حاسبات هارفرد: النساء اللواتي قسن النجوم!


قبل اختراع الأجهزة الحديثة مثل الحواسيب والهواتف المحمولة، كان مصطلح الحاسب يشير إلى الشخص الذي يعمل بالحسابات. بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كان هناك عشرات النساء اللواتي في مرصد كلية هارفارد، هنّ الحاسبات التي ساعدت على وضع بعض الافتراضات الأساسيَّة في علم الفلك.

تتلخص وظيفتهم بالنظر إلى الصور الفوتوغرافيَّة الملتقطة للسماء ليلًا والمقارنة بين مواقع النجوم فيها. إذ عيَّن إدوارد تشارلز بيكرينغ الذي كان مديرًا للمرصد بين عامي 1877 و1918 أولئك الحواسب. ووفقًا لمجلة «سميثسونيان-Smithsonian»، أدى ظهور تكنولوجيا جديدة للصور إلى التطور السريع للتصوير الفلكي آنذاك وبالنتيجة تجاوز عدد اللوحات المنتجة عدد من حواسب الذين وظفوا لتحليل الصور.

ولأن النظر إلى الصور لساعات طويلة وبشكل مستمر لا يعدو عن كونه عملًا مملًا وغير متخصصٍ، تحول بيكرينغ للمرأة لأداء تلك المهمة.

 

 

في وقتٍ ندر فيه عمل النساء خارج المنزل -نظرًا للمعتقدات السائدة بكون المنزل هو المكان الأنسب للمرأة- اعتُبِر العمل مع بيكرينغ قفزة كبيرة بالنسبة لتلك النساء لكن تلك الأعمال كانت مقتصرة على الأدوار المكتبيَّة بشكلٍ رئيسي، الأمر الذي يظهر لنا الطريق الطويل الذي توجب على المرأة قطعه في علم الفلك في أوائل القرن العشرين.

العمل الشاق:

بدأت أول أجهزة الكمبيوتر الأنثويَّة بالعمل في جامعة هارفارد حوالي عام 1875على الرغم من غياب تاريخ دقيق في الجدول زمني للصور الفوتوغرافيَّة على موقع جامعة هارفارد إذ ذكر: «وقبل ذلك حصلت العديد من النساء مثل إليزا كوينسي (Eliza Quincy) ابنة يوشيا كوينسي ( (Josiah Quincyعلى فرصة عمل كمتطوعات بصفة مراقب من بين العديد من النساء اللواتي تقدمن بطلبات للعمل كمدرسات مساعدات، أما أول حاسبات أناث فكُنّ آر تي روجرز (R.T. Rogers) وآر جي ساندريس (R.G. Saunders) وآنا وينلك( Anna Winlock)».

عملت النساء لأيام كاملة ولمدة ستة أيام في الأسبوع، ودُفِع لهنَّ ما بين 25 و50 سنتًا في الساعة. المبلغ الذي يعتبر أقل بكثير مما كان يدفع للرجال، وفي بعض الحالات لم تكن النساء مختصات في علم الفلك.

بحسب ما ذكر فقد وظِّفت بضع عشرات من النساء (بين 40 و80) على مدى عقود، وعرفن بشكلٍ غير رسمي باسم «حريم بيكرينغ-Pickering’s Harem» المصطلح الذي يعتبر اليوم تحقيرًا لهنَّ.

وساعد بيكرينغ بذلك في ريادة علم الفلك الحديث. في الوقت الذي جمعت فيه معظم الملاحظات من قبل البشر بشكلٍ رئيسي ومن خلال النظر باستعمال التلسكوبات، إلا أنَّ بيكرينغ اعتقد أن العين البشريَّة تتعب مع مرور الوقت، وقد تفشل في تحقيق قياسات دقيقة. أما الصور فهي توفر الفرصة للنظر إلى أجزاء السماء مرارًا وتكرارًا، وبالتالي تساعد على وضع الأساسيات كتحديد أيِّ النجوم أكثر إشراقًا من بعضها الآخر.

 

 

واحدة من أولى أجهزة الكومبيوتر كانت خادمة بيكرينغ والمدرسة السابقة ويليامينا فلامينغ (Williamina Fleming) وفقًا للمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي. ويعزى لفلامينغ اكتشاف سديم رأس الحصان وتصنف النجوم اعتمادًا على درجة حرارتها، وساهمت بوضع أول فهرس هنري درابر للأطياف النجميَّة في عام 1890 حيث صنفت درجة إضاءة ونوع وموقع أكثر من 10,000 نجم، وفقًا لجامعة هارفارد.

وكانت هناك بعض النساء المتخصصات، مثل: آني جامب كانون ( Annie Jump Cannon) والتي حصلت على خلفيَّة علمية جيدة في الفيزياء وعلم الفلك في الجامعة. ومن بين إسهاماتها إنشاء نظام تصنيف نجمي لا يزال مستخدمًا حتى اليوم. لتصنيف حرارة النجوم، إذ اعتمد النظام سبع حروف لتنظيم النجوم إلى مجموعات: O, B, A, F, G, K, M.

تعتبر الشمس نجمًا من النوع G، في حين تعتبر نجوم الأقزام الحمراء (reddwarfs) النوع M والنجوم العملاقة الزرقاء(blue giants) تمثل النوع O. وسهلت كانون النظام سهل التذكر باختصاره بعبارة: «Oh! Be a Fine Girl-Kiss Me!».

درست هنريتا سوان ليفيت (Henrietta Swan Leavit) أيضًا علم الفلك في جامعة هارفارد، ووظفت في عام 1907 للنظر في النجوم المتغيرة. وفقًا لجامعة هارفارد، فقد كان عملها في مجال كشف تغيرات سطوع النجوم عند وضع اللوحات الفوتوغرافيَّة واحدة فوق الأخرى. ووجدت ما يقرب من 2,400 نجمًا من النجوم السيفيديَّة المتغيرة وهي نجوم نابضة يكون لها معدل ثابت في تغير الإضاءة، مما يجعلها في مفيدة كعصي القياس لمعرفة اتساع الكون.

الإرث الذي تركته لنا حواسيب جامعة هارفارد:

استخدام ليفيت للمتغيرات السيفيديَّة كان مفيدًا للغاية لإدوين هابل، الذي استخدمه في عام 1924 لإثبات أن مجرة أندروميدا (Andromeda) والمعروفة رسميًا باسم «M31» تبعد 2.5 مليون سنة ضوئيَّة خارج مجرة درب التبانة. وبعد خمس سنواتٍ، نشر عملًا يبين أن الكون يتمدد، يعتمد في جزء منه على الملاحظات المقدمة بأن ضوء بعض النجوم منزاح نحو الأحمر مما يشير إلى تحركها بعيدًا عنا الأمر الذي يسبب تمدد ضوء الطيف بشكلٍ أقرب إلى اللون الأحمر.

 

 

وإن لم تكن من الحواسيب فلا بُد من ذكر إنجازات سيسيليا باين غابوشكين( Cecilia Payne-Gaposchkin) في عام 1925 التي كانت أول من يحصل على شهادة الدكتوراه في علم الفلك من جامعة هارفارد، على الرغم من أن درجتها صدرت رسميًا من فرع معهد هارفارد للإناث، كلية رادكليف، (فقد قبلت المرأة في جامعة هارفارد فقط في عام 1977).

اكتشفت باين أن الغلاف الجوي للشمس يتكون بشكل أساسي من الهِدروجين، وبذلك عارضت الأفكار المعمول بها في ذلك الوقت الذي يعتبر أن للشمس والأرض تركيبة مشتركة متشابهة. وأصبحت باين أول أنثى بروفيسورة في كلية هارفارد للفنون والعلوم، ثم عينت رئيسًا لقسم الفلك لتصبح بذلك أول امرأة تترأس قسمًا في جامعة هارفارد.

وبالنسبة لكانون فقد عينها بيكرينغ أمينًا للصور الفلكية في عام 1911، على الرغم من أن رئيس جامعة هارفارد في ذلك الوقت لم يكن يسمح له بوضعها في أرشيف الموظفين. فقد عينت رسميًا أخيرًا في عام 1938. وفازت بالعديد من الجوائز لعملها قبل تقاعدها في عام 1940، ووفاتها في عام 1941.

استمر برنامج جمع الصور الفوتوغرافية في جامعة هارفارد حتى عام 1992، باستثناء الإغلاق الذي استمر لبضع سنوات في الخمسينيات، تلك الفترة المعروفة باسم فجوة مينزل (Menzel Gap) نسبة لمديرها في ذلك الوقت الذي أوقفها بسبب المخاوف من الميزانية. وبحلول التسعينيات سرعان ما استبدلت اللوحات الفوتوغرافية بتقنيات متقدمة أكثر، مثل أجهزة اقتران الشحنات (CCD) التي تستخدم في الكاميرات الرقمية اليوم. أما أرشيف اللوحات فلا يزال متاحًا للبحوث الفلكية وتجري أيضًا عمليات تحويله للشكل الرقمي.


ترجمة: دعاء عساف
تدقيق: عبدالسلام محمد

المصدر