يُعَد تشكُّل المجرات ببناها المتنوعة المنبثقة من الفوضى العارمة التي عمًّت الكون بعد الانفجار العظيم، أحد أكبر ألغاز علم الفلك. تلك الرقصة المعقدة بين المادة والطاقة، الممتدة منذ بلايين السنين ومسرحها الكون بأسره.

مراكز العناقيد المجرية الضخمة فائقة السخونة (المناطق الحمراء)، وتُظهر المناطق اللامعة الغاز المنتشر، الناتج من موجات الحرارة في المناطق بين المجرية، على الحدود بين الفراغات الكونية والخيوط المجرية

مراكز العناقيد المجرية الضخمة فائقة السخونة (المناطق الحمراء)، وتُظهر المناطق اللامعة الغاز المنتشر، الناتج من موجات الحرارة في المناطق بين المجرية، على الحدود بين الفراغات الكونية والخيوط المجرية

في إطار السعي الحثيث نحو إجابات شافية، صمم فريق دولي من العلماء النموذج الأكثر تفصيلًا للكون حتى الآن، وأسموه TNG50. هذا الكون الافتراضي، الممتد 230 مليون سنة ضوئية ويحتوي على عشرات الآلاف من المجرات الناشئة، بمستويات من التفصيل لم تُرَ سابقًا إلا في نماذج المجرة الواحدة، تَتبَّع أكثر من 20 مليونًا من الجسيمات التي تمثل المادة المظلمة والغاز والنجوم والثقوب السوداء الهائلة، عبر 13.8 مليار سنة.

مكنت الدقة والمقياس غير المسبوقين الباحثين من جمع معلومات مهمة عن ماضي كوننا، ما كشف النقاب عن كيفية ظهور المجرات غريبة الشكل، وكيف قدحت الانفجارات النجمية والثقوب السوداء زناد التطور المجري. نُشرت نتائج الدراسة في عدد ديسمبر من مجلة Monthly Notices of the Royal Astronomical Society.

يُعَد هذا آخر نماذج مشروع IllustrisTNG Project، الذي يهدف إلى بناء صورة كاملة للكون منذ الانفجار العظيم، بتصميم كوني على مقياس كبير، دون التنازل عن التفاصيل الدقيقة للمجرات الفردية.

شاهد الفيديو

صرح بول توري Paul Torrey، أستاذ الفيزياء بجامعة فلوريدا، أحد أعضاء فريق الدراسة: «إن المحاكاة هي مجموعات ضخمة من البيانات التي يمكننا التعلم منها، من طريق فهم وتشريح آلية تشكل وتطور المجرات. الجديد بشأن TNG50 أنه يمكن الحصول على صورة أفضل وبدقة بالغة الوضوح للمجرات، ما يعطينا صورةً واضحة عن كيفية تشكل البنية الداخلية للكون في أثناء مراحل تطوره».

لم يأت هذا المستوى من التفاصيل الدقيقة بسهولة، فقد تطلب الأمر 16 ألف معالج من الكمبيوتر الفائق هازل هين Hazel Hen supercomputer في شتوتجارت- ألمانيا، في عمل متواصل لأكثر من عام، وهو عمل كان ليستغرق من حاسوب عادي نحو 15 ألف سنة، ومع ذلك يعتقد الباحثون أن عملهم آتى ثماره.

وصرح ديلان نيلسون Dylan Nelson، زميل معهد ماكس بلانك للفيزياء الفلكية في ميونيخ- ألمانيا، الباحث المشارك في الدراسة: «عندما تحصل على عدد مخرجات يفوق عدد المدخلات، يمكنك القول إن التجارب العددية من هذا النوع تُعَد ناجحةً. نرى في محاكاتنا ظواهر لم تُبرمَج مباشرةً، ومع ذلك ظهرت طبيعيًّا في النموذج الأساسي للمحاكاة».

محاكاة الولادة العنيفة لعنقود مجري، تتحد المادة المظلمة (بالأبيض) معًا، وتطرد الثقوب السوداء العملاقة والمستعرات الغاز بعيدًا (بالأحمر)

محاكاة الولادة العنيفة لعنقود مجري، تتحد المادة المظلمة (بالأبيض) معًا، وتطرد الثقوب السوداء العملاقة والمستعرات الغاز بعيدًا (بالأحمر)

تُعَد هذه الظاهرة الناشئة جوهريةً لفهم سبب ظهور كوننا كما نراه اليوم، بعد 13.8 مليار سنة من الانفجار العظيم. مكًّن TNG50 الباحثين من رؤية كيف نشأت المجرات من سحب الغاز العاتية بعد ولادة الكون بقليل.

اكتشف الباحثون أن المجرات قرصية الشكل الموجودة بكثرة في كوننا ظهرت طبيعيًّا في المحاكاة وأنتجت بُنَى داخلية بما فيها الأذرع الحلزونية والنتوءات والقضبان الممتدة من ثقوبها السوداء المركزية العملاقة، وعندما قارنوا كونهم المُولًّد حاسوبيًا بالكون الواقعي لاحظوا اتساق النتائج كيفيًّا.

بينما تسطحت المجرات في المحاكاة مشَكِّلةً أقراصًا منتظمة، لاحت ظاهرة أخرى. سَبَّبت انفجارت المستعرات والثقوب السوداء العملاقة في قلب المجرات تدفقات سريعة من الغاز، شكلت نوافير متصاعدةً لآلاف السنين الضوئية فوق المجرات.

أعادت الجاذبية الكثير من هذا الغاز إلى قرص المجرة، وأعادت توزيعه إلى حوافها الخارجية ، مكونةً دائرة تغذية عكسية من الغاز المتدفق خارجًا وإلى الداخل. شكلت هذه الدورة نجومًا جديدة، وغيَّر الغاز المتدفق خارجًا من بنية المجرات، وحول المجرات إلى أقراص دوارة رفيعة.

ما زال أمام الباحثين شوط كبير في تحليل النماذج، إضافةً إلى أنهم يخططون لنشر جميع البيانات وإتاحتها للفلكيين عبر العالم لدراستها، والاطلاع على كونهم الافتراضي.

اقرأ أيضًا:

الارتداد العظيم قادرة على شرح الإنسجام المبكر للكون بدون الحاجة للتضخم الكوني

هل نحن امام بوابة تربط النموذج القياسي بالفيزياء النظرية ؟

ترجمة: أحمد جمال

تدقيق: عون حداد

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر