لا تشكّل بضع مئات من الميلي ثانية وقتًا كافيًا لإنجاز الكثير، لكنها أكثر من كافية بالنسبة إلى النجوم النيوترونية، وبالتحديد تلك التي شُوهدت في ومضات انفجارين من أشعة غاما، ومنها نتعلم أشياءً كثيرة أحدها ولادة الثقوب السوداء.

عمل علماء الفلك منذ وقت قريب على غربلة أرشيف الومضات ذات الطاقة العالية في سماء الليل، فاكتشفوا أنماطًا من الذبذبات الضوئية التي تركتها مجموعتان مختلفتان من النجوم المتصادمة، ما يشير إلى التوقف في الرحلة من جسم ذي كثافة عالية جدًا إلى حفرة لا نهائية من الظلام.

يُقدّر هذا التوقف بين 10 إلى 300 ميلي ثانية، ويكافئ تقنيًا نجمين نيوترونيين كبيرين حديثي التشكل، يشك الباحثون أنهما يدوران بسرعة كافية لمنع تحولهما الحتمي إلى ثقوب سوداء ولو مدة قصيرة.

يقول كول ميلر عالم الفلك في جامعة كوليج بارك ماريلاند الأمريكية: «نعلم أن GRBs القصيرة تتشكل عندما تصطدم النجوم النيوترونية التي تدور ببعضها، ونعلم أنها في النهاية تنهار إلى ثقب أسود، لكن التسلسل الدقيق للأحداث غير مفهوم جيدًا».

دار مرصد كومبتون لأشعة غاما طوال ثلاث عقود تقريبًا حول الأرض، وجمع بريق أشعة إكس وأشعة غاما التي تسربت من أحداث كارثية بعيدة. يحتوي ذلك الأرشيف من الفوتونات عالية الطاقة على مجموعة من البيانات عن أشياء مثل تصادم النجوم النيوترونية، التي تصدر نبضات قوية من الإشعاع تعرف بانفجارات أشعة غاما.

النجوم النيوترونية هي الوحوش الحقيقية للكون، إذ تحزم ضعف كتلة شمسنا داخل مقدار من الفضاء بحجم مدينة صغيرة تقريبًا. ولا يقتصر أثرها الغريب على المادة فحسب (كأن تجبر الإلكترونات على تكوين البروتونات لتحويلها إلى غبار كثيف من النيوترونات)، بل قد تولّد مجالات مغناطيسية لا يشبهها أي شيء آخر في الكون.

تستطيع هذه الحقول أن تزيد من سرعة الجسيمات إلى سرعات عالية مذهلة، وذلك بسبب دورانها بسرعة عالية، فتشكّل بهذا انبعاثات قطبية تظهر وكأنها نبض مثل المنارات فائقة الشحن.

عندما تحرق النجوم العادية (كتلتها 8-30 ضعف من كتلة شمسنا) آخر وقودها، تترك عادةً نواة تصل كتلتها إلى 1.1-2.3 ضعف من كتلة شمسية، وتكون أبرد من أن تقاوم ضغط جاذبيتها الذاتية، وبهذا تتشكل النجوم النيوترونية.

بإضافة كتلة أكثر بقليل (كحشر نجمين نيوترونيين مع بعضهما) لا شيء يستطيع مقاومة دوافع الجاذبية لانهيار النجم الميت، ولا حتى الاهتزاز الضعيف لحقوله الكمية، ومن هذه الكتلة الكثيفة للجسيمات نحصل على الشيء المرعب الذي لا نستطيع وصفه وهو قلب الثقب الأسود.

النظرية الأساسية في هذه العملية واضحة جدًا، وضع حدود عامة حول مدى ثقل النجم النيوتروني قبل أن ينهار. بالنسبة للكرات الباردة غير الدوارة للمادة، هذا الحد الأعلى أقل من ثلاث أضعاف كتلة شمسية، وهذا يدل أيضًا على التعقيدات التي ربما تجعل الرحلة من نجم نيوتروني إلى ثقب أسود أقل وضوحًا.

ففي نهاية 2022 مثلًا، أعلن الفيزيائيون عن ملاحظة انفجار أشعة غاما اسمه (GRB 180618A) يعود إلى 2018. في شفق الانفجار اكتشفوا توقيع نجم نيوتروني مشحون مغناطيسيًا يُعرف بالنجم المغناطيسي، مع كتلة قريبة من كتلتي النجمين المتصادمين.

بعد يوم واحد بالكاد، لم يعد هذا النجم النيوتروني ذو الوزن الثقيل موجودًا، لا شك أنه استسلم لكتلته الاستثنائية وتحول إلى ثقب أسود لا يستطيع حتى الضوء الهروب منه. كانت قدرته على مقاومة الجاذبية سرًا غامضًا، وربما للمجالات المغناطيسية دورٌ في ذلك.
قد يوفر هذان الاكتشافان الجديدان بعض الأدلة أيضًا.

المصطلح الأدق للنمط الذي لوحظ في رشقات أشعة غاما النارية وسجلها كومبتون في أوائل 1990 هو تذبذب شبه دوري. يمكن حل شيفرة الترددات التي ترتفع وتنخفض في الإشارة لوصف اللحظة النهائية للأجسام الضخمة وهي تدور حول بعضها وتتصادم بعد ذلك.

وفقًا للباحثين، أنتجت التصادمات جسمًا أكبر بنسبة 20% من النجم النيوتروني ذو الوزن الثقيل الذي يحمل الرقم القياسي، وهو نجم نابض محسوب بمقدار 2.14 ضعف كتلة شمسنا وقد كان قطره ضعف قطر نجم نيوتروني نموذجي أيضًا.

من المثير للاهتمام، أن الأجسام كانت تدور بوتيرة استثنائية قريبة من 78000 مرة في الدقيقة، وهو أسرع بكثير من النجم النابض (1748-2446ad) الذي يحمل الرقم القياسي ويدور 707 دورة في الثانية فقط.

وربما كانت الدورات القليلة التي استطاع كل نجم نيوتروني تحقيقها في حياته القصيرة (التي تصل إلى أقل من ثانية) مدعومة بزخم زاوي كافٍ لمقاومة انفجاره الجاذبي الداخلي.

ومن أسئلة البحث في المستقبل: كيف ينطبق هذا على عمليات اندماج النجوم النيوترونية الأخرى، ما يزيد من ضبابية الحدود بين الانهيار النجمي وتوليد الثقب الأسود.

اقرأ أيضًا:

العلماء يرصدون للمرة الأولى خللًا في سلوك هذا النجم النابض

في فجر التاريخ، ربما انتشرت الثقوب السوداء فائقة الكتلة في أنحاء الكون

ترجمة: ليلى الشومري

تدقيق: باسل حميدي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر