماء حينها العمل عكسيًا لمعرفة كيف وصلت إلى هناك.

في الواقع لا نستطيع رؤية جميع مادة الكون لأن معظم المادة في الكون حولنا (75% تقريبًا) غير مرئية لأساليب رصدنا الحالية. وقد اكتُشفت بطريقة غير مباشرة بسبب تأثيرات الجاذبية القوية التي تصنعها، إذ إنها تتسبب في قدرٍ هائل من الجاذبية لا يمكن للمادة العادية تفسيرها. يظهر ذلك في ظاهرة دوران المجرات، إذ تدور أسرع بكثير مما ينبغي لها أن تدور إن احتوت على كتلة المادة العادية فقط، وظاهرة أخرى أثبتت ذلك تسمى عدسة الجاذبية.

عندما يوجد شيئ ما في الكون يسبب جاذبية قوية، مثل عناقيد المجرات المكونة من الآلاف منها، يصبح مجال الجاذبية المحيط به قوي جدًا بما يكفي للتأثير في انحناء الزمكان حوله.

ما يعني إنه عند مرور الضوء من تلك المنطقة سيتعرض بدوره للانحناء أيضًا، ما ينتج ضوءًا مضخمًا ومشوهًا. وتأثير عدسات الجاذبية الناشئ يعد أكبر بكثير مما ينبغي للمادة العادية بمفردها إحداثه.

لرسم خريطة للمادة في الكون، قارن العلماء البيانات المجمعة من عدسات جاذبية تلسكوبين ماسحين، مسح المادة المظلمة الذي يجمع البيانات بالأطوال الموجية القريبة من الأشعة فوق البنفسجية والمرئية و الأشعة تحت الحمراء، وتليسكوب القطب الجنوبي الذي يعمل على جمع بيانات الخلفية الكونية الميكروية (الإشعاع الخافت المتبقي من الانفجار العظيم). وبمقارنة تلك البيانات المأخوذة من مصدرين مختلفين، يستطيع الباحثين أن يكونوا أكثر دقةً وثقة بنتائجهم.

يقول الفيزيائي الفلكي تشيهواي تشانغ من جامعة شيكاغو والمؤلف الرئيسي لورقة من ثلاث ورقات تصف البحث: «إن ذلك أشبه بالفحص في اتجاهات عدة، ما يجعل ذلك أفضل بكثير من البحث بأسلوب واحد فقط».

والجدير بالذكر أن المؤلفين الرئيسيين الآخرين للبحث هم الفيزيائي يوكي أوموري من معهد كافلي للفيزياء الكونية وجامعة شيكاغو، وعالم التليسكوبات تيم أوبوت من مرصد سيرو تولولو بمعمل NOIR.

اعتمادًا على مواقع المجرات وعدسات الجاذبية والخلفية الكونية الميكروية، بإمكاننا إنتاج خريطة تستقرئ توزيع المادة في الكون. وبالوسع بعد ذلك مقارنة تلك الخريطة لنماذج محاكاة تطور الكون لمعرفة ما إذا كانت المادة المرصودة تطابق نظرياتنا.

أجرى الباحثون بعض المقارنات ووجدوا أن خريطتهم تقريبًا مطابقة للنماذج الحالية ولكن ليس تمامًا، إذ توجد بعض الاختلافات الدقيقة بين ما رصدناه وبين تنبؤاتنا، فتوزيع المادة أقل تكثفًا وأكثر تباعدًا مما تتنبأ به النماذج. وهذا يشير إلى أن نماذجنا الحالية قابلة للتعديل.

هذه ليست مفاجأة، لدينا في الواقع عدد قليل من التناقضات بين الملاحظات الكونية والنظرية التي تشير إلى أننا نفقد شيئا أو أكثر، تتوافق نتائج الفريق مع النماذج السابقة بشكلٍ ما، ولكن كلما كانت بيناتنا أكثر دقةً واكتمالا، نستطيع حينها إيجاد حلًا لتلك التناقضات.

لدينا المزيد من الأعمال ننجزها، لسنا متيقنين من النتائج بعد، إضافة المزيد من التلسكوبات الماسحة سيساعدنا لتحسين الخريطة الخاصة بالكون والتحقق من صحة نتائج الفريق أو دحضها. وبالتأكيد ستساعد الخريطة بحد ذاتها علماء آخرين لإجراء تحققاتهم الخاصة في تاريخ الكون الغامض.

اقرأ أيضًا:

وصف دقيق للطاقة المظلمة والمادة المظلمة التي تحكم الكون

عدسات الجاذبية: موجز تاريخي

ترجمة: آية قاسم

تدقيق:باسل حميدي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر