بين اللانهائي والمحدود في فهم الكون


تأجّج في خمسينيّات القرن الماضي صراعٌ فكريٌّ كبير بين نظريّتين في علم الكون، نظرية الانفجار الكبير (The Big Bang theory) ونظريّة الحالة الثابتة (The steady state theory). انبثقت الأولى بوصفها أحد تطبيقات النسبية العامة النظرية لآينشتاين، وتفترض أن الكون متجانس فراغيًّا (لا زمنيًا)، أي أنّه يبدو مماثلًا بغضِّ النظر عن المكان والاتّجاه الذي نرصده منه. أمّا الثانية، وهي نظرية اقترحها العالم الإنجليزي فريد هويل (Fred Hoyle) وزملاؤه، وتفترض أنّ الكون متجانسٌ في الفراغ والزمان، فهو لا يكتفي بإظهار تماثل أينما رصدناه فحسب، بل يُظهر هذا التّماثل أيضًا في أيّ زمان رصدناه. تمخّض عن الأولى استنتاجٌ مفاده أنّ للكون عمرًا محدودًا ولحظةَ بداية. أمّا الثانية فأحالت بشكل تلقائي إلى استنتاجِ أنّ الكون ابتدأ منذ الأزل وسيبقى حتّى الأزل. أي أنّ لب الخلاف بين النّظريّتين يتركّز حول نهائيّة الكون مقابل أزليّته. يشكّل هذا الصراع مجرد فصل واحد من تاريخ سجال طويل بين مفهوم التكوين ومفهوم الوجود الأبدي.

تاريخ قصص الكون ونظريّاته على أشكالها المتعدّدة هو تاريخ جدل وسجال، وأحيانًا، صراع بين فكرتين مركّبتين؛ فكرة الأزليّة والدّيمومة واللانهائيّة، وفكرة، البدء والزّوال والمحدوديّة. قصدت أن استعمل في وصفي هذا ثلاثة متضادّات لفظيّة، من أجل تمييز مفاهيمَ نخلط بينها عادة عند التفكير في هذه الأمور، لفظان يتناولان الزمن، وهما: البداية والنهاية، ولفظٌ يتناول الفراغ ومحدوديّته. ورغم تعدّد وتباين الأشكال التي تتفاعل بها هاتان الفكرتان في هذه القصص والنظريات؛ إلّا أنّ علاقتهما غالبًا ما تتّخذ صفةً جدليةً فتدفع الكون في عجلة تطوره، أو صفةً تناحريّةً بشكل واضح وصريح تنفي به بعضها البعض. ففي الديانة البوذية مثلًا، يُخلق الكون ويندثر ثم يعود ليُخلق من جديد في عجلة أزلية من الصيرورة والفناء، يكمّل بها السرمدي والنهائي أحدهما الآخر. أما في الديانات التوحيدية فقصّة خلق الكون، والتي عادةً ما يكون مركزها الإنسان، تتلخص في “كن فيكون” التي تعبر عن تبعية النهائي (الكون والإنسان) للسرمديّ (الله). أمّا فلسفة أرسطو، التي سادت عالم المفكرين لقرون عديدة، فتعتبر الكونَ نهائيًّا فراغيًا، فهو مكون من كراتٍ عدّة تشترك بمركزٍ واحد هو مركز الأرض، وتقع عليها الكواكب السيارة والشمس والقمر، وتشكّلُ النجومُ سقفَ حدوده التي تقع على سطح الكرة الكونيّة الأخيرة التي لا يوجد شيء خارجها (هذا هو أساس نموذج بطليموس الشهير). ولكن أرسطو يجزم في الوقت ذاته أنّ الكون مستمر منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التي تعكس هذا السِّجال، في الأديان والنّظريات الفلسفيّة والعلوم، وتدفعها جميعًا بغير استثناء الحاجةُ لفهم العلاقة بين هاتين الفكرتين المتناقضتين. أي أنّ علم الكون يصبو، لا محالة، إلى حسم دور كلٍّ منهما بما يلائم معطيات أرصادنا، من غير ترك ثغرات أو تناقضات منطقية في تصوّرنا.

الخلاف بين نظريتين أو أكثر في تفسير ظاهرة طبيعية هو أمر اعتيادي، يكمنُ في لب العملية العلمية. والحسم بينها يأتي من خلال التنبّؤات المختلفة لكل منها حول الطّبيعة. والتي نستطيع بالتالي دحضها مبدئيًا على الأقل أو تأكيدها بواسطة التّجارب أو الرّصد. هذا ما يميّز النّظريات العلميّة عن غيرها. أي أن تنبؤ النظرية العلمية بنتائج نستطيع فحصها ودحضها هو ما يجعلها “علمية”. وكما قال فيلسوف العلوم الشهير كارل بوبر في كتابه منطق البحث “أولئك الذين يرفضون من بين العلماء أن يخضعوا أفكارهم لمخاطر الدّحض [التجريبي] لا يشتركون في اللعبة العلمية”. ورغم الأفكار الكبيرة التي تكمن وراء النظريات العلمية والمنطق الذي تحمله؛ إلا أن التفاصيل التي تكمن في طواياها، جليّةً كانت أم خفيّةً، وتماهيها مع ما نجده في الطبيعة هي ما يحكم صلاحيتها. فكما يقول المثل الإنجليزي “الشيطان يكمن في التّفاصيل”!

إذًا ماذا تقول هاتان النّظريّتان، وكيف حُسم الأمرُ بينهما لصالح نظريّة الانفجار الكبير؟ دعونا أوّلًا نلج في صلب مفهوم كل منهما عن الكون، ونتناول باقتضاب المنطق من ورائهما وتداعِياتهما على الكون وخوّاصه. وسأبدأ بنظريّة الانفجار الكوني الكبير التي هي العمود الفقري لفهمنا الحالي للكون وتطوره.

نظرية الانفجار الكبير

كما ذكرت سابقًا، تعود الخطوات الأولى لهذه النظرية إلى ألبرت آينشتاين، وذلك بعد أن وضع نظريته حول الجاذبية، المعروفة باسم النظرية النسبية العامة. تمخّضت نظريته عن معادلة معروفة باسمه، معادلة أينشتاين، التي حاول إيجاد حلول لها لإعطاء أمثلة عليها وفحص نتائجها. أحد هذه الأمثلة هو منظومة الكون، التي افترض أينشتاين خلالها أن الكون متجانس فراغيًّا، أيّ أنّه كما أشرت أعلاه يظهر متماثلًا بغض النظر عن مكان الرّصد أو اتجاهه. بكلمات أخرى لا يوجد مكان خاص في الكون! أصبح هذا الافتراض يعرف بالمبدأ الكوني (والمبدأ الكوبرنيكي أيضًا) ويعود بالأصل إلى نيوتن. بعد هذا بسنوات عدّة، وجد العالم الرّوسي ألكسندر فريدمان (Alexander Friedmann) حلًّا لمعادلة أينشتاين في حالة فرضيّة المبدأ الكوني، نتج عنه أن كوْنًا كهذا يجب أن يكون في حالة

انتشارٍ أو انكماشٍ دائم.

من الجدير بالذكر أن أينشتاين رفض في البداية قبول حلول فريدمان واعتبرها مجرد رياضيّات جميلة لا تمتّ للكون الحقيقي بصلة، السبب الأساسي في ذلك هو اعتقاد أينشتاين بسكون الكون وثباته، لأن انتشاره أو انكماشه يشير إلى لحظة بداية أو نهاية، الأمر الذي ناقض اعتقادًا فلسفيًّا عميقًا لديه بعدم وجود بداية للكون (سأعود لهذه النقطة لاحقًا). أصدر أينشتاين عام 1917 مقالًا حول منظور الكون من خلال نظريته الشهيرة وتوصّل كما فعل نيوتن من قبله وفريدمان من بعده، لاستنتاجٍ يفيد أنّ الجاذبية لا تسمح للكون أن يكون ثابتًا، أي أنّه متغير، مما يعني أنّه ليس بمقدوره أن يكون قد ابتدأ منذ الأزل. لهذا اقترح إضافة حد ثابت جديد لمعادلات النّظريّة النّسبية العامّة، يعطي تأثيرًا مضادًا للجاذبية، أسماه الثابت الكوني، يستطيع بواسطته إلغاء ظاهرة الانتشار.

لكن في عام 1927 اكتشف العالم الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) انتشار الكون بواسطة رصده لبعد المجرات المعروفة آنذاك وسرعتها بالنّسبة للأرض، وهذا ما دفع أينشتاين للتصريح أنّ الثابت الكوني هو “أكبر خطأ ارتكبه في حياته”، أي أنّ إصراره الميتافيزيقي على سكون الكون دفعه إلى تشويه تحليله الموضوعي للحقائق. سأذكر بشكل عابر هنا، أننا اليوم نعرف أن الثابت الكوني هو في الحقيقة مفهوم مهم لفهم ظاهرة الانتشار المتسارع التي يمر بها الكون الآن.

بناء عليه استنتج العالم البلجيكي، الذي كان كاهنا في صفوف الكنيسة الكاثوليكية، جورج لاميتر (Georges Lamaître)، أنّنا إذا عكسنا اتجاه انتشار الكون، أي عدنا بالزمن إلى الوراء، نصل إلى نقطة معيّنة كان بها حجم الكون صفرًا، مما يتضمّن في معناه أن للكون بداية! من المثير للاهتمام أّنه عندما أصدر بابا الكنيسة الكاثوليكية، بيوس الثاني عشر (Pius XII)، بيانًا عام 1951 يرحب به بنظرية لاميتر ويعدّها إثباتًا على العقيدة الكاثوليكية (المشتركة لكلّ الديانات التوحيدية) التي تقول أنّ الكون خلق على يد خالق، سارع لاميتر بتحدي إعلان البابا، ونجح بإقناعه بسحبه، محتجًّا أنّ نظرية الانفجار الكبير هي نظرية علمية، وهذا ما ينفي عنها تعززيها أو نقضها لتعاليم الدين. لا يوجد حسب لاميتر علاقة بين العلم والدين، فقد فهم جيدًا حقل الألغام الذي يمثله ربط كهذا، بإسقاطاته السلبية على الدّين.

إذًا، تقول نظرية الانفجار الكبير إننا نعيش في كون منتشر (أي آخذ في الابتعاد عن بعضه البعض) نشأ قبل نحو 14 مليار عام. وكلما نظرنا إلى الماضي كان الكون أصغر، ذا كثافة وضغط وحرارة أعلى. وعندما نقترب إلى اللحظات الأولى من عمر الكون، ترتفع الحرارة والكثافة لدرجة كبيرة بحيث أن تصرّف المادّة يتغيّر جذريًّا بالنّسبة لتصرّفها الذي نعرفه من حولنا، بالتحديد، ما يحدث هو أنه خلال انخفاض الكثافة ودرجة الحرارة منذ بدء الكون حتى الآن تخضع المادة والطاقة في الكون لتحوّلات جذريّة عدّة، تعرف في الفيزياء باسم “تحوّلات طوريّة” (phase transitions) ومن أمثلة هذه التحولات التي نعرفها جميعًا؛ تحول الماء من الحالة السائلة إلى الصلبة عندما يتجمد، أو من السائلة إلى الغازيّة عندما يتبخّر. التّحوّلات الطّوريّة التي يمر بها الكون بالطبع، تختلف عن التّحول الطّوريّ للماء، وتتغيّر طبيعتها في كل مرحلة من مراحل الكون تغيّرًا جذريًا.

كان العالم الأمريكي (السوفييتي الأصل) جورج چاموڤ (George Gamow) وزملاؤه قد اقترحوا بعد الحرب العالمية الثانية؛ أحد أهم التحولات الطوريّة في تاريخ الكون، وهو التحوّل الذي أدّى إلى تكوّن العناصر الكيميائيّة الأساسيّة في الكون. حدث هذا التحول عندما كان عمر الكون ما بين مايكرو ثانية (جزء من مليون من الثانية) وثلاث دقائق، أنتج الكون آنذاك العناصر الأكثر شيوعًا فيه، الهيدروجين (75%) والهيليوم (25%). قبل هذه المرحلة كانت درجة حرارة الكون أعلى من أن تسمح بتكوّن عناصر، أما بعدها فأصبحت كثافة الطاّقة في الكون أقلّ من أن تتيح تكوين عناصر أثقل من الهيليوم. يجدر التنويه هنا أنّ العناصر الأكثر ثقلًا، كالأكسجين والكربون والحديد وغيرها، موجودة بنسبة ضئيلة جدًا ولا ينتجها الكون في اللحظات الأولى من تكوينه، إنّما تَتَكوّن نتيجة تحوّل الهيدروجين والهيليوم إلى عناصر ثقيلة بواسطة التّفاعلات النّووية التي تحدث في باطن النّجوم خلال دورة حياتها وموتها.

مثال هام آخر، أيضّا من جعبة جورج چاموڤ، هو التّحول الطّوريّ الذي حدث بعد نحو 380 ألف عام من تكون الكَون، حينما تنتقل ذرات الهيدروجين والهيليوم من الحالة المتأيّنة إلى الحالة المتعادلة. تتّخذ هذه المرحلة أهمّيتها من كونها المرحلة التي يتحوّل فيها الكون إلى كون شفاف يسمح للضوء بالانتقال من مكان إلى آخر بحرِّية، فقبل هذه المرحل يكون الكون ضبابيًا يتواجد فيه الضوء في حالة اتزان حراري مع المادة ويتشتَتُ باستمرار بشكل عشوائي (كما يحدث له داخل غمامة كثيفة)، أمّا بعدها فيتحول إلى مكان جليٍّ واضح يستطيع الضوء الانتقال فيه بحرّيّة. يأخذنا هذا التحوّل الطوري لأبعد نقطة نستطيع أن نراها بشكل مباشر بعد الانفجار الكبير، أي بعد 380 ألف عام من حدوثه، فمنها نرصد الأشعة المسمّاة بالأشعة الكونيّة الميكرونيّة التي هي بقايا الضوء الذي يصلنا من نشأة الكون.

إذًا، هناك على الأقل ثلاثة تنبؤات واضحة لنظريّة الانفجار الكبير: يشير الأول إلى أنّ كثافة الكون تقل مع الزّمن نتيجة انتشاره، ويخبرنا الثاني بوجود الكثير من الهيدروجين والهليوم في الكون −ستكون للهيليوم بالذات أهمية في قصتنا− أمّا التنبؤ الثالث فينصّ على وجود أشعة تأتي من كل اتّجاه في الكون، كانت في الماضي السحيق في حالة اتّزان حراري مما يجعل لها ألوان طيف خاصّ جدًّا، يسمى في الفيزياء طيف پلانك (نسبة للعالم الألماني ماكس پلانك). في الواقع، لدينا عدد هائل من تنبؤات هذه النظرية لكني سأكتفي الآن بهذه الأمثلة لأهميتها التاريخيّة وسأعود لذكر تنبؤات أخرى لاحقًا.

إشكالية بداية الزمن

لكن قبل أن نكمل قصتنا؛ دعونا نقف قليلًا عند رفض آينشتاين الأوّلي لفكرة وجود بداية للزمن، ما الذي دفعه لهذا الظنّ؟ كما ذكرت سابقًا، لم يكن هذا اعتقاد أينشتاين وحده، بل شاركه به العديد من العلماء والفلاسفة الآخرين الذين لم يحبّذوا فكرة لحظة بداية للكون، وذلك لأسباب عديدة سأذكر هنا اثنين منها.

أوّل هذه الأسباب هو التساؤل الفيزيائيّ البسيط: لماذا يرضخ الكون لتجانس فراغي -كما تنصّ نظرية الانفجار الكبير- لا لتجانس زمني؟ ألم تبيّن النّظرية النّسبية أن الزمن والفراغ مرتبطان عضويًا بعضهما بعض، بل وأكثر من ذلك، فنحن نعرف أنه في ظروف خاصة جدًّا مثل السقوط داخل ثقب أسود، يتبدّل تصرّف الإحداثيّات بحيث تصبح إحداثيةُ الزمن إحداثيةَ فراغ، والعكس صحيح، أي أنّ الزّمان والمكان يختلطان، إذًا ما الذي يميز الزّمن عن الفراغ بهذا الشّكل الأساسي؟

حتى إذا قبلنا فكرة أنّ الزمن والفراغ مختلفان، ما الذي يجعل الكون يوجد من عدم (ex nihilo) في لحظة معيّنة، ما الذي يميز تلك اللحظة عن سابقتها أو تلك التي تليها، أي كيف نفسر بصفتنا علماء ضرورة تلك اللحظة بواسطة قوانين الطبيعة؟ إنّ الحاجة لتفسير لحظة النشوء وتوقيتها تخلق إشكاليّات أعمق وأصعب للفهم، من فكرة الوجود اللانهائي للزمن.

واجه الفلاسفة الإشكالية ذاتها على مر التاريخ، فقد ذكرنا أنّ أرسطوطاليس ظنّ بعدم وجود لحظة بداية، وفسّر اعتقاده هذا بشكل مبهم قليلًا قائلًا إننا نستطيع تخيل وجود اللحظة السابقة للحظة البداية، أيًّا كانت هذه اللحظة! أمّا ابن رشد، الذي رفض أيضًا وجود لحظة بداية، فبرّر ذلك بحجة منطقية ودينية دامغة تقول إنّ وجود بداية ينتقص من فكرة كمال “الخالق” ولا نهائيته أو يتعارض معها. بينما يعتقد الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، أنّ الفراغ والزمن غير محدودين لأننا لا نستطيع التفكير بمحدوديّتهما، وذلك نتيجة معرفة مسبقة طُبعت فينا، وهذا انعكاس لصفات الزمن والفراغ الحقيقيّة. نستطيع أن ندرج هنا أمثلة أخرى كثيرة جدًا، كما من الممكن أن نلج في خضم نقاشات مشابهة في الأديان المختلفة.

إلّا أنّنا هنا لنتحدث عن فهمنا العلمي للطبيعة لا الفلسفي، فما ذكرناه من مواقف ونقاشات فلسفية مثيرة للاهتمام وآسرة للخيال هي مجرد مواقف، ما دمنا لا نربط بينها وبين ما نرصده في الطبيعة، إذ أنّنا لا نستطيع من غير تنبؤات عينية وأدلة موضوعية تجريبية أن نسبر لب الحقيقة، فقد رأينا مثلًا أن نظريّة الانفجار الكبير تقوم على تنبؤات عينيّة قابلة للرّصد والتجربة، تمكّننا من أن نعرّض النظريّة لمخاطر الدّحض التّجريبي، كما ذكر كارل بوبر. الشق الثاني من هذا المنطق هو أنّنا إذا رغبنا في كون بلا بداية علينا إيجاد نظرية عينية تفصيليّة للكون، تتيح لنا أن نمتحنها من خلال حكم الواقع والتجربة، فإما أن تنجح وتعيش لتواجه امتحانات أخرى وإمّا أن تفشل وتذهب طيّ النّسيان. هذا بالضبط ما حاول فريد هويل وزملاؤه فعله، باقتراح نظرية علمية تفصيلية، تكمن فرضيةً تجانس الزّمن والفراغ في لبّها، وتعرف باسم نظرية الحالة الثابتة.

نظرية الحالة الثابتة

بعد اكتشاف قانون هابل وانتشار الكون، أصبح واضحًا، كما اعترف آينشتاين ألّا مكان لنظرية الكون الساكن التي كانت ملاذ من يعتقد بعدم وجود بداية للكون. لكن في عام 1948 نشر ثلاثة علماء بريطانيين هم هويل (Hoyle) وچولد ( Gold) وبوندي (Bondi) مقالان اقترحوا فيهما مخرجًا جديدًا لفكرة التجانس الزمني والكون الذي ليس له بداية. عرضوا فيه فكرة خلّاقة تزعم أنّ انتشار الكون لا يعني ابتداءه في لحظة معينة، بل هو انتشار كان وسيبقى إلى الأزل، لكن كيف يمكن هذا؟ إنّ الظواهر التي يوجد فيها حركة ولكنها لا تُحدث تغييرًا تملأ الطبيعة في الحقيقة، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك مياهٌ تجري في نهر هادئ، فنحن نعلم أنها جارية ولكننا لا نرى تغييرًا ظاهرًا. إذًا تفترض نظرية “الحالة الثابتة” أن الكون متجانس زمنيًّا وفي حالة جريان “هادئ” ودائم، تبتعد فيه كل نقطة عن جارتها بوتيرة ثابتة.

ولكن مهلًا، ألا يقتضي انتشار الكون تغيّر كثافته بالضرورة؟ ذلك لأنّه إذا أخذنا وحدة حجم ثابتة في الكون، فإن كمّيّة المادّة الكامنة داخلها ستقِّل مع الزمن لأن بعضها سيغادر هذا الحيّز المعيّن، ولكن نظرية الكون الثابت تقول إنّه لا يحدث تغيّر مع الزمن! لحل هذه الإشكالية أضاف هويل وچولد وبوندي إلى نظريتهم فكرة تقضي بوجود طاقة كامنة في الكون، تتحرّر كلّ الوقت وتتحول إلى مادة تعوض بدورها الكثافة التي يخسرها الكون نتيجة انتشاره، ويشبه تحرّر مثل هذه الطاقة ظاهرة الحرارة الكامنة التي تنطلق عند تحول الماء من صلب إلى سائل من غير تغيّر في حرارته. إذا فهذا أول فرق يمكننا رصده بوضوح بين هذه النظرية ونظرية الانفجار الكبير. فالأولى تفترض أنّ كثافة الكون ثابتة لا تتغير بينما تفترض الأخرى أنّها كانت أكبر فيما مضى.

النّظريات العلميّة ومخاطر الدّحض التّجريبي

الطريق أمام أي نظرية فيزيائية طريقًا وعرة ومليئة بالإخفاقات والمخاطر. في خمسينيّات القرن الماضي انقسم علماء الكون بين هذين الخيارين: كَوْنٌ وُجد فجأة وكون كائن منذ الأزل. لكلّ نظريّة إيجابيّاتها ونواقصها، فما العمل إذا؟ لن أدخل في تفاصيل كثيرة هنا، ولكني سأنوّه مجددًا إلى أنّ ما يحسم بين النظريات المختلفة هو الرصد والتجربة التي تمكّننا من دحض تنبؤاتها أو امتحانها. لكن هذا في الحقيقة أعقد مما يبدو بكثير، فهناك أولًا أخطاء عديدة يمكن أن تحدث في عملية الرصد أو التجربة، أي أنّ النّتيجة التجريبيّة قد تكون خاطئة أو مفهومة بشكل خاطئ. قد يحدث أيضًا لبس في تحليل بعض جوانب النظرية التي قد تؤدي إلى تناقض ظاهريّ مع النّتائج التجريبيّة. إضافة إلى ذلك، لا يعني وجود مثل هذه التّناقضات بالضرورة خطأ النظرية، بل قد يعني فقط عدم اكتمالها أو نضوجها بعد. لدينا أيضًا إشكال أساسي أكبر مما ذُكر، يتضمّن القيام بأي تجربة أو رصد بين طواياه فرضيات نظرية كثيرة ترتكز على آرائنا المسبقة حول ماهية الظاهرة الطبيعية، أي أنّ تجاربنا، كما يسمونها في فلسفة العلوم، مثقلة بالنظريات (theory laden) وهي قضية أساسيّة يجب أن نتوخّى الحذر منها. سأعطي فيما يلي أحد الأمثلة على التباسٍ حدثَ نتيجة خطأ تجريبي في قياس قانون هابل، أوقع نظرية الانفجار الكبير في مأزق تلك الفترة.

يقضي قانون هابل بوجود تناسب طردي بين بُعْد المجرات وسرعة ابتعادها عنا، يربط بينهما ثابت تناسب يسمّى ثابت هابل، يعطينا بدوره وبشكل تلقائي وطبيعي، تقديرًا لعمر الكون. لكن عندما اكتُشف هذا القانون كان هناك خطأ منهجي في قياس بعدنا عن المجرات، لأن قياس بُعد الأجرام السماوية هو من أصعب القياسات في فيزياء الفلك، وأدى هذا الخطأ إلى قياس مغلوط لقيمة ثابت هابل بمقدار 5 أضعاف قيمته الحقيقية تقريبًا. تمخض عنه نتيجة مستحيلة  تتمثّل في أن عمر الكون أقلّ من عمر نجوم كثيرة فيه، في حين أن عمر الكون لا يمكن أن يكون أصغر من عمر محتوياته. يجدر التنويه أنّ هذا القياس لا يشكل مشكلة بالنسبة لنظرية الحالة الثابتة التي يُعتبر عمر الكون تبعًا لها لا نهائي، بالتالي لا يمكن أن يتناقض هذا القياس مع تقديرنا لعمر النجوم. نحن نعرف الآن أنّ المشكلة كانت في القياس وليس في النظرية، وهذا ما لم يكن واضحًا في حينه.

للتلخيص، ذكرنا أنّ نظرية الحالة الثابتة تتنبأ بكثافة كونيّة ثابتة، بينما تفترض نظرية الانفجار الكبير تغيّر كثافة الكون لتصبح أقلّ مع مرور الزمن. ذكرنا أيضًا أنّ نظرية الانفجار الكبير تتوقع وجود كمية كبيرة من الهيليوم في الكون (25% من وزنه) بينما يُعتبر المكان الوحيد الذي ينتج به الهيليوم كما تخبرنا نظرية الحالة الثابتة هو بطون النجوم التي لا نتوقع أن تنتج كمًّا مماثلًا من الهيليوم. أمّا التنبؤ الثالث فيتعلق بالأشعة الميكرونيّة الكونية التي تأتي من كل اتّجاه، والتي تنشأ في نظريّة الانفجار الكبير من التحولات الطّوريّة في الكون كلّه أما في نظرية الحالة الثابتة، فتطلقها النجوم الواقعة على أبعاد سحيقة، لذلك تختلف صفات هذه الأشعة تمامًا.

عند الامتحان يكرم المرء أو يهان: اكتشاف الأشعة الميكرونيّة الكونيّة

في عام 1964، عثر العالمان الأمريكيان أرنو پنزياس (Arno Penzias) وروبرت ويلسون (Robert Wilson)

بطريق الصدفة على أحد أهم الاكتشافات العلمية على مر العصور. حدث ذلك في مختبرات شركة بل (Bell Labs) حيث كانا يعملان على تلسكوب لرصد الفضاء بواسطة الأمواج الميكرونية، وهي أمواج كهرومغناطيسيّة يتراوح طولها بين 0.1 سنتمتر ومتر، أي أنّ تسميتها بميكرونية لا تمت بصلة لطول موجتها. لاحظ حينها پنزياس وويلسون أنّ أجهزة التلسكوب ترصّد تشويشًا غير متوقع يأتي من كل اتّجاه، ظنّا في البداية أنه نتيجة عطب في أجهزة الرّصد، وحاولا فحص مصادر أخرى لهذا التشويش دون جدوى، فقد بقي مصدر هذا التشويش الغريب الذي يأتي من كل اتجاه مجهولًا. لكنهما أدركا بعد بحث طويل وسؤال بعض علماء الكون إلى أن نظرية الانفجار الكبير تتوقع أن تأتينا أشعة ميكرونية من ماضي الكون السحيق من جميع الاتجاهات، وهي أشعة حرارية لها طيف پلانك نستطيع بواسطتها قياس حرارة الكون اليوم، وهي 2.73 درجة حرارة مطلقة (نحو 270 درجة تحت الصفر).

أحدث هذا الاكتشاف ثورة في مفاهيمنا، كانت نتيجته الأولى انتصارًا واضحًا لنظرية الانفجار الكبير، لأن للأشعة الميكرونية نفس الصفات التي توقعتها هذه النظرية. ومنذ اكتشافها أصبحت هذه الأشعة أشبه بالإوزة التي تبيض ذهبًا بالنسبة لعلماء فيزياء الكون، فما انفكّت تزودنا بكنز من المعلومات تلو الآخر عن تاريخ كَوْنِنا وتطوره، وليس صدفةً أن تمنح لجنة نوبل للفيزياء جائزتها مرتين لأربعة علماء يعملون في هذا المجال، اثنين في عام 1978 واثنين آخرين في عام 2006.

بعد اكتشاف الأشعة الميكرونيّة الكونيّة، أخذت نظرية الحالة الثابتة بالانحسار تدريجيًا. كما تبلور أيضًا إدراكٌ لعدم توافق كمية عنصر الهيليوم في الكون مع هذه النظريّة، بل مطابقته تمامًا لتوقعات النظريّة المنافسة. وتدريجيًا أخذت تتفاقم الدلائل التي تدعم نظرية الانفجار الكبير، مثل تغيّر كثافة الكون مع الوقت، الأمر الذي نرصده الآن بشكل روتيني، كما تطورت نظرية الانفجار الكبير فأصبحت تحوي تفاصيلًا أخرى تفسر نشوء المبنى المركب في الكون وتكون المجرات وكمٍّ كبير غيرها من الظواهر. باختصار تُعتبر نظرية الانفجار الكبير اليوم نظريةً ناجحةً جدًا، إذ أنها تفسر ظواهر الكون وخواصّه بشكل دقيق جدًا وتعد من أهم إنجازات الإنسان العلمية والفكرية على مر العصور.

وتدور العجلة مجدّدًا

يُدعى أحد العناصر التي أضيفت إلى نظرية الانفجار الكبير بالتضخّم الكوني (cosmic inflation) وهو تحوّل طوري يحدث في مرحلة مبكرة جدًا من عمر الكون، عندما كان يبلغ جزءًا ضئيلًا جدًا من الثّانية، ففي هذه المرحلة يكبر الكون خلال ومضة عين نحو 1030 مرّة (واحد أمامه 30 صفرًا). وكانت هذه المرحلة قد اقترحت في بداية الثمانينيّات على يد العالم الروسي ألكسي ستاروبنسكي (Alexei Starobinsky) والعالم الأمريكي آلان جوث (Alan Guth) بشكل مستقلّ. وبالرغم من غرابة هذه المرحلة في تاريخ الكون إلّا أنّها ضرورية لحلّ عدد من المشاكل الأساسية التي كانت تواجه نظرية الانفجار الكبير، ومن أهمها هو كيف أنشأ الكون التموجات الصغيرة جدًا في كثافة المادة، التي تكبر ببطء على مدى عمر الكون لتكِّون لاحقًا المجرات والنجوم والكواكب السيارة. أو لماذا يتّخذ الكون درجة حرارة واحدة أينما نظرنا إليه، وغيرها. سأعود لشرح هذا الموضوع في مقال قادم.

طوّر العلماء الذين يدرسون الكون المبكر في العقود الأخيرة، عددًا كبيرًا من النماذج الممكنة لتضخم الكون، جزء منها بسيط نسبيًا وجزء مركب. تتكلم أهم هذه النماذج عن تضخم من غير توقف، يولد من خلاله عدد لانهائي من الأكوان (multiverse). ومن المذهل حقًا أن قياسات الأشعة الميكرونيّة أصبحت دقيقة جدًا بحيث أنها دحضت جميع النماذج البسيطة للتضخم الكوني، وأبقت فقط على النماذج التي تتنبأ بوجود عدد لانهائي من الأكوان التي تولد كلّ الوقت، هذا لا يعني أن هذه النماذج صحيحة ولكنها النماذج الأساسية التي نملكها في الوقت الحاضر.

عدنا إذًا من حيث بدأنا! الكون الذي نعيش به نشأ حسب نظرية الانفجار الكبير في لحظة معينة، وله بداية في الزمن، لكنّه حسب نظرية توالد الأكوان مجرد واحد من عدد لانهائي من الأكوان، ابتدأت بالنشوء لربما منذ الأزل وستبقى تنشأ إلى الأبد. أي أنه على الرغم من خسارة نظرية الكون الساكن ونظرية الحالة الثابتة، إلّا أن الفكرة الأساسية من ورائهما، فكرة تجانس الزمن ولا نهائيّته في الماضي والمستقبل، ما زالت حية ترزق. هذا الرقص الكوني بين اللانهائي والمحدود ما زال يؤرّقنا ويتحدّانا.

هناك سبب آخر يحذُّ العديد من العلماء لتبني نظرية الأكوان المتعددة، وهو سبب فلسفي يسمى بالمبدأ الأنثروبي (The Anthropic Principle)، سأحاول شرحه ببساطة واقتضاب هنا. من الواضح أن الكون الذي نعيش به يمتلك شروطًا مواتية لنشوء الإنسان. وحين نتمعن في الكثير من صفاته، مثل قيمة ثوابت الطبيعة أو كتل الأجسام الأوّلية فيه، نلاحظ أنّها خاصّة جدًا. لهذا نسأل ما الذي جعل كوننا يحمل هذه الصفات الخاصة التي تسمح بوجود الإنسان؟ أحد أجوبة هذا التساؤل يقول أنّها مجرد صدفة، وهو جواب لا يفضله العلماء، فمن غير المقنع أن تكون الصدفة اختارت من بين عدد لا نهائي من الإمكانيات تلك الصفات المعينة جدًا التي تسمح بوجودنا. إجابة أكثر منطقية هي أن يُعتبر كوننا أحد الأكوان، من بين عدد لا نهائي من الأكوان الأخرى، التي تتميّز بصفات فيزيائيّة تسمح بتطور حياة ذكيّة، مثل الإنسان، فيه.

هناك نقاش حاد بين علماء الكون حول نظريات كهذه، لأنّ ما نملكه الآن يُعتبر مجرد دلائل أوّليّة لا أدلة قاطعة. فحتّى إذا كانت نظرية الأكوان المتعدّدة صحيحة، فما هي عملية الرّصد التي نستطيع أن نقوم بها لنعرف ما إذا كان هناك عدد كبير جدًا من الأكوان؟ فهي في نهاية المطاف أكوان أخرى ليس لدينا وسائل للوصول إليها أو حتى معرفة وجودها، فهذا ينقض الشرط الأساسي من وراء تعريف النظريّة العلمية الذي ذكرناه سابقًا، أي أنّها تحوي إمكانيّة دحضها. إذاً، هل نضحّي بمفهومنا الأساسي لما هو علم لكي ننقذ قناعتنا بتجانس الزمن، الذي يقود إلى أنّ خلق الأكوان ابتدأ منذ الأزل. السجال مستمر!

إنه من المذهل حقاّ أننا نستطيع بصفتنا علماء العودة إلى الوراء، إلى المراحل الأولى جدًا من عمر الكون بما نرصده على الأرض. والأكثر إثارةً من ذلك هو أنّ باستطاعة العلم فهم الكون وتطوره بمثل هذه الدقة والتفصيل. للعلم في وقتنا قصة واضحة عن مجريات الأمور منذ بدء الكون وحتى وجودنا الآن. فنحن الجيل البشري الأول الذي يحظى بمثل هذه المعرفة والفهم عن كوننا وتاريخه ومكاننا فيه. هذا بالطبع لا يعني أننا نعرف كل شيء عن الطبيعة وقوانينها، ولكنّ العلم وأدواته يحفزنا بالاستمرار في سبر غور واقعنا وعالمنا، حتى نستمر على طريق الاكتشاف والمعرفة، فلربما يكون من حظنا حسم هذه العلاقة المذهلة والرقصة الكونيّة الرائعة ما بين اللانهائيّ والمحدود.


إعداد: البروفيسور سليم زاروبي
تدقيق: ملك عفونة