بنديكت دي سبينوزا، اسمه الأول بالعبرية «باروخ» وباللاتينية «بندكتوس» وبالبرتغالية «بينتو دي سبينوزا»، وُلد في 24 نوفمبر سنة 1632 في أمستردام، وتوفي في لاهاي في 21 فبراير سنة 1677. وهو فيلسوف هولندي يهودي، وأحد أهم دعاة الفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر ومن أوائل الشخصيات المؤثرة في عصر التنوير، وتُعَدُّ رسالته الفلسفية «الأخلاق» التي صدرت سنة 1677 أهم أعماله.

حياته المبكرة ومهنته

كان والدا سبينوزا من يهود البرتغال الذين أُجبِروا على اعتناق المسيحية، لكنهما استمرا بممارسة اليهودية سرًا. وبعد أن اعتُقلا في البرتغال وتعرضا للتعذيب وأُدينا في محاكم التفتيش فرَّا إلى أمستردام، حيث أصبح مايكل والد سبينوزا تاجرًا مرموقًا ثم أحد المسؤولين عن إدارة كنيس المدينة. توفيت هانا والدة سبينوزا سنة 1638 قبل عيد ميلاده السادس بقليل.

كانت الجالية اليهودية في أمستردام فريدة من نوعها في ذلك الوقت، إذ جمعت أفرادًا من أصول إسبانية وبرتغالية وفرنسية وإيطالية، نشؤوا في بلدانهم على الديانة المسيحية ثم غادروها هربًا من الاضطهاد ليمارسوا دين أجدادهم بحُرية. منحت السلطات الهولندية المجتمع اليهودي حرية ممارسة العقيدة شرط ألا يسبب أبناؤه أي فضائح أو جرائم يعاقب عليها القانون.

أنشأت الجالية اليهودية العديد من المؤسسات الاجتماعية والتعليمية، من ضمنها مدرسة ذكور لتعليم التلمود والتوراة سنة 1638، تتلمذ طلاب هذه المدرسة على يد مدرسين ذكور تلقى كثير منهم تعليمه في مدارس الروم الكاثوليك قبل قدومهم إلى أمستردام. علَّم هؤلاء الطلاب معظم ما تعلموه تقريبًا وأضافوا إليه تعاليم في مواضيع يهودية مختلفة، ولا نعرف تمامًا نسبة المواد اليهودية التي كانت تُدَرَّس ضمن المنهاج الدراسي وقتها. كان باروخ سبينوزا الصغير تلميذًا في هذه المدرسة حيث تعلَّم اللغة العبرية ودرس الفلسفة اليهودية ومن ضمنها فلسفة موسى بن ميمون.

بدأ سبينوزا -عندما كان في سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة- مشروعًا تجاريًا لبيع الفاكهة الاستوائية مع أخيه. وتعرَّف في دكانه الصغير المطل على قناة أمستردام المائية برجال أعمال شباب من ديانات مختلفة، أصبح بعضهم أصدقاء لازموه مدى حياته.

باروخ سبينوزا: حياته وتأثيره - فيلسوف هولندي يهودي - أوائل الشخصيات المؤثرة في عصر التنوير - الفلسفة اليهودية - بينتو دي سبينوزا

بدأ سبينوزا يثير الشكوك حوله بوصفه مهرطقًا يدعو إلى أفكار تناقض الأفكار الدينية السائدة، عندما كان في بداية العشرينيات من العمر. بعد أن بدأ مع شابين بإعطاء بعض الدروس في مدرسة السبت، واتُّهم ثلاثتهم بنشر تعاليم خاطئة. ولم يُعثَر على محضر التحقيق مع سبينوزا في هذه القضية، لكن وُجِّهَت للشابين الآخرين تهمة إثارة الشكوك في عقول تلاميذهم حول الدقة التاريخية للكتاب المقدس وإمكانية وجود بدائل أخرى في التاريخ البشري تساويه أو تفوقه في تفسيرها للحقيقة.

ظهر في أمستردام سنة 1655 كتاب بعنوان «البشر قبل آدم» لرجل البلاط الفرنسي «إسحاق لابيرير»، تحدى هذا الكتاب صحة الكتاب المقدس وقال فيه كاتبه إن انتشار البشر في كل أنحاء العالم دليل على أنهم وُجِدوا على الأرض قبل آدم وحواء. ختم لابيرير كتابه باستنتاج أن الكتاب المقدس هو سجل لتاريخ اليهود فقط وليس للبشرية كلها.

لا نعرف هل قابل سبينوزا لابيرير وقتها أم لا، لكن أحد مدرسي سبينوزا ويُدعى «منسي بن إسرائيل» كان من معارف لابيرير وتحدَّاه في مناظرة سنة 1655. كتب منسي أيضًا تفنيدًا لهذا العمل لم يُنشَر قط. أُدين كتاب «البشر قبل آدم» في هولندا والدول الأخرى وعُدَّ أحد أخطر كتب الهرطقة المطبوعة. اقتنى سبينوزا نسخةً من هذا الكتاب، وظهر الكثير من أفكار لابيرير عن الكتاب المقدس لاحقًا في كتابات سبينوزا.

سنواته الأخيرة وتأثيره

بعد أن أكمل باروخ سبينوزا كتابة عمل الأخلاق، زاره عدد من الشخصيات المشهورة من ضمنهم العالم والفيلسوف «إهرنفريد والتر فون تشيرينهاوس» سنة 1675، و«غوتفريد فيلهلم لايبنتس» سنة 1676 الذي كان أحد أهم الفلاسفة العقلانيين في ذلك الوقت. سمع لايبنتس بخبرة سبينوزا في علم البصريات فأرسل له جهازًا بصريًا وتلقى من سبينوزا نسخة من كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» أثارت اهتمامه الشديد.

وفقًا للايبنتس فقد دارت بين الاثنين «حوارات كثيرة شديدة العمق». كان سبينوزا في هذه الفترة في مرحلة متأخرة من مرض السل الرئوي الذي سببه استنشاقه لغبار الزجاج الناتج عن صنع العدسات، فتوفي سنة 1677 ولم يكن له وريث، وبيعت ممتلكاته القليلة في مزاد علني، وكان من ضمنها 160 كتابًا.

عُدَّ سبينوزا دومًا أحد أهم المفكرين الغربيين في التاريخ. وبسبب استقلال نظامه الفلسفي عن أي وجهة تاريخية أو فلسفية ورفضه الشديد لكل التفسيرات الغيبية الخارقة للطبيعية، اتُّهم بالإلحاد وفُسِّرت آراؤه وفلسفته تفسيرات خاطئة واستمر ذلك قرابة قرن من الزمن بعد وفاته. وكان الفيلسوف الفرنسي بيير بايل أول من نشر هذه الأفكار عن سبينوزا في كتابه «القاموس التاريخي النقدي» سنة 1697، الذي أكَّد فيه أن سبينوزا هو أول من جعل الإلحاد نظامًا فلسفيًا.

ثم جاء الشاعر الألماني نوفاليس في القرن الثامن عشر ليغير هذه النظرة، فقد رأى أن سبينوزا كان «رجلًا ثملًا بحب الله»، وحاز سبينوزا منذ ذلك الوقت على تقدير الفلاسفة والشعراء وإعجابهم بفكره، الذي تميز رغم تدينه الشديد بالعقلانية والبعد عن الانحياز العقائدي.

اقرأ أيضًا:

دراسة للحمض النووي تكشف التاريخ المروع لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي

مجتمع ما بعد الجائحة: الآثار المجتمعية وعواقب الأوبئة الماضية

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: وئام سليمان

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر