بعد قرون من الحيرة، تمكن العلماء من معرفة خصائص ناقلية الماء للكهرباء!


إنها اللحظة التي شكّلت محصلة قرون من الدراسة، فبعد أكثر من 200 عامًا من بدء العلماء بالتحقيق بالكيفية التي تنقل فيها جزيئات الماء الكهرباء، شهد أخيرًا فريق حدوث ذلك مباشرة.

ومن المعروف لدى الجميع أن معظم المياه في الطبيعة موصل جيد للكهرباء، وتعلم معظمنا هذه الحقيقة في المدرسة الابتدائية. لكن على الرغم من أهمية هذه العملية، لم يعرف أحد كيف يحدث ذلك فعليًا على المستوى الذري.

استعصى سابقًا إيجاد تفسير ثابت لهذه العملية الأساسية في الكيمياء والبيولوجيا، وقالت آني مكوي (Anne McCoy) من جامعة واشنطن، وهي من أعضاء الفريق الذي اكتشف الآلية: «والآن لدينا القطعة المفقودة التي تعطينا الصورة الأكبر: كيف تتحرك البروتونات أساسًا خلال الماء.»

وتمكن الباحثون بقيادة مارك جونسون (Mark Johnson) من جامعة ييل، من مشاهدة جزيئات الماء تمرر البروتونات بين بعضها البعض – وهي الجسيمات دون الذرية المشحونة بشحنة موجبة – باستخدام التحليل الطيفي، وهي العملية التي تسمح للباحثين بتسليط الضوء على الجزيئات ورؤية ما يحدث داخلها.
والمثير للاهتمام، أنه على الرغم من أن المياه التي تراها في العالم من حولك هي موصل جيد للكهرباء، إلا أن المياه النقية تمامًا، والتي نادرًا ما توجد خارج المخبر، لا تنقل فعليًا الكهرباء، بسبب افتقارها إلى الإلكترونات الحرة.

ولكن، في الطبيعة، تختلط كل المياه مع الرواسب والمعادن بكثرة، مما يؤدي إلى تأين جزيئات الماء، ويمكنها من نقل التيار.

حتى الآن، يعرف كل الباحثون بأن العملية هي تمرير الماء للبروتونات من جزيء إلى جزيء عن طريق ذرة الأوكسجين، بما يشبه سباق التتابع الجزيئي.
وتسمى هذه العملية آلية جروتاس (Grotthuss)، والتي وصفها لأول مرة الكيميائي تيودور جروتاس (Theodor Grotthuss) في العام 1806.

وقال جونسون «إن ذرات الأوكسجين لا تحتاج إلى التحرك كثيرًا في كل شيء، إنه نوع يشبه مهد نيوتن – أي لعبة الطفل المكونة من كرات صلبة على استقامة واحدة، وكل منها معلق بواسطة خيط، اذا رفعت كرة واحدة بحيث تضرب الخط، فإن الكرة الأخيرة هي التي تتحرك بعيدًا، وتترك باقي الكرات في حالة سكون.

وترى مثالاً لآلية جروتاس في الصورة المتحركة هنا

ولكن حتى وقت قريب، كانت هذه الصورة المتحركة تروي كل ما نعرفه، فعلى الرغم من أن الباحثين يمتلكون فكرة جيدة عن كيفية عمل هذه الآلية على السطح، ظلت التفاصيل الدقيقة لحدوثها غامضة بشكل محبط.

وكان الباحثون يفتشون خلال القرنين الماضيين عن وسيلة تجريبية لمتابعة التغييرات الهيكلية في جزيئات الماء أثناء نقلها للكهرباء – الأمر الذي تبين بأنه تحدي صعب جدًا.

وفي السنوات الأخيرة، حاول العلماء فعل ذلك باستخدام المسح بالأشعة تحت الحمراء لرصد سيرها، ولكن النتائج كانت أشبه بصورة ضبابية، من دون تفصيل واضح.

وأوضح جونسون «في الواقع، يبدو أن هذه الضبابية كانت شديدة جدًا لتمنح علاقة مقنعة بين اللون والبنية،»

ولمعرفة ذلك لمرة واحدة وبشكل نهائي، وجد جونسون وفريقه طريقة لتجميد العملية الكيميائية بشكل سريع، بحيث تكون لحظات التقاط الصور أثناء العملية قابلة للعزل والتجميد في الوقت المناسب، مما يسمح لهم بالحصول على رؤية واضحة المعالم.

استخدم الباحثون خمسة جزيئات من «الماء الثقيل» – وهو ماء مصنوع من نظير الهيدروجين الديوتريوم – ثم بُردت الجزيئات إلى ما يقرب الصفر المطلق (-273.15 درجة سيليزيوس أو -459.67 درجة فهرنهايت).

وعندها تباطأ كل شيء، وفجأة أصبحت صور البروتونات أثناء الحركة أوضح بكثير.

وقال جونسون «في الجوهر، اكتشفنا حجر الرشيد الذي يكشف عن معلومات هيكلية مشفرة لونيًا، وتمكنا من كشف سلسلة من تعديلات الشكل المشتركة، كالإطارات ضمن الفيلم.»

إن الإدراك الجديد سيوفر رؤية حاسمة لناقلية المياه – تلك الظاهرة التي تبقينا على قيد الحياة، والتي تكون حاسمة في كثير من التفاعلات الكيميائية على الأرض.

ولكنها قد تساعد أيضًا في اكتشاف أسرار أخرى، مثل النقاش الطويل عن كون سطح الماء أكثر حامضية أو أقل حامضية من بقية حجمه. وقد تجيب تقنية التصوير الجديدة هذه على هذا السؤال لمرة واحد بصورة نهائية.

ويضاف إلى ذلك أنها تسلط الضوء على بعض السلوكيات الغريبة للمياه التي تم اكتشافها حديثًا، مثل وجود طور سائل غامض آخر، وقدرته الغريبة على التجمد في درجة الغليان عندما يكون محتجزًا ضمن أنابيب نانوية.

يريد الفريق الآن إجراء التجارب مرة أخرى مع المزيد من جزيئات الماء، إضافة إلى غيرها من الجزيئات الصغيرة لرؤية كيف تتغير الناقلية.
قد يبدو أنه من غير المجدي النظر بعمق في عمليات كنا نعلم مسبقًا بأنها موجودة، لكن هذا النوع من البحوث الأساسية هو المفتاح لفهم العالم من حولنا.
ففي النهاية عندما نعرف حقًا كيف يحدث الأمر على أصغر مستوى ستكون لدينا فرصة لمعرفة ما تبقى من الكون. وعلى الرغم من وجود المياه في كل مكان حولنا فجزيئاتها من أغرب جزيئات المواد في العالم.


ترجمة: مجد ميرو.
تدقيق: أحمد شهم شريف

المصدر