الآن أنت تماطل وتؤجل القيام بشيء ما غالبًا، أليس كذلك؟ لا تقلق، نحن لا نحكم عليك، ولكن كن واثقًا أنك لست الوحيد الذي يماطل؛ إذ إن 20% تقريبًا من البالغين (وأكثر من 50% من الطلاب) يؤجلون مهامهم دائمًا. لقد ثبت أن الأشخاص الذين يمارسون عادة المماطلة على المدى الطويل، لا يؤدون فقط أداءً سيئًا كطلاب، ولكن أيضًا يكسبون أموالًا أقل ولديهم وظائف أقل قيمةً لهم.

أظهرت الدراسات أيضًا أن المماطلة تؤدي إلى تدني احترام الذات، وقلة زيارة أطباء الأسنان، وحتى نقص في سلوكيات السلامة المنزلية (التحقق مثلًا من سلامة جهاز إنذار الحريق، الأمر الذي يُعد مقلقًا؛ نظرًا إلى وجود نحو 37000 حريق منزلي كل عام في المملكة المتحدة). وفي الواقع، إن المماطلة تُعرَّف على أنها تأخير طوعي وغير ضروري لمهمة، وهو نمط حياة منتشر للغاية، حتى أن العلماء وجدوا أدلة على مثل هذا السلوك لدى طائر الحمام.

تكشف الدكتورة فوشيا سيرويس من جامعة شيفيلد تفاصيل أكثر عن هذه العادة النفسية، وهي باحثة كرست 20 عامًا من حياتها في البحث؛ كي تقدم دليل المبتدئين في علم النفس في المماطلة والتسويف.

ما الذي يسبب المماطلة؟

من السهل القول – كما تفعل الأمهات على الأرجح – إن المماطلة تنتج عن سوء إدارة الوقت، أو الأسوأ من ذلك، الكسل المطلق، ولكن العلم ببساطة لا يدعم هذا؛ إذ لم يتوفر أي دليل علمي مقنع يوكد أن المماطلة هي نتيجة سوء إدارة الوقت، ولكن قد نستنتج بسهولة أن الأمر كله يتعلق بإدارة الحالة المزاجية.

في جوهر المماطلة، يتعلق الأمر بعدم القدرة على إدارة المزاج والمشاعر. ويظن كثير من الناس أن الاندفاع والتحكم في النفس هما المشكلتان الرئيسيتان، وحقيقةً إن لهذين العاملين دورًا مهمًا في المماطلة، إلا أن هناك استجابة عاطفية ضعيفة تكمن خلف عادة المماطلة.

يواجه كل شخص مواقف مرهقة تتطلب استجابات مختلفة وتفرض عليه مهامًا جديدة، وتؤدي جميعها إلى نشاط دماغي يتضمن منطقة دماغية تُسمى اللوزة المخية، وهي عضو يعالج المشاعر والحذر من التهديدات، ويحفز استجابة (القتال أو الهروب) المرتبطة بالمماطلة.

من المثير للاهتمام أن الأشخاص الذين يَعدّون أنفسهم مماطلين مزمنين، يمتلكون حجمًا أكبر من المادة الرمادية في اللوزة المخية. وهذا يعني أنهم أكثر حساسية للعواقب السلبية المحتملة لأفعالهم ونتائج القيام بمهامهم، ما يخلق المزيد من المشاعر السلبية والمماطلة.

هناك عامل آخر يرتبط بقوة بالمماطلة ومدى تأثيرها وهو التفكير الزمني، أو بعبارة أوضح، ما مدى قرب نسخة الشخص ووضعه الحالي من نسخته المستقبلية التي يطمح إليها؟ وغالبًا ما ينسى الناس الطبيعيون التفكير الزمني ويعتادون تجاهله.

في الواقع، أشارت الدراسات التي أُجريت في جامعة كاليفورنيا إلى أن الإنسان عادةً يتخيل النسخة المستقبلية من نفسه كشخص مختلف تمامًا.

عند إجراء فحوصات تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI، اكتشف الباحثون أن أقسامًا مختلفة من الدماغ تنشط عند معالجة المعلومات المتعلقة بالتصور الذاتي في الحاضر والمستقبل. فعندما يتخيل الإنسان نفسه في المستقبل، تنشط مناطق الدماغ ذاتها التي تنشط عند التفكير بشخص غريب.

عند اعتماد هذا النمط من التفكير تجاه النسخة المستقبلية، قد يستسهل الشخص فعل شي مؤذٍ تجاه هذه النسخة الغريبة، كترك مهام ضخمة لها بدلًا من القيام بها في الوقت الحالي، أي التأجيل والمماطلة.

نظرًا إلى أن الأشخاص قد يشعرون بالبعد النفسي عن نسختهم المستقبلية الآن، فقد يُنظر إلى هذه النسخ أيضًا على أنها نوع من الأبطال الخارقين، أي سيمتلكون ما كان يطمح الشخص لامتلاكه دومًا. ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن الإنسان لا يتغير كثيرًا في هذه الفترة الزمنية القصيرة.

إذا كان الشخص مماطلًا مزمنًا، فمن المحتمل أنه على دراية جيدة بهذه المغالطة. ولحسن الحظ، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى وجود طريقة سهلة لتحسين التفكير الزمني مثل: الإكثار من هذا التفكير ومحاولة الشعور به.

فمثلًا، وجدت دراسة مثيرة للاهتمام في علم النفس التطبيقي لطلاب الجامعات أن أولئك الذين تخيلوا نسخة من أنفسهم في المستقبل مدة 10 دقائق مرتين في الأسبوع خلال شهرين فقط، وجدوا أنهم أقل احتمالًا لتأجيل مهامهم والوقوع في المماطلة.

استنتج الباحثون أيضًا أن هذه الممارسة فعالة في زيادة الدافع الحماسي تجاه النسخة المستقبلية؛ لتأثيرها في تقليل المماطلة في الوقت الحاضر.

هل المماطلة ضارة بالصحة؟

باختصار، قد تسبب المماطلة مشكلات أكثر من عدم الالتزام بالمواعيد النهائية والقلق من تأجيل المهام إلى أوقات أُخرى. فعلى مدى عقود، فحصت د.سيرويس تأثير التسويف المزمن على صحة الشخص، وكانت النتائج التي توصلت إليها مقلقة في أحسن الأحوال، ومرعبة في أسوئها.

إنّ الأشخاص الذين يمارسون المماطلة دائمًا ويتخذونها عادة، يمتلكون مستويات أعلى من التوتر وعددًا أكبر من المشكلات الصحية الحادة. وهم أيضًا أكثرعرضةً للإصابة بالصداع، أو الأرق، أو اضطرابات الجهاز الهضمي، أو الأنفلونزا ونزلات البرد. والأكثر إثارة للقلق أن المماطلة قد تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، والإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.

طرق التوقف عن المماطلة

كما يتضح للجميع، إن المماطلة مشكلة كبيرة، ولحسن الحظ، يعرف علماء النفس هذا جيدًا، ويبحثون عن طرق فعالة لمعالجتها.

أولًا، هناك طرق عديدة سريعة التأثير للتغلب على المماطلة. فمثلًا، وصفت إحدى الأوراق البحثية في مجلة العلوم النفسية كيف يجعل استخدام مقاييس أصغر للوقت (أي التفكير بمدة اليومين على أنها 48 ساعة، أو 10950 يوم بدلًا من 30 عامًا) الأحداث تبدو أكثر إلحاحًا، ما يدفع الناس إلى الانخراط في المهام القادمة، الأمر أشبه بالحيلة النفسية.

مع ذلك، وفقًا للدكتورة سيرويس، هناك طريقتان أساسيتان تقلّلان المماطلة وتحلّان المشكلة جذريًا وهما التعاطف مع الذات وإعادة التشكيل المعرفي.

تظن د. سيرويس أن الناس لا يدركون أن المماطلين – وخاصةً المزمنين منهم – يقسون بشدة على أنفسهم، قبل تنفيذهم المهمة وبعدها، وبدلًا من الاستمرار في العمل والمضي قدمًا في تحقيق ما يريدون، فإنهم لا يبرحون مكانهم ويؤجلون مهامهم كثيرًا، من أجل أن يشعروا بالإحباط إثر ذلك.

لذلك تنصح د. سيرويس بعدم المبالغة في تحديد هذا الفشل كسبب للإحباط، أي يُفضَّل أن يتراجع الشخص عن تفكيره لدقيقة، ويعترف فقط أنه ليس سعيدًا مع نفسه تمامًا، ثم يمضي قدمًا من جديد.

يتعلق الأمر أساسًا بإدراك أن الجميع معرّض للخطأ وللمماطلة، وليس هناك شخص معين يُعد أول من يماطل، ولن يكون الأخير. إنه الجنس البشري بطبيعته الإنسانية، لذا يجب فهم ذلك والاعتراف به.

تدعم البيانات هذه النظرية بشدة، فمثلًا، في دراسة أُجريت على 750 شخص، وجدت د. سيرويس صلةً قويةً بين المماطلة وانخفاض مستويات التعاطف مع الذات، أي أن الأشخاص الذين يماطلون أكثر هم الذين اعتادوا الحكم على أنفسهم بقسوة؛ لأنهم يظنون أنهم يعانون المشكلة وحدهم كسبب لإحباطهم وفشلهم.

لكن ماذا يعني هذا كله عمليًا؟ أكدت دراسات د. سيرويس إمكانية ربط تمارين الذهن بزيادة التعاطف مع الذات وانخفاض مستويات المماطلة والتسويف.

وجدت إحدى الدراسات المنشورة في المجلة الدولية لعلم النفس الإيجابي التطبيقي، أن أولئك الذين أكملوا تمرينًا للذهن مدة ثلاث دقائق فقط (يتضمن تعليمات صوتية تحفز الوعي غير المُعتاد على إطلاق الأحكام، وتهتم بأحاسيس الجسم الحالية، بما في ذلك التنفس) يمتلكون ميلًا أقل للمماطلة بعد ذلك.

إذ تساعد هذه التمارين على اتخاذ منظور صغير وعملي للحياة، ما يقي من الدخول في حلقة سيئة من المشاعر السلبية التي تؤدي إلى المماطلة.

تشير د. سيرويس أيضًا إلى دراسة حديثة غير منشورة أجرتها طالبة الدكتوراه سيسي يانغ على الطلاب الذين أجلوا القيام بمهمة لديهم، أو توقعوا أنهم سيماطلون، وقُسِّم المشاركون فيها عدة مجموعات. وشُجعت إحدى المجموعات على التفكير في الأفكار السعيدة بالانخراط في أنشطة معينة (مشاهدة مقاطع فيديو لقطط صغيرة). وطُلب من مجموعة أخرى إعادة صياغة المهمة القادمة المؤجلة على أنها شيء ذو مغزى، والتفكير في أسئلة مثل:

  •  كيف سيكون إكمال هذا الهدف مفيدًا في نظرة الشخص إلى نفسه؟
  •  كيف سيكون إكمال هذا الهدف مفيدًا في نظرة الآخرين له؟
  •  كيف سيكون إكمال هذا الهدف ذا قيمة للنمو الشخصي؟

من المثير للاهتمام أنه عند مراقبة نشاط جميع المشاركين في الأيام القليلة المقبلة، سجلت المجموعة الثانية تأجيلًا أقل ومعدل مماطلة أدنى.

إذن، الأمر يتعلق بإعادة التقييم، ومحاولة رؤية الشيء على أنه ذو أهمية أكبر. فعند خلق أهمية للشيء، فإن الشخص ينشئ اتصالًا بالمهمة ويقترب أكثر من تنفيذها. لذلك، إن إضفاء المعنى على المهمة والإحساس به، سواءً كان ذلك يتعلق بنفسك أو بالآخرين، أمر قوي ومؤثر حقًا، وهي طريقة رائعة لبدء عملية إعادة التقييم التي ذُكرت سابقًا، وتقليل بعض المشاعر السلبية أو على الأقل جعلها أكثر قابليةً للإدارة والتحكم بها.

ختامًا، لا يجب القلق بشأن المماطلة وتأجيل للمهام، فهو أمرٌ يحدث للجميع، ولكن يجب وضع النصائح السابق ذكرها في الذهن والمضي قدمًا في تحقيق الأهداف؛ لكي يشعر الشخص بالتحسن في حياته ويثق أكثر بصحته الجسدية والنفسية، فلم يفت الأوان بعد للمهام المؤجلة!

اقرأ أيضًا:

لماذا لا يلتزم الدماغ بقرارات العام الجديد؟

«سأعتني بصحتي لاحقًا»، ما تأثير المماطلة على صحتنا؟

ترجمة: لمك يوسف

تدقيق: فاطمة جابر

مراجعة: هادية أحمد زكي

المصدر