يرجع كل شيء في الطبيعة إلى حفنة من المكونات تُسمى الجسيمات الأساسية، تتفاعل هذه الجسيمات مع بعضها بطرق مختلفة ومحددة. طور الفيزيائيون في سبعينيات القرن الماضي مجموعةً من المعادلات لوصف تلك الجسيمات وتفاعلاتها، وشكلت المعادلات معًا نظريةً موجزةً تُعرف بالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات. يفتقر النموذج القياسي إلى بعض القطع المفقودة، مثل غياب الجسيمات المفترضة التي تشكل المادة المظلمة، والجسيمات التي تنقل قوة الجاذبية، وتفسير كتلة النيوترينوات، لكنه يقدم صورةً دقيقةً جدًّا لجميع المواد تقريبًا، إلى جانب ظواهر أخرى ملحوظة.

بالنظر إلى النموذج القياسي بوصفه إطار عمل، نجده يجسد أفضل فهم توصلنا إليه لنظام الطبيعة الأساسي، لكن ما زال هذا النموذج القياسي يفتقر إلى تصور كامل، إذ تُعد معظم محاولات تمثيله بسيطةً للغاية، أو متجاهلةً للترابطات المهمة بين الجسيمات، أو مختلطةً ومربكة.

يمثل الشكل الآتي التصور الشائع لجدول الجسيمات الدوري:

النموذج القياسي للجسيمات

النموذج القياسي للجسيمات

لا يقدم هذا النموذج نظرةً دقيقةً عن العلاقات بين الجسيمات، فهو يضم الجسيمات الحاملة للقوى، التي تتمثل بالفوتون الذي ينقل القوة الكهرومغناطيسية، والبوزونات W وZ التي تنقل القوة النووية الضعيفة، والغلونات التي تنقل القوة النووية القوية، ويضع الجسيمات الحاملة للقوى التي تربط بين الكواركات والإلكترونات وجيرانهم في كفة واحدة مع جسيمات المادة، إضافةً إلى ذلك لا يحتوي هذا النموذج على خواص أساسية مثل الألوان.

يوضح الشكل الآتي تمثيلًا آخر للنموذج القياسي للجسيمات:

النموذج القياسي

النموذج القياسي

يؤكد هذا التصور مركزية بوزون هيغز (المحور الأساسي للنموذج القياسي)، لكنه يضعه بجوار الفوتون والغلون مع أن هيغز لا يؤثر في هذه الجسيمات، وعلى هذا فإن أرباع الدائرة المحيطة ببوزون هيغز تعد مضللة، فالفوتون لا يتزاوج إلا مع الجسيمات التي يمسها.

مقاربة جديدة

فكّر كريس كيج، عالم فيزياء الجسيمات في مختبر فيرمي الوطني للمسرعات في إلينوي، في كيفية تصور النموذج القياسي منذ عقود، آملًا أن يساعد التمثيل الأدق والأقوى على التعريف بجزيئات الطبيعة المعروفة، ويدفعهم إلى التفكير في إطار نظري أكبر وأكثر ملائمةً وتكاملًا لهذه الجسيمات.

يُعد تمثيل كيج أكثر ترتيبًا وهيكلةً، ويسمى التمثيل البسيط المزدوج، إذ تشكل الجسيمات الطبيعية اليسرى واليمنى تمثيلًا بسيطًا (محاكاة للمثلث).

ولتوضيح هذا سنبني التمثيل البسيط المزدوج من الصفر.

الكواركات في القاع

تنقسم جسيمات المادة إلى نوعين رئيسين: اللبتونات والكواركات، يمتلك كل نوع من جسيمات المادة الطبيعية جسيمًا مضادًا يحمل الكتلة نفسها، لكنه يعاكسه في كل شيء آخر. سنتجاهل المادة المضادة كما فعلت النماذج القياسية الأخرى، فهي ستشكل مادة منفصلة، أو ما يسمى التمثيل البسيط المزدوج المقلوب.

لنبدأ بالكواركات، تشكل الكواركات البروتونات والنيوترونات الموجودة داخل النواة الذرية، وتنقسم هذه الكواركات إلى نوعين: كوارك علوي يمتلك ثلثي الشحنة الكهربائية، وكوارك سفلي يمتلك شحنةً كهربائيةً تساوي 1/3-.

قد يكون الكوارك العلوي والسفلي إما «أيسر» أو «أيمن» وفقًا لاتجاه دورانه مع عقارب الساعة أو عكسها.

تغير ضئيل

قد يتحول الكوارك العلوي الأيسر إلى كوارك سفلي أيسر والعكس بالعكس، عبر تفاعل يُسمى القوة النووية الضعيفة، يحدث هذا التفاعل عندما تتبادل الكواركات جسيمًا يسمى بوزون W (يعد البوزون ناقلًا للقوة النووية الضعيفة، ويمتلك إحدى الشحنتين +1 أو -1) وتُمثَل هذه التفاعلات الضعيفة بالخط البرتقالي كالآتي:

من الغريب عدم وجود بوزون W أيمن في الطبيعة، ما يعني أن الكوارك الأيمن العلوي والسفلي لا يمكنهما إصدار بوزون W أو امتصاصه، لذلك لا تستطيع الكواركات اليمنى أن يتحول أحدها إلى الآخر.

ألوان قوية

تمتلك الكواركات أيضًا نوعًا من الشحنة يسمى اللون، فقد يمتلك الكوارك شحنةً باللون الأحمر أو الأخضر أو الأزرق، ما يجعله حساسًا للقوة النووية القوية.

تربط القوة النووية القوية الكواركات ذات الألوان المختلفة معًا لتشكيل جسيمات مركبة مثل البروتونات والنيوترونات، تعد تلك الجسيمات عديمة اللون فلا تمتلك شحنةً لونيةً طبيعية.

تتحول الكواركات من لون إلى آخر بواسطة امتصاص جسيمات تُسمى الغلونات أو إصدارها، تعد الغلونات ناقلات للقوة النووية القوية، وتشكل هذه التفاعلات جوانب المثلث، ولما كانت الغلونات تمتلك شحنةً لونيةً فهي تتفاعل مع بضعها باستمرار ومع الكواركات أيضًا، ويمتلئ المثلث بهذه التفاعلات بين الغلونات.

الأكثر أهمية

بعد أن انتهينا من الكواركات، دعونا ننتقل الآن إلى اللبتونات، التي تنقسم إلى نوعين أيضًا: الإلكترونات ذات الشحنة الكهربائية -1، والنيوترينوات المحايدة كهربيًا.

مثل الكوارك الأيسر السفلي والعلوي، يستطيع الإلكترون والنيوترينو الأيسر أن يتحول كل منهما إلى الآخر بواسطة تفاعل نووي ضعيف، في حين أننا لم نرصد نيوترينو أيمن في الطبيعة حتى الآن.

لاحظ أن اللبتونات تتميز عن الكواركات بأنها لا تمتلك شحنة لونية ولا تتفاعل عبر القوة النووية القوية.

الهيكل البسيط المزدوج

حتى الآن لدينا جسيمات يسارية تظهر على اليسار وجسيمات يمينية تظهر على اليمين، ويشكلون معًا الهيكل الرئيسي للتمثيل البسيط المزدوج الخاص بكيج.

ثلاثة أجيال

لنعقد الأمر قليلًا، لأسباب مجهولة توجد ثلاث نسخ متطابقة لكل نوع من جسيمات المادة لكنها أثقل منها! فإضافةً إلى الكوارك العلوي والسفلي، يوجد كوارك ساحر وكوارك غريب، وكواركان أثقل هما كوارك قاعي وكوارك قمي. ينطبق الشيء ذاته على اللبتونات: فإضافةً إلى الإلكترون وإلكترون نيوترينو، يوجد ميون وميون نيوترينو، وتاو وتاو نيوترينو (تمتلك النيوترينوات كتلًا صغيرة لكنها غير محددة بعد).

الإعلان عن الدليل الأول على وجود الأكسيونات - الجسيمات الأساسية - النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات - النموذج القياسي - القوى الأساسية - القوة النووية

تقع كل هذه الجسيمات في زوايا التمثيل البسيط المزدوج. لاحظ وجود تفاعل نووي ضعيف وضئيل بين الكواركات اليسرى بأجيال مختلفة، إذ يستطيع كوارك علوي أن يصدر بوزون W+ ويتحول إلى كوارك غريب، في حين أننا لم نرصد تفاعلًا مشابهًا مع اللبتونات.

الإعلان عن الدليل الأول على وجود الأكسيونات - الجسيمات الأساسية - النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات - النموذج القياسي - القوى الأساسية - القوة النووية

القوى والشحنة

لنطرح سؤالًا، ما الطرق الأخرى التي تتفاعل بها الجسيمات مع بعضها؟ ذكرنا سابقًا أن جميع الجسيمات تمتلك شحنةً كهربية باستثناء النيوترينوات، فوجود شحنة كهربية يعني أن الجسيمات حساسة للقوة الكهرومغناطيسية، فتتفاعل معًا بتبادل الفوتونات الناقلة للقوة الكهرومغناطيسية، لذلك نمثل التفاعلات الكهرومغناطيسية بخطوط متموجة تربط الجسيمات المشحونة ببعضها. لا تحول هذه التفاعلات الجسيمات إلى جسيمات أخرى، بل تدفعها أو تشدها فقط.

تُعد القوة النووية الضعيفة معقدةً قليلًا، فإضافةً إلى البوزونات ناقلات القوة النووية الضعيفة W+ وW-، يوجد حامل محايد للقوة النووية الضعيفة يسمى بوزونZ^0، قد تمتص الجسيمات بوزونZ^0 أو تصدره من دون أن تتحول أو تغير نفسها. تسبب هذه التفاعلات النووية المحايدة الضعيفة فقدان الطاقة والزخم أو اكتسابها، تمامًا مثل التفاعلات الكهرومغناطيسية، وتُمثَل التفاعلات النووية المحايدة الضعيفة بخطوط برتقالية متموجة.

تحدث التفاعلات الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة المحايدة بين الجسيمات المتعاكسة أيضًا، لكننا حذفنا الخطوط التي تربط التمثيل البسيط الأحادي بغيره لإيضاح الصورة

تحدث التفاعلات الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة المحايدة بين الجسيمات المتعاكسة أيضًا، لكننا حذفنا الخطوط التي تربط التمثيل البسيط الأحادي بغيره لإيضاح الصورة

تشبه التفاعلات النووية المحايدة الضعيفة التفاعلات الكهرومغناطيسية كثيرًا، ولا يُعد ذلك مصادفة، فقد نشأت القوة النووية الضعيفة والكهرومغناطيسية من قوة واحدة كانت موجودة في اللحظات الأولى من نشأة الكون، تُسمى القوة الكهرو-ضعيفة.

عندما برد الكون، أدى حدث يُعرف بالتناظر الكهرو-ضعيف إلى تقسيم القوى إلى قسمين، إلى جانب ظهور مفاجئ لحقل يمتد عبر الفضاء يعرف بحقل هيغز الذي يرتبط بجسيم بوزون هيغز، الذي يعد الجزء الأخير من الأحجية.

هيغز

يُعد بوزون هيغز المحور الرئيسي للنموذج القياسي، والمفتاح الذي يجعل ترتيب التمثيل البسيط المزدوج منطقيًا. فعندما نشأ حقل هيغز في بدايات الكون انضمت الجسيمات اليمنى واليسرى إلى بعضها، ما أدى إلى تشبع الجسيمات في الوقت نفسه بالخاصية التي نسميها الكتلة. يمتلك النيوترينو كتلة، لكن أصله يظل غامضًا لأنه مشتق من آلية أخرى سوى هيغز.

عندما يتحرك جسيم مثل الإلكترون عبر الفضاء فإنه يتفاعل باستمرار مع بوزونات هيغز (إثارة مجال هيغز)، وعندما يصطدم إلكترون أيسر ببوزون هيغز، فقد يرتد عنه الإلكترون في اتجاه جديد ويصبح أيمن، ثم يصطدم ببوزون هيغز آخر ويصبح أيسر مرةً أخرى وهكذا، تبطئ هذه التفاعلات الإلكترون وهذا ما نسميه «الكتلة».

عمومًا، كلما زاد تفاعل الجسيم مع بوزون هيغز زادت كتلته، إضافةً إلى ذلك فإن التفاعلات المتكررة مع بوزونات هيغز تجعل تلك الجسيمات الضخمة خليطًا كميًا من جسيمات يسرى ويمنى.

وبهذا يصبح لدينا النموذج القياسي الآتي لفيزياء الجسيمات:

اقرأ أيضًا:

الخط الزمني لنشوء الكون: فترة الكواركات

الإعلان عن الدليل الأول على وجود الأكسيونات

ترجمة: صابر مخلوف

تدقيق: راما الهريسي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر