قبل أيام من وفاته في 14 مارس 2018، أكمل عالم الفيزياء النظرية وعالم الكونيات الشهير ستيفن هوكينغ ورقته البحثية الأخيرة. في البداية، توفرت عبر خدمة ما قبل الطباعة arXiv، ثم اجتازت مرحلة مراجعة الأقران بنجاح، ونُشرت على الإنترنت في مجلة فيزياء الطاقة العالية في 27 أبريل 2018. تضيف الورقة -التي كتبها المؤلف المشارك توماس هيرتوغ عالم الفيزياء النظرية في جامعة لوفين في بلجيكا- وجهًا آخر لفهم الكون الذي نعيش فيه، وغني عن القول، إنه معقد. تناقش الورقة مشكلة غامضة تواجه علماء الكونيات، بعنوان: «خروج سلس من التضخم الأبدي»، لكن قبل الخوض في جوهر الدراسة، دعونا نعود إلى الوراء نحو 13.8 مليار سنة.

الانفجار العظيم والتضخم الكوني

تشير أدلة كثيرة إلى أن كوننا نشأ من المتفردة، وهي نقطة لا متناهية الكثافة، نشأ منها الكون كله. يسمى هذا الحدث بالانفجار العظيم. كيفية ظهور المتفردة وسبب حدوث الانفجار العظيم ليس مهمًا في الوقت الحالي، فنحن مهتمون بما حدث فور نشوء كوننا، وهي فترة تُعرف باسم «التضخم الكوني».

يتوقع علماء الكونيات أن التضخم حدث خلال فترة زمنية صغيرة جدًا بعد الانفجار العظيم مباشرة، أو خلال أول 10 مرفوعة للقوة (32-) ثانية من الكون!. وفي أثناء التضخم توسع الكون أُسيًا، أسرع بكثير من سرعة الضوء. وبعد ثانية واحدة فقط، تكثفت الطاقة من هذا الانفجار الهائل الذي لا يمكن تصوره لتشكيل الجسيمات دون الذرية، التي خلقت على مدى ملايين السنين النجوم والمجرات والكواكب، وبعد 3.8 مليار سنة، الحياة. بعد انتهاء هذه الفترة التضخمية، تباطأ معدل تمدد الكون، لكنه استمر بالتوسع حتى يومنا هذا.

لأن التضخم أدى إلى تمدد الكون أسرع من سرعة الضوء، فإن الكون المرئي الذي نراه اليوم ليس الكون بأكمله. بدلاً من ذلك، نحن موجودون داخل منطقة من الكون يستطيع الضوء الوصول إليها. إنه مثل إلقاء حصاة في حوض سباحة هادئ، وينتقل التموج الدائري الأول الذي ينتشر من تناثر الماء بسرعة ثابتة عبر سطح البركة. إذا تخيلنا أن حد كوننا المرئي هو ذلك التموج -المسافر عبر البركة بسرعة الضوء- لا يعني ذلك أنه لا يوجد شيء يتجاوز هذا التموج، هناك الكثير من مياه البركة الذي لا تستطيع هذه التموجات بلوغها. كذلك حال الكون، إذ لا يمكننا رؤيته حتى الآن. لذا، فإن نتيجة التضخم هي أنه يجب أن يكون هناك الكثير من الكون يتجاوز ما يمكننا رؤيته بأقوى تلسكوب.

ظل علماء الكونيات يتصارعون فترة طويلة على احتمال أن كوننا ليس الكون الوحيد. وفي الواقع، لا يمكن أن نكون أكثر من فقاعة واحدة في محيط لا متناهٍ من الفقاعات، وهو مفهوم يُعرف باسم «الكون المتعدد». التضخم لم يحدث مرة واحدة، إنه يحدث دائمًا نتيجة لبعض ردود الفعل المتسلسلة الواسعة للغاية والمعروفة باسم «التضخم الأبدي».

سيظهر كون جديد، وسيتولى التضخم زمام الأمور، وسيوسع ذلك الكون، وسيكون لهذا الكون عدم استقرار كمومي خاص به، الذي سينتج عنه المزيد من المتفردات التي تستمر بخلق المزيد من الأكوان. يبدو الأمر أشبه بتفجير بالون في حفلة لينتج عنه بالونات لحفلات أخرى، التي ينفجر سطحها المطاطي على ما يبدو عشوائيًا. هذا الموقف يبدو فوضويًا، وهو كذلك. يعتقد مؤيدو هذه الفرضية بأن التضخم الأبدي لا يمكن إيقافه، وهو معقد للغاية ويولد باستمرار أكوانًا جديدة. تشير رياضيات هذا الموقف إلى أن الكون المتعدد يتصرف بصورة كُسيرية.

جدير بالذكر، أن كل كون متتالٍ في الكون المتعدد، على الأرجح، لا يتشارك فيزياء كوننا نفسها. قد لا يكون لأحد الأكوان جاذبية، وقد لا يدعم آخر القوى التي تمسك أو تشكل المادة ببعضها. هناك الكثير من الأكوان التي ولدت ميتة، التي لا ترقى إلى مستوى عالٍ. نحن البشر -ببساطة- محظوظون لأن لدينا كونًا لديه البيئة المناسبة لخلق ما نراه، حجة فلسفية تُعرف باسم مبدأ الأنتروبيا. مشكلة التضخم الأبدي هي أنه فوضوي ولا نهائي، والفرضية في النهاية غير قابلة للاختبار.

ما الهدف من وجود نموذج رياضي رائع للكون (أو الأكوان) إذا لم نتمكن على الأقل من العثور على بعض الأدلة الرصدية التي تدعم فرضية الأكوان المتعددة؟

هوكينغ لم يكن معجبًا بفرضية الأكوان المتعددة

إذن، ما علاقة أبحاث هوكينج وهيرتوغ بالأكوان المتعددة؟

في الكون المتعدد، كوننا فقط كون جيب انتهى فيه التضخم، وعلى الرغم من الصعوبات، فقد وُجد الهدوء لخلق النجوم والمجرات وحفنة من البشر، الذين يعيشون على صخرة عشوائية يتأملون كونهم. ومع ذلك، فإن ما يحدث خارج جيب الهدوء لدينا مختلف إلى حد ما.

قال هوكينغ في مقابلة أجريت معه العام الماضي: «النظرية المعتادة للتضخم الأبدي تتنبأ بأن كوننا عالميًا يشبه كُسيرية لا نهائية، مع فسيفساء من أكوان الجيب المختلفة، مفصولة بمحيط متضخم. يمكن أن تختلف القوانين المحلية للفيزياء والكيمياء من كون جيب إلى آخر، التي ستشكل معًا كونًا متعددًا. لكنني لم أكن أبدًا معجبًا بالكون المتعدد. إذا كان حجم الأكوان المختلفة في الأكوان المتعددة كبيرًا أو غير محدود، فإن النظرية لا يمكن اختبارها».

تكمن المشكلة، وفقًا لهوكينج وهيرتوج، في عدم توافق النسبية العامة لأينشتاين (التي تحكم تطور الكون) وميكانيكا الكم (التي تشكل بذور خلق أكوان جديدة نتيجة للتقلبات الكمومية). قال هيرتوغ في البيان الصحفي المصاحب إن نموذج التضخم الأبدي للكون المتعدد «يمحو الفصل بين الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الكمومية»، مضيفًا: «نتيجة لذلك، تنهار نظرية أينشتاين في التضخم الأبدي».

لم تصل دراستهم إلى حد التوفيق بين النسبية العامة والفيزياء الكمومية، وهي مهمة لم تنجح حتى الآن، لكنهم يستخدمون رياضيات نظرية الأوتار الفائقة للمساعدة في تبسيط نموذج الأكوان المتعددة.

تتنبأ نظرية الأوتار الفائقة بأن جميع الجسيمات دون الذرية في كوننا تتكون في الواقع من سلاسل أحادية البعد تنتشر عبر الفضاء. إن الحالة الاهتزازية لهذه الأوتار هي التي تعطي هذه الجسيمات حالتها الكمومية (مثل الشحنة واللف والكتلة). لكن نظرية الأوتار تتنبأ أيضًا بوجود الجرافيتون الافتراضي، وهو جسيم كمي يحمل قوة الجاذبية. لذلك ستوفر نظرية الأوتار تفسيرًا لكيفية تناغم النسبية العامة (الجاذبية) لأينشتاين مع فيزياء الكم.

وباستخدام الإطار الرياضي لنظرية الأوتار، تبسط هذه الدراسة مفهوم الأكوان المتعددة. استخدم هوكينغ وهيرتوغ مفهوم نظرية الأوتار في التصوير المجسم لتقليص كوننا ثلاثي الأبعاد وصولاً إلى سطح ثنائي الأبعاد، ينطلق منه الكون الذي نعرفه. وعبر ذلك كانوا قادرين على وصف التضخم الأبدي دون الاعتماد على النسبية العامة.

وقال هيرتوج في بيان: «عندما نتتبع تطور كوننا منذ بداياته المبكرة، فإننا نصل في مرحلة ما إلى عتبة التضخم الأبدي، إذ يتوقف مفهومنا المألوف عن الوقت ويصبح بلا معنى». الرياضيات معقدة، لكن النتيجة مثيرة للاهتمام. الحسابات لها تأثير في تحويل الكون المتعدد اللانهائي إلى حالة أبسط بكثير مما يتوقعه التضخم الأبدي. قال هوكينج: «نحن لا نعتمد على كون واحد فريد من نوعه، لكن نتائجنا تشير إلى اختزال كبير في الكون المتعدد، وإلى نطاق أصغر بكثير من الأكوان المحتملة».

كيف نختبر ورقة هوكينغ؟

لوضعها في منظورها الصحيح، لا تُحدث ورقة هوكينغ النهائية ثورة في فهمنا لكيفية عمل الكون والأكوان المتعددة، لكنها إضافة قيمة إلى مجال ضخم من العمل النظري. وعلى وجه التحديد، يأمل هيرتوغ أن تساعدنا هذه الدراسة على البحث عن موجات الجاذبية القديمة التي أنشِئت بوساطة التضخم الأبدي.

هذه التموجات في الزمكان أضعف بكثير من أن تكتشفها كاشفات موجات الجاذبية الحالية. سنحتاج إلى الانتظار حتى تُطلق المراصد الفضائية المتقدمة، مثل مهمة LISA المخططة لوكالة الفضاء الأوروبية.

بصرف النظر عما إذا كانت هذه الدراسة تؤدي إلى اكتشافات رائدة حول الكون الذي نعيش فيه، فهي شهادة لعالِم عظيم عمل بلا كلل طوال حياته للإجابة عن بعض أكبر الأسئلة التي فكرت فيها البشرية. وعلى أكتاف هوكينغ، ستعمل عقول عظيمة أخرى على أمل معرفة: هل كوننا فريد، أم أنه فقاعة واحدة فقط تطفو عشوائيًا في محيط الأكوان المتعددة؟.

اقرأ أيضًا:

هل بامكاننا الان اختبار فكرة اشعاع هوكينغ و مفارقة فقدان المعلومات للثقوب السوداء على الارض ؟

على عكس المعتقد السائد، ثقب أسود له صدى،فهل نحن أمام انتصار جديد لهوكينغ؟

ترجمة: أنور عبد العزيز الأديب

تدقيق: طارق طويل

مراجعة: حسين جرود

المصدر