ساعدت العوامل البيئية على ظهور الزراعة والعمارة، وظهور النظام الاجتماعي للمرة الأولى في بلاد ما بين النهرين القديمة.

مع أن الحضارة الإنسانية تطورت في أماكن عديدة حول العالم، لكنها ظهرت في البداية منذ آلاف السنين في الشرق الأوسط.

تقول كيلي-آن دايموند، أستاذة التاريخ المساعدة في جامعة فيلانوفا، والخبيرة في تاريخ الشرق الأدنى القديم وعلم الآثار: «نرى أن المدن الأولى والكتابة الأولى والتكنولوجيات الأولى نشأت في بلاد ما بين النهرين».

يأتي اسم بلاد ما بين النهرين من الكلمة الإغريقية التي تعني بلد النهرين، وهي كناية عن نهري دجلة والفرات مصدري الماء لمنطقة تقع أكثرها ضمن حدود العراق الحالية، وتتضمّن أيضًا أجزاء من سوريا وتركيا وإيران.

يُعد وجود هذين النهرين سببًا مهمًا في تطوير بلاد ما بين النهرين لمجتمعات واختراعات عدّة، مثل: الكتابة والعمارة المتقنة والبيروقراطيّة الحكومية.

جعلت الفيضانات الدورية على ضفاف نهري دجلة والفرات الأرضَ حولهما خصبة، ومثالية لنمو المحاصيل للغذاء؛ ما جعلها منطقة ممتازة لبداية ثورة العصر الحجري الحديث، التي تُسمّى أيضًا الثورة الزراعية، وقد بدأت قبل نحو 12000 سنة.

تقول دايموند: «غيّرت تلك الثورة الحياة حول أنحاء الكوكب ، وكانت البداية في بلاد ما بين النهرين».

مع زراعة الناس للنبات وتدجين الحيوانات تمكنوا من البقاء في مكان واحد وتكوين قرى دائمة، لذلك تحولت هذه المستوطنات الصغيرة إلى مدن ناشئة، إذ تطوّرت كثير من مميزات الحضارة، مثل: تركُّز السكان والعمارة الأثرية والتواصل وتقسيم العمل، والطبقات الاجتماعية والاقتصادية المُختلفة.

تأثر ظهور الحضارة وتطورها في بلاد ما بين النهرين بعوامل أخرى، خاصة التغير في المناخ والبيئة الطبيعية؛ ما أجبر سكان المنطقة على تنظيم أنفسهم أكثر.

كيف غذّت الطبيعة الحضارة

يرى هيرفي ريكولو -الأستاذ المساعد المتخصص في علم الآشوريات في جامعة شيكاغو والخبير في تاريخ بلاد ما بين النهرين القديمة- أن الحضارة لم تتطور بالطريقة نفسها في كافة أنحاء المنطقة، والمجتمعات الحضرية تطورت على نحو مستقل في بلاد ما بين النهرين السفلى؛ منطقة تقع في ما يسمّى الآن بجنوب العراق حيث وُجدت حضارة سومر المبكرة، وبلاد ما بين النهرين العليا؛ التي تتضمن شمال العراق وجزءًا من سوريا الغربية الحالية.

كان المناخ في بلاد ما بين النهرين من العوامل المساهمة في تطور الحضارة في كلا المكانين، والذي كان قبل نحو 6000 إلى 7000 سنة أكثر رطوبة من ذلك الجزء من الشرق الأوسط اليوم.

يقول ريكولو: «تطورت مدن بلاد ما بين النهرين الأولى على أطراف سبخة تُقدم وفرةً من الموارد الطبيعية للبناء (القصب) والغذاء (الحيوانات البرية والأسماك)، مع توفر الماء للري في نطاق صغير، والذي يمكن تنظيمه على مستوى محلي ولا يتطلب مراقبة بُنى الدولة على نطاق واسع».

يضيف ريكولو: «لقد سمحت السبخة بالوصول إلى الطرق البحرية في الخليج الفارسي؛ ما مكّن الناس الذين عاشوا في الجنوب من تطوير تجارة مع أماكن أخرى بعيدة المسافة».

في بلاد ما بين النهرين العليا، كانت الأمطار تتساقط بغزارة؛ ما خفّف كثيرًا اعتماد المزارعين على الري، واستطاع الباحثون أيضًا النفاذ إلى الجبال والغابات، ما مكّنهم من التمتع بالصيد وقطع الأشجار للحصول على الخشب.

احتوت مناطقهم أيضًا على طرق برية إلى الأماكن الشمالية وراء الجبال، يستطيعون الحصول عبرها على موادّ مثل حجر السبج؛ هو نوع من الصخور يمكن استعماله في الحلي أو صناعة أدوات للقطع.

وفقًا للمتحف البريطاني، كانت المحاصيل الأساسية للمزارعين الأوائل في بلاد ما بين النهرين القمح والشعير، لكنهم بنوا أيضًا حدائق مضللة بنخيل التمر، وزرعوا مختلف المحاصيل بما فيها الفول والبازلاء والعدس والخيار والكراث والخس والثوم، وكذلك الفاكهة مثل العنب والتفاح والبطيخ والتين، وحلبوا الأغنام والماعز والأبقار لإنتاج الزبدة وذبحوها للحصول على اللحم.

نتيجة لذلك، قادت الثورة الزراعية في بلاد ما بين النهرين إلى ما سمّاه دايموند الخطوة الكبرى القادمة؛ أي الثورة الحضرية.

قبل ما يقدر بين 5000 و6000 سنة في سومر، تطوّرت القرى إلى مدن.

كانت أقدمها وأبرزها مدينة أوروك، وهي تجمّع مغلق يبلغ عدد سكانه نحو 40000 إلى 50000 نسمة.

من بين المدن الأخرى إريدو وباد تيبيرا وسيبار وشوروباك، وفقًا لموسوعة التاريخ القديم.

ربما طوّر السومريون أقدم نظام للكتابة والفنّ الراقي والعمارة، وأنظمة بيروقراطية حكوميّة معقدة للإشراف على الزراعة والتجارة والممارسات الدينية.

أصبحت سومر أيضًا مركزًا للإبداع، فقد أخذ السومريون اختراعات طوّرتها شعوب قديمة أخرى، من صناعة الخزف إلى حياكة النسيج، واستطاعوا فعل ذلك على نطاق صناعي.

طورت بلاد ما بين النهرين العليا مناطقها الحضريّة الخاصة مثل تيبي غاورا، واكتشف الباحثون معابد مجوّفة وأعمدة معقدة، ووجدوا أدلة أخرى على وجود ثقافة متقدمة.

كيف طوّر التغير البيئي حضارة بلاد ما بين النهرين

وفقًا لريكولو، قد تكون التغيرات المناخية أدت دورًا في تطور حضارة ما بين النهرين منذ نحو 4000 قبل الميلاد.

يقول ريكولو: «أصبح المناخ تدريجيّا أكثر جفافًا وصعُب التنبؤ بمجرى الأنهار، وقد تراجعت السبخة من بلاد ما بين النهرين السفلى تاركةً وراءها مستوطنات وأراض بحاجة إلى السقاية، ما تطلّب عملًا إضافيًا وتنسيقًا أكبر».

طوّر سكان بلاد ما بين النهرين تدريجيًا نظامًا حكوميًّا أكثر إتقانًا؛ لأنهم اضطروا إلى العمل بجد أكبر وتنظيم أكثر للبقاء.

يقول ريكولو: «إن النظام البيروقراطي -الذي ظهر في البداية لإدارة البضائع وأهل المعابد في المدن الواقعة على أراضي السبخة- أصبح شيئًا فشيئًا أداة القوة الملكية التي وجدت مبرراتها في دعم الآلهة، وفي قدرتها على الإنجاز».

كل ما سبق، أدى إلى تطوير بنية اجتماعية أجبرت فيها النخب العمال أو حصلت بالقوة على عملهم بتوفير الوجبات والرواتب.

يقول ريكولو: «كان نظام الزراعة السومري ومدنه وطريقة تحكمه في الأرض والموارد والبشر نتاجًا لتأقلم الناس مع ظروف عيش قاس، إذ بدأت ثروات السباخ تصبح أكثر ندرة».

في المقابل، في بلاد ما بين النهرين العليا تأقلم الناس مع مناخ أكثر جفافًا بالذهاب في الاتجاه المعاكس اجتماعيًّا.
شهدت تلك المنطقة انتقالًا نحو تنظيم اجتماعي أقل تعقيدًا، يعتمد على القرى وتضامنها على نطاق ضيق.

شهدت بلاد ما بين النهرين في النهاية صعود إمبراطوريات مثل أكاد وبابل، التي صارت عاصمتها مدينة بابل إحدى أكبر مدن العالم القديم وأكثرها تقدّمًا.

اقرأ أيضًا:

كيف كانت الحياة في بابل القديمة؟

هل تعرف حضارة بابل القديمة؟ مركز حضارة ما بين النهرين

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: آلاء رضا

مراجعة: عبد المنعم الحسين

المصدر