يعرف العلماء منذ زمن بعيد أن الحيوانات تنخرط في سلوكيات جنسية مع أفراد من الجنس ذاته، وقد تتضمن سلوكيات المثلية الجنسية لدى الحيوانات: الامتطاء، أو المغازلة عبر إصدار التغاريد وإشارات التزاوج الأخرى، أو لعق الأعضاء التناسلية، أو إطلاق الحيوانات المنوية، وقد لوحظت هذه السلوكيات عند أكثر من 1,500 نوع من الحيوانات، من الرئيسيات إلى نجم البحر، ومن الخفافيش إلى مقترنات الأجنحة، ومن الأفاعي إلى الديدان الأسطوانية.

خلال العقود الأخيرة، طُرِحت العديد من الفرضيات لتفسير المثلية الجنسية عند الحيوانات ، وقد اختُبِرت تلك الفرضيات لفهم سبب انخراط الحيوانات في هذه السلوكيات الجنسية، التي لا تؤدي مباشرةً إلى الإنجاب.

في مفهوم نظري نُشِر في دورية Nature Ecology and Evolution، سلط بعض الباحثين الضوء على الفرضيات السابقة التي طرحها علماء الأحياء لتفسير المثلية الجنسية لدى الحيوانات، إضافةً إلى الافتراضات الشائعة والقطعية التي ترتكز عليها.

تنطوي جميع الفرضيات المطروحة على اعتبار المثلية الجنسية لدى الحيوانات «مفارقة تطورية»، نظرًا إلى أنها موجودة دون المساهمة في بقاء الحيوان أو نجاحه التناسلي، أو ما يطلق عليه علماء الأحياء «اللياقة».

بوصفها «مفارقة»، يفترض علماء الأحياء أن المثلية الجنسية لدى الحيوانات مكلفة جدًا، لذلك لا بد أنها تعود بفوائد جمة، أو أنها محصنة من الإقصاء بالانتقاء الطبيعي.

يميل معظم العلماء الذين يدرسون المثلية الجنسية لدى الحيوانات إلى دراسة وجودها في نوع واحد من الحيوانات، ما يسفر عن الافتراض غير الملحوظ الذي يزعم أن المثلية الجنسية لدى الحيوانات تطورت على نحو مستقل في كل نوع تُلحَظ فيه، لكن هل تقوم هذه الافتراضات على أساس سليم؟ يدعي الباحثون في مفهومهم أنها ليست كذلك، وأنها ربما تنشأ من الأعراف الثقافية أكثر من الدقة العلمية.

أولًا، يفترض الباحثون أن كلفة المثلية الجنسية لدى الحيوانات مرتفعة، لأن انخراط الحيوانات في السلوكيات الجنسية المثلية يهدر الوقت والطاقة والموارد دون أي منفعة واضحة للّياقة التطورية.

غالبًا توخذ كلفة المثلية الجنسية لدى الحيوانات في الحسبان، مقابل فوائد ممارسة الجنس مع الجنس المغاير. مع أن السلوكيات الجنسية المغايرة لدى الحيوانات تحسّن بطبيعة الحال من اللياقة عبر إنجاب ذرية، فإن هذه المقارنات تقوم على افتراض أن المغايرة الجنسية عالية الكفاءة.

في الواقع، تتزاوج الحيوانات غالبًا مرات عديدة فقط من أجل إنجاب القليل من الذرية، وفي كثير من الأحيان لا تنتهي السلوكيات الجنسية المغايرة بالإنجاب للعديد من الأسباب. أي أن السلوكيات الجنسية المغايرة مكلفة أيضًا، وقلما يتضح سبب كلفة السلوكيات الجنسية المثلية في مقابل السلوكيات الجنسية المغايرة، ما عدا كونها لا تؤدي إلى الإنجاب.

ثانيًا، في حالة الكثير من السمات الأخرى التي تنتشر بين العديد من الحيوانات، مثل انتشار المثلية الجنسية، يرجح علماء الأحياء التطورية أن السمة تطورت فقط مرةً واحدة أو بعض المرات في السلف المشترك للأنواع، بدلًا من أن تتطور عدة مرات على نحو مستقل. لكن على حد علمهم، يقول الباحثون في مفهومهم إنه لا يوجد مخطط تطوري مماثل طُرِح لتفسير المثلية الجنسية لدى الحيوانات.

أخيرًا، ارتكزت البحوث السابقة التي درست المثلية الجنسية لدى الحيوانات على هذين الافتراضين، اللذين تدعمهما النظرة المعيارية المغايرة (Heteronormativity) الشائعة، التي تعدّ المثلية الجنسية شذوذًا، ما قد يفسر مصدر هذه الافتراضات وندرة التشكيك فيها.

يدعو الباحثون في مفهومهم النظري إلى تغيير وجهة نظرنا تغييرًا بسيطًا، لإتاحة طرق جديدة لفهم عالم جنس الحيوانات المتنوع والمذهل، لا سيما المثلية الجنسية.

يقول الباحثون إنهم تجنبوا النظر إلى المثلية الجنسية لدى الحيوانات بوصفها شذوذًا أو أنها تنافس المغايرة الجنسية، ويقرون بأن الحيوانات والمجتمعات الحيوانية يمكنها الانخراط في نطاق واسع ومتنوع من السلوكيات الجنسية المغايرة والمثلية على حد سواء.

قد يدعونا هذا المنظور إلى طرح المخطط التطوري البديل: ماذا لو أن المثلية الجنسية كانت موجودة منذ أن بدأت الحيوانات بالانخراط في السلوكيات الجنسية أيًا كان نوعها؟

يدعي الباحثون في فرضيتهم أن أسلاف الحيوانات تزاوجوا مع أفراد من الجنسين بلا تمييز، وذلك لمجرد أن السمات الجنسية المميزة لشريك ملائم للتزاوج -مثل اختلاف الحجم والشكل واللون والرائحة- على الأرجح لم تتطور تمامًا في الوقت ذاته الذي تطورت فيه السلوكيات الجنسية.

في الحقيقة، قد يعود التزاوج العشوائي بفائدة أكبر من كلفته، إذ إن التعرف على شريك التزاوج قد يتطلب تكيفات مكلفة فسيولوجيًا وذهنيًا، وقد تتسبب الانتقائية المفرطة في اختيار شركاء التزاوج بتفويت فرص التزاوج التي تؤدي إلى الإنجاب، ما يُعَد كلفةً كبيرة في اللياقة التطورية.

لذلك يفترض الباحثون أن التنوع الحالي في السلوكيات الجنسية لدى الحيوانات ينشأ من خلفية تطورية تزاوج فيها الأسلاف عشوائيًا مع أفراد من الجنسين. لكن في بعض فروع شجرة الحياة الحيوانية، قد تكون المثلية الجنسية مكلفة للغاية، وفي هذه الحالة تُقصى بالانتقاء الطبيعي، إلا أنها في أنواع أخرى ليست مكلفة بدرجة كبيرة، لذلك استمرت، بل ربما استُغِلت لتخدم وظائف مفيدة أخرى.

ما يزال العلماء لا يعرفون يقينًا مدى شيوع المثلية الجنسية بين أنواع الحيوانات المختلفة، غالبًا لأن سلوكيات المثلية الجنسية لدى الحيوانات اعتُبِرت سابقًا غير لائقة أو غير ذات أهمية، ولم توثَّق إلا بالصدفة.

يتوقع الباحثون أن التوثيق المنهجي للمثلية الجنسية لدى أصناف متنوعة من الحيوانات، والتقدير الكمّي لكلفة السلوكيات الجنسية المثلية والمغايرة وفوائدها، قد يكشفان أن المثلية الجنسية لدى الحيوانات أكثر شيوعًا وأقل كلفةً مما يُفتَرض حاليًا.

عند تقديمهم لفرضيتهم التي ترجح الأصول السلفية للمثلية الجنسية لدى الحيوانات، لم يقدم الباحثون أي اقتراحات عن وضع مفهوم للسلوك الجنسي البشري، ويرون أنه ليس من شأن العلم إطلاقًا أن يطرح مناقشات معيارية عن البشر.

يرى الباحثون أن علم الأحياء تأثر بالثقافة البشرية أكثر مما أثّر فيها، لكنهم يأملون أن تؤدي فرضيتهم إلى توسيع نطاق فهمنا للتنوع في عالمنا الطبيعي، وهم يشجعون العلماء على التفكير في الاكتشافات التي يمكننا التوصل إليها في مجال الأحياء التطورية، بعد التحرر من المعايير والافتراضات الثقافية التي طالما قيّدت الابتكار العلمي على مدى التاريخ.

في هذا الصدد، يرى الباحثون أنه يجب على علماء الأحياء التعلم من المجالات الأخرى، مثل الدراسات العلمية والتكنولوجية، التي تنظر إلى الأمور العلمية بعين ناقدة، ويقولون إن التعاون مع أكاديميين من تلك التخصصات قد يعزز متانة العلم، بتدريب العلماء على عدم الاستهانة بالدور الحتمي الذي يؤديه المجتمع والثقافة في جميع أنواع البحوث.

تحدد الأسئلة التي نطرحها فهمنا للعالم، لكنها أيضًا تتحدد بفهمنا للعالم، مثلما تؤثر هويتنا في الفرضيات التي نصيغها والافتراضات التي نضعها.

على هذا يجب أن يعي العلماء الانتقادات والانحيازات والافتراضات التي يتأثر بها طرحنا للأسئلة وتصميمنا للتجارب وتفسيرنا للنتائج.

إن توسيع وجهات النظر والثقافات التي تؤثر في العلوم الأكاديمية أمر مهم لتطوير الإجراءات العلمية وبناء المعرفة، فمن يدري ما الافتراضات العلمية التي سنتوصل إليها بوجهات النظر الجديدة في المستقبل؟

اقرأ أيضًا:

المثلية الجنسية عند الحيوانات

ذكرا بجع مثليان يهاجمان الناس في النمسا لحماية الطفل الذي تبنوه

سبع عشرة حقيقة لا تعرفها عن ازدواجية الميول الجنسية

ترجمة: رحاب القاضي

تدقيق: نور عباس

المصدر