غالبًا ما جعلت الاختراعات المهام اليومية أسهل، وبعضها كان ثوريًا مثل القطارات ومحلج القطن والمطبعة وأجهزة الكمبيوتر. لكن بعض الاختراعات الأخرى أدت إلى نتائج عكسية وأثبتت ضررها على المدى الطويل. من بين أولئك الذين ساهموا في بعض أخطر الابتكارات في التاريخ كان كيميائيًا يرتدي نظارةً طبيةً من بيفر فولز بولاية بنسلفانيا.

قدم توماس ميدجلي جونيور للعالم كلًا من البنزين المحتوي على الرصاص ومركبات الفلوروكلوروكربون (CFCs)، التي تعد الآن من أكثر المركبات الكيميائية ضررًا في العالم. وفي حين فاز ميدجلي بالعديد من الجوائز المرموقة خلال حياته، أظهرت الأبحاث في العقود الأخيرة كيف انتهى الأمر بالمركبات التي طورها للاستخدام في السيارات والثلاجات إلى تدمير البيئة وتسمم الناس.

وُلد ميدجلي في الثامن عشر من مايو عام 1889 وتخرج بدرجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من جامعة كورنيل عام 1911. وفي عام 1916، انضم إلى مختبر أبحاث «جنرال موتورز ديلكو» بإشراف تشارلز كيترينج للعمل على تحسينات للسيارات، وكان تركيزه على معالجة مشكلة أصوات طقطقة المحركات.

كان صوت الطقطقة مشكلةً شائعةً في محركات القرن العشرين، إذ عند وشوك وصول المحرك لقدرته القصوى، فإنه يصدر أصوات طقطقة يمكنها أن تدمره. بعد دراسة مطولة، اكتشف ميدجلي أنه عند إضافة رباعي إيثيل الرصاص (TEL) للوقود يختفي ذلك الصوت. والأفضل من ذلك، أنه وجد أن رباعي إيثيل الرصاص زاد من أداء المحرك وسرعته. بدعم كل من جنرال موتورز وشركات النفط ومصنعي السيارات، طُرح TEL في السوق في 1 فبراير 1923 تحت الاسم التجاري «إيثيل Ethyl». أسست «جنرال موتورز» و«ستاندرد أويل» شركة «إيثيل» لإدارة التصنيع والمبيعات، وأصبح ميدجلي نائبً رئيس في الشركة وعمل في مجلس الإدارة.

لم تذكر شركة إيثيل مطلقًا الرصاص عند تسويقها لـ TEL نظرًا إلى أن مخاطر التسمم بالرصاص معروفة جيدًا. أصرت الشركة على أن مادة TEL آمنة، لكنها في الوقت نفسه كانت هي ذاتها تواجه مخاطر التعامل مع هذه المادة الكيميائية، ففي أكتوبر 1924، في مصنع تجريبي في نيوجيرسي، توفي خمسة عمال وأصيب 35 آخرون بنوبات اختلاج وهلوسة والأعراض الأخرى للتسمم بالرصاص. تسمم ميدجلي نفسه بسبب استنشاقه لأبخرة الـ TEL وغسل يديه في هذه المواد لإثبات أمانها. أُجبر على أخذ إجازة لمعالجة نفسه – لكن الحادث لم يمنعه عن الدفاع عن شركة إيثيل. وبدلًا من ذلك، أخذ صفّ الشركة معتبرًا أن العمال لم يتخذوا الاحتياطات المناسبة.

يقول ديفيد روزنر، المؤرخ في جامعة كولومبيا والمؤلف المشارك في كتاب «حروب الرصاص ومكره»: «كان مدجلي يخدع ذاته عند الحديث عن منتج يرتبط به.

لا ريب في أنه كان واقعًا في معضلة أخلاقية. وسواء كذب أو خدع نفسه أو كان حقًا غافلًا عما سيتعين على الأجيال القادمة التعامل معه، فإن الأمر يتعدى حدود معرفتي». دفعت الفضيحة في مركز الأبحاث العديد من الولايات إلى حظر TEL، لكن انقلب الحال بعد ذلك. أصدر المكتب الفيدرالي للمناجم دراسة، بضغط شديد من الشركات، أكدت أن الـ TEL آمن. جعلت هذه الدراسة والحملة التسويقية المكثفة من الغازولين المحتوي على الـ TEL (غازولين المحتوي على الرصاص) الوقود المفضل. في العقود التالية، أدى التعرض للرصاص إلى سلسلة من الأمراض، خاصة لدى الأطفال. افترضت إحدى الدراسات الحديثة أن زيادة التعرض للرصاص ربما تكون قد ساهمت في ارتفاع معدل الجريمة في منتصف القرن العشرين.

بدءًا من السبعينيات، بدأ التخلص التدريجي من الـ TEL واعتبارًا من عام 2017 بقي إنتاجه فقط في أماكن قليلة في العالم. لكن التلوث بالرصاص ما يزال موجودًا في المناطق التي شاعت فيها المركبات التي تعمل بوقود TEL.

كان الابتكار الإشكالي التالي لميدجلي هو مركبات الفلوروكلوروكربون. طُوِّرت مركبات الفلوروكلوروكربون بهدف حل مشكلة طويلة الأمد مع الثلاجات البدائية التي لم تكن آمنةً أبدًا.

يوضح توم جاكسون، مؤلف كتاب «مُبَرَّد: كيف غير التبريد العالم وقد يفعل ذلك مرةً أخرى»: «كانت أفضل المبردات البدائية هي الأثير والأمونيا، وكلاهما قابل للاشتعال». يصف جاكسون كيف اشتعلت النيران في ثلاجة بحجم صناعي معروضة في معرض شيكاغو العالمي عام 1893 وانفجرت في النهاية، ما أسفر عن مقتل 17 رجل إطفاء. وأضاف: «استخدمت الثلاجات المنزلية التي تلت ذلك بنحو 30 عامًا ثاني أكسيد الكبريت، الذي وبرغم أنه غير قابل للاشتعال فإنه شديد السمية. وتسبب تسرب هذا الغاز في مقتل الأسر في أثناء نومهم».

تكبد قسم ثلاجات جنرال موتورز «فريجيدير» الخسائر لسنوات. أجرى ميدجلي مع فريق من العلماء بحثًا عن مادة تبريد غير سامة وغير قابلة للاشتعال. وفي عام 1930، وجدوا حلًا في ثنائي كلورو ثنائي فلورو الميثان، وباعوه تحت الاسم التجاري فريون-12. كان هذا أول كلوروفلوروكربون في العالم.

لإثبات أمانه، استنشق مدجلي الغاز وأشعل شمعةً بجانبه. انتشر الفريون وأصبح موجودًا في كل مكان في الثلاجات ووحدات التبريد وعلب رذاذ الغاز المضغوط بمثابة وقود دفع. ما لم يعرفه ميدجلي هو أن مركبات الكلوروفلوروكربون تستنزف طبقة الأوزون على الأرض التي تحمي الحياة من الأشعة فوق البنفسجية وأشكال الإشعاع الأخرى. والأسوأ من ذلك أن مركبات الكلوروفلوروكربون غازات دفيئة تساهم في الاحتباس الحراري وتغير المناخ بمعدل أكبر بكثير حتى من ثنائي أكسيد الكربون.

على الرغم من أن مركبات الكربون الكلورية فلورية مثل الفريون 12 حُظرت أو قُيدت بشدة بدءًا من بروتوكول مونتريال في عام 1987، فإنها ما تزال موجودةً في الغلاف الجوي. وفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، فإن مركبات الفلوروكلوروكربون لها عمر يصل إلى 140 عامًا. وكُرِّم ميدجلي بحصوله على كل أنواع الجوائز المرموقة تقريبًا في مهنته، إذ حصل على ميدالية ويلارد جيبس وميدالية نيكولز والميدالية الكهنوتية وميدالية بيركين. بصرف النظر عن TEL والفريون، حصل ميدجلي أيضًا على نحو 170 براءة اختراع أخرى.

لم تُعرف العواقب المدمرة لاختراعاته إلا في العقود الأخيرة. إن مدجلي ليس المسؤول الوحيد عن جميع المشكلات البيئية الناتجة عن TEL ,مركبات الفلوروكلوروكربون. تجاهلت غالبًا الشركات اليوم التأثير المحتمل للملوثات على البيئة إما عن طريق التقليل من أهمية تأثير تلك الملوثات أو بالقول بأنها مشكلة لا تذكر. إضافةً إلى أنه لم يوجد أي تنظيم حقيقي للملوثات المحتملة. وفي حالة مركبات الكلوروفلوروكربون، فكان ميدجلي يعتقد أنها أقل ضررًا من انفجار الثلاجات. يقول جاكسون: «من غير العدل انتقاد ميدجلي لعمله على مركبات الكربون الكلورية فلورية. لقد كانت حلًا غير موفق لمشكلة تجارية، ولكن ميدجلي اعتقد وآخرون مثله أنه آمن».

من ناحية أخرى، يقول جاكسون إنه نظرًا إلى أن التأثيرات السامة للرصاص كانت معروفة بالفعل في عشرينيات القرن الماضي عندما طُور الوقود المحتوي على الرصاص، فإنه «لا بد أنه كان على دراية بالضرر الصحي المحتمل، لكنه مضى قدمًا على أية حال».

في عام 1940، أصيب ميدجلي بمرض شلل الأطفال وفقد قدرته على الحركة. طور المخترع نظامًا من الحبال والبكرات لمساعدته على الحركة والنهوض من السرير. وفي مفارقة ساخرة، خنقه اختراعه حتى الموت في 2 نوفمبر 1944.

اقرأ أيضًا:

الاحتباس الحراري له تأثيرات مختلفة في درجات الحرارة الليلية عن درجات النهار

ما هو التسمم بالرصاص ؟ وكيف يحصل ؟

ترجمة: وراد الحماده

تدقيق: نغم رابي

مراجعة: آية فحماوي

المصدر