سليم زاروبي

“ما الزمان إذن؟ عندما لا أُسأل عنه، فأنا أعرفه؛ لكن إذا سُئلتُ عنه، فأنا لا أعرفه أبداً” هذا ما خَلَص إليه فيلسوف العصور المظلمة (الأمازيغي الأصل)، القديس أغسطينوس، في وصفه للزمن.

وهو تلخيص يعبر عن شعور معظمنا عندما نفكر في هذا المفهوم. فالزمن هو ذلك النهر الجارف الجبار الذي لا يستثني شيئا ولا ينتظر أحدا، وهو الذي يمضي قدما حاملا معه الكون وكل ما فيه على عُباب تياره الجاري أبدا في اتجاه واحد.

وهو ذلك الامتداد الذي نخطُّ على صفحاته أحداث حياتنا لحظة بعد لحظة، فهو محور وجودنا الذي نعيشه؛ نتفكّر الماضي ونحيا الحاضر ونترقب المستقبل.

لكن هل هو موجود بالفعل؟ كيف يكون موجودا والماضي قد تولى والمستقبل لم يأت بعد والحاضر وميض لحظة تمر بلمح البصر؟ وإذا كان موجودا فما هو؟ وكيف علينا أن نفكر به؟

أسئلة مشابهة تواجهنا أيضا عندما نفكر في الفراغ؛ ذلك الحيز الهندسي الذي يحوينا، ويحوي معنا كل شيء في الكون. إنّه المسرح الذي تدور على خشبته أحداث الحياة، فنحن أبناء وبنات مكاننا وزماننا.

ولكن هل الفراغ شيء حقيقي؟ أم قد ابتكرناهُ كأداة تسهل علينا فهم العالم حولنا؟ لنتخيل كونا فارغا إلا من جسم واحد، ماذا يعني عندها مكان الجسم؟ واضح أنه من الصعب أن نتحدث عن مكان مثل هذا الجسم الوحيد، فعادة، نحن نحدد موقع أي جسم نسبة للأجسام الأخرى التي حوله.

لا نستطيع أن نعرف أيضا، ما إذا كان ساكنا أو متحركا بسرعة ثابتة. وماذا يحدث إذا كان الكون خاويا تماما، ماذا نعني عندها بالفراغ؟

شغلت هذه الأسئلة عن الزمان والمكان وجوانبها الفلسفية والفيزيائية والسيكولوجية العديدة، أعظم العقول على مرّ التاريخ. هناك إجماع بين الفيزيائيين والفلاسفة بأن الزمن والفراغ موجودان موضوعيا.

فالزمن بحسب تجربتنا يسير برتيبة منتظمة وثابتة في اتجاه واحد؛ كذلك الفراغ، فهو مرتب بشكل منتظم وله ثلاثة أبعاد. والاثنان، الزمان والمكان، ينتجان بشكل طبيعي عن قوانين الفيزياء. ابتدأت دراسة الزمن والفراغ فيزيائيا بشكل عملي مع جاليليو الذي افترض أن وتيرة الزمن، مثلها مثل الأبعاد (في الفراغ) والكتل، هي شيء مطلق لا يتغير بتغيير المراقب وسرعته.

فالزمن يمر بنفس الوتيرة بالنسبة لنا إذا كنا جالسين على كرسي في منزلنا، أم مسافرين على متن طائرة أو نعيش على كوكب آخر يقع على بعد ملايين السنين الضوئية في هذا الكون الشاسع كذلك الأمر بالنسبة للأطوال (البعد بين نقطتين) التي تبقى نفسها بغض النظر عن موقعها وبأي سرعة تسير، إضافة إلى ذلك، الزمن والفراغ بحسب جاليليو يمتدان من مالانهاية إلى ما لانهاية، فهما حقيقيان ومنفصلان عن بعضهما بشكل لا يقبل الشك.

وعليه، ففي ميكانيكا نيوتن ،حيث الزمان والمكان هما حجران أساسيان، يفترض أنهما مُطْلقان و مستقلان عن بعضهما وعن وجود أي مراقب يرصدهما.

واجهت افتراضات نيوتن وجاليليو اعتراضات من بعض المفكرين وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz)، الذي جزم بأن الزمن والفراغ لا يحملان معنىً من غير الأحداث والأجسام التي تشغلهما.

من جهته، اعتقد إرنست ماخ (Ernst Mach) بأن مفهوم الزمن والفراغ المطلقين هما مفهومان ميتافيزيائيان ليس لهما مكان في الواقع لأنهما يقاسان دائما بشكل نسبي، أي نسبة لحدث وموقع معينين.

على الرغم من هذه الاعتراضات بقي التوجه النيوتوني هو السائد بلا منازع في عالم الفيزياء والفلسفة، حتى أتى شاب يعمل خارج المعاهد الأكاديمية، في مكتب تسجيل براءات الاختراع في مدينة برن السويسرية، اسمه ألبرت أينشتاين، ليُطيح بمفاهيم جاليليو ونيوتن بعرض الحائط.

كتب أينشتاين سنة 1905، وهي سنة تعرف بالسنة الأعجوبة (Annus Mirabilis)، أربعة مقالات أحدَثَ كلّ منها انقلابا هائلا في المجال الذي يبحثه. المقال الأول بحث في التأثير الكهروضوئي (photoelectric effect) وفسر فيه ظاهرة انطلاق تيار كهربائي من مواد معينة حين تقع عليها أشعة الضوء، من ضمنها ما نسميه اليوم بالخلايا الشمسية.

كان هذا المقال أحد أهم الأعمال التي مهدت الطريق لميكانيكا الكم (انظر مقالي حول هذا الموضوع بعنوان: “شيء من عدم“. المقال الثاني الذي نشره أينشتاين في هذا العام كان حول الحركة البراونية (Brownian motion) التي تصف الحركة العشوائية التي يشهدها جسم صغير يعوم في وسَطٍ سائلٍ أو غازيٍ.

وقد بيّن أينشتاين أن مصدر هذه الحركة هو اصطدام هذا الجسم بجزيئات أو ذرات السائل، حاسما بهذا بشكل نهائي إشكالية وجود الجزيئات والذرات التي كانت محط شك لدى العديد من العلماء.

أما المقالان الثالث والرابع فقد طور بهما نظرية النسبية الخاصة، التي قلبت مفاهيمنا حول الزمن والفراغ والمادة والطاقة وغيرها من الفرضيات المسلّم بها في الفيزياء الكلاسيكية.

من الطريف في الموضوع أن أينشتاين مُنح جائزة نوبل عن المقال الأول (الذي يتعامل مع التأثير الكهروضوئي) وليس عن النظرية النسبية الخاصة بسبب الصعوبة في رصد عواقبها مخبريا. هذا مع العلم أن كل مقال من المقالات الأربعة لوحده كان يستحق مثل هذه الجائزة.

في هذا المقال سوف اتطرق باقتضاب إلى تاريخ النظرية النسبية الخاصة وأشرح فرضياتها الأساسية، كما وسأعرض أهم نتائجها وإسقاطاتها على فهمنا للطبيعة وأصف العلاقة الحميمة بين الزمن والفراغ (ما نعرفه بالزمكان) وخصائصهما. وأنهي بتساؤلات عن جوهر الزمن وعلاقته بالجاذبية التي دفعت بأينشتاين إلى اكتشاف النظرية النسبية العامة بعد عقد من الزمن.

تحويل جاليليو وسرعة الضوء

وضعت نظرية بطليموس الكرة الأرضية، ومعها الإنسان، في مركز الكون. وافترضت بأن مركز الأرض ساكنا بحيث يتحرك كل شيء نسبة لها وتدور أفلاك السماء حولها. فهي تزودنا بفراغ مطلق، مِحْوره مركز الأرض (الثابت) ونهايته فلك مدار النجوم الذي يخطّ حدود الكون.

لكن مع صعود نظرية كوبرنيكوس، خُلِعت الأرض عن عرش مركزيتها وتحولت إلى مجرد كوكب من بين الكواكب التي تدور حول الشمس.

أدرك العلماء وعلى رأسهم جاليليو أن هذا التغيير الثوري يعني أن موقع المراقب للطبيعة وحركتها قد يغير رؤيته للكون ويعطيه انطباعا مختلفا لما هي عليه، وإلّا كيف نفسر شعورنا بأن الأرض ساكنة وهي في الحقيقة تدور حول الشمس بسرعة 30 كيلومتر في الثانية (حوالي 110000 كيلومتر في الساعة).

لهذا ابتدأ الفيزيائيون الأخذ بعين الاعتبار موقع وسرعة وتَسارُع المراقب الذي يرصد تصرفات المجموعات الفيزيائية، وبشكل خاص، مراقب يسير بسرعة واتجاه ثابتين، وهو ما يسميه الفيزيائيون بِـ “الإطار المرجعي القصوري” (انظر الملحق1 لبعض الإسهاب في هذا الموضوع).

هذا وقام جاليليو بعدة تجارب نتج عنها المبدأ التالي: تظهر قوانين الفيزياء مماثلة تماما بالنسبة لمراقبين يسيرون بسرعٍ ثابتة نسبة لبعضهم البعض. هذا هو قانون النسبية الذي استعمله أينشتاين ومنه أخذت نظريته واسمها ولكن جذوره في الحقيقة تعود لجاليليو.

يجدر التنوية بأن هذا المبدأ غير صحيح بالنسبة لشخص يتسارع لأنه يشعر بقوى مجهولة المصدر مثل زيادة ونقصان الوزن التي نشعر بهما عندما نستعمل المصعد أو مثل القوة الطاردة عن المركز التي نشعر بها على المنحنيات ونحن نسوق السيارة. لمزيد من التفاصيل انظر الملحق 1.

فلنفكر الآن كيف يظهر جسم يسير بسرعة ثابتة إذا ما راقبه شخصان، يسير كل منهما بسُرعةٍ ثابتةٍ مختلفة. لتسهيل التفكير في هذا الوضع لنتخيل ثلاثة أشخاص، الأولى إمرأة تقف على الرصيف ساكنة، والثاني رجل يركب سيارة سوداء تسير بسرعة 30 كيلومترا في الساعة مبتعدة عن المرأة والثالث شاب يركب في سيارة بيضاء تسير بنفس اتجاه السيارة السوداء التي يركبها الرجل وتسير بسرعة 20 كيلومترا في الساعة بالنسبة له، أي بالنسبة للسيارة السوداء (كما في الصورة).

ما هي إذن سرعة السيارة البيضاء التي يركبها الشاب بالنسبة للمرأة التي على الرصيف؟ من الواضح أنها 50 كيلومترا في الساعة.

استعملنا هنا ما يعرف بتحويل جاليليو للسرعة وهو تحويل يقضي بأن السرعة، v بالنسبة للمرأة الساكنة تساوي مجموع سرعة السيارة السوداء التي تسير بسرعة ثابتة نسبة للمرأة، V، زائد سرعة السيارة البيضاء بالنسبة للسيارة السوداء، ‘v (أنظر الرسم).

أي أننا عندما ننتقل من إطار مرجعي قصوري لآخر، تتغير بالنسبة لنا سرعة الأجسام بحيث يجب أن نجمع أو نطرح السرعة النسبية بين الإطارين القصوريَيْن (’v= V+v). و تتماهى هذه النتيجة، المعروفة كما ذكرنا باسم تحويلات جاليليو، مع تجربتنا اليومية وبديهيّتنا الأساسية وهي أحدى الخصائص المركزية للميكانيكا الكلاسيكية.

يجدر التنوية بأن إحدى الصفات الأساسية لِتحويلات جاليليو هي أن الزمن مطلق، أي لا يتغير عندما ننتقل من إطار مرجعي معين لآخر.

الضوء والأثير:

بقيت تحويلات جاليليو، حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هي التحويلات المعتمدة من غير منازع بحيث تخضع لها جميع قوانين الفيزياء الأساسية التي لا تتغير عندما نُخضعها لهذه التحويلات.

لكن في بداية الستينيات من القرن التاسع عشر، نشر جيمس كلارك ماكسويل (James Clerk Maxwell) −أعظم فيزيائيي القرن التاسع عشر− مقالا عن النظرية الكهرومغناطيسية ، عرض خلالها قوانينه الأربعة التي تحكم هذه الظاهرة وألحقه عام 1865 بمقال آخر بعنوان “نظرية ديناميكية للحقل الكهرومغناطيسي” (A dynamical theory of the electromagnetic field) الذي وضع به نظريته بشكل متكامل، والتي تضمنت وصفا للضوء على أنه أمواج كهرومغناطيسية.

حظيت نظرية ماكسويل بنجاح هائل في وصفها لجميع الظواهر الكهرومغناطيسية وسريعا ما اتخذت موقعا مركزيا في صرح قوانين الفيزياء الأساسية للطبيعة.

لكن إضافة لذلك، حملت معادلات ماكسويل في طياتها مفاجئة كبيرة، فهي، بعكس كل قوانين الطبيعة التي كانت معروفة في حينه، تتغير عندما نخضعها لتحويل جاليليو. وبالتحديد عندما ينظر إلى نفس المجموعة الكهرومغناطيسية مراقبان مختلفان يتحركان بالنسبة لبعضهما بسرعة ثابتة، إذ تكون عندها لسرعة الضوء، التي تتنبأ بها هذه المعادلات نفس القيمة لكل منهما، مما يشكل تحديا واضحا لتحويل جاليليو.

لحل هذه الإشكالية لجأ الفيزيائيون لمفهوم “الأثير” وهو مصطلح أخذ في تاريخه معانٍ عديدة. تعود جذوره إلى فيزياء وعلم الكون عند أرسطو طاليس التي وضعها في كتابه “في السموات” (De Caelo) والتي بها قسّم الكون إلى قسمين: الأول، هو الأرض والمنطقة التي تحيط بها (terrestrial sphere) والتي تمس مدار القمر الذي كان يعدّ كوكبا سيارا.

والثاني، هو قبة السماء (celestial sphere) التي تبدأ من القمر وتحوي كل ما نراه من كواكب (من ضمنها الشمس والقمر) ونجوم أخرى. يتكون القسم الأول، أي الأرض التي هي موقع الحركة غير المتكاملة والمشوهة، من أربعة عناصر هي التراب والماء والنار والهواء.

وتتحرك هذه العناصر بخطوط مستقيمة إلى أعلى وأسفل. أما القسم الثاني، أي قبة السماء فيدور كل شيء بها في دوائر متكاملة ونمط يعود على نفسه بشكل دوري ودقيق كل ليلة. السبب في هذه الحركة المتكاملة، حسب أرسطو، هو أن الأجرام السماوية مصنوعة من الأثير، العنصر الخامس في فيزياء ارسطو وهو العنصر الكامل الذي يسير دائما بحركة دائرية متكاملة ودقيقة جدا.

بعد الثورة الكوبرنيكية تهاوت فيزياء أرسطو وأصبحت عناصرها الأساسية بغير قيمة، ولكن لسبب أو آخر استمر الفيزيائيون في استعمال مفهوم الأثير بشكل يحمل معانٍ متشابهةٍ، ولكنها ليست متطابقة، لعنصر أرسطو. مثلا، استعمل نيوتن هذا المصطلح للتغطية على نواقص تجريبية ومبدئية في نظرياته المختلفة.

لقد نصّت نظريته حول الضوء بأنه مكون من جسيمات صغيرة جدا تسير بسرعة كبيرة، مما مكّنه من تفسير ظواهر عديدة مثل انعكاس الضوء ومساره المستقيم وغيرها. لكنها عجزت عن التعامل مع انكسار الضوء، مما حدا به لافتراض وجود الاثير لتعليل تصرف جسيمات الضوء المخالفة لنظريته.

مثال آخر هو نظريته حول الجاذبية التي أوجبت وجود فعل بين أجسام عن بعد (action at a distance)، من غير وسيط واضح لتوصيل هذا الفعل من مكان إلى آخر، مثل قوة التجاذب بين الشمس والأرض.

وهذا ما عارض نظرته الميكانيكية للكون حتى انه قال: “[الفعل عن بعد] بالنسبة لي هو سخافة كبيرة فلا أعتقد أن ينغرّ بها أي شخص قادر على التفكير في الأمور الفلسفية” . لتوفيق نظريته عن الجاذبية مع فلسفته الميكانيكية تخيّل نيوتن هنا أيضا أن الأثير هو الوسيط الذي ينقل هذه القوة بين الأجسام البعيدة.

في بداية القرن التاسع عشر، نشر توماس يونغ نتائج أبحاثه التي بين بها خطأ نظرية نيوتن عن الضوء، والتي كانت النظرية المقبولة في حينه، وأن الضوء هو في الحقيقة موجة. كان الاعتقاد السائد حينها بأن الأمواج تحتاج لوسط تنتقل من خلاله من مكان إلى آخر، مثل أمواج البحر التي تسير في الماء وامواج الصوت التي تنتقل في الهواء.

لكن ما هو الوسط الذي يسير من خلاله الضوء؟ وكيف يصلنا ضوء النجوم البعيدة؟ هنا أيضا لجأ العلماء لمفهوم الأثير الذي يتخلل الفراغ في كل مكان في الكون لكي يفسروا نظرياتهم حول الضوء (يعود هذا أصلا للعالم الهولندي ابن القرن السابع عشر كريستيان هاوخنس uygensChristiaan H). وعندما اكتشف ماكسويل معادلات النظرية الكهرومغناطيسية وأتضحت مشكلة سرعة الضوء ومخالفتها لتحويلات جاليليو كان من الطبيعي أن يلجأ العلماء هنا أيضا لمفهوم الأثير مرة أخرى. لن أدخل هنا في صفات الأثير في مثل هذه النظريات، إلا أنني أذكر أنها تطلّبت وجود إطار مرجعي مطلق للفراغ يكون الأثير ساكنا بالنسبة له ويتحرك به الضوء بسرعة ثابتة.

لكن إذا كان هناك إطار مرجعي مطلق نستطيع مبدئيا أن نقيس سرعته بواسطة قياس سرعة الضوء المنطلق من جسم متحرك بالنسبة للأثير. هذا بالضبط ما حاول قياسه العالمان الأمريكيان ألبرت ميكلسون وإدوارد مورلي في التجربة المشهورة المعروفة باسمهما. وهي تجربة بسيطة، يصفها الرسم المرفق، تحوي مصدر ضوء يطلق أشعته على نصف مرآة (كالمرآة التي تستعمل في غرف التحقيق) تشكل زاوية 45 درجة مع اتجاه الضوء بحيث تعكس نصف الضوء بزاوية قائمة نسبة لاتجاهه الأصلي (السهم الأزرق رقم 1 في الرسم المرفق) وتسمح لنصفه الآخر بالمرور (السهم الأحمر رقم 1 في الرسم المرفق). ينعكس الشعاعان على مرآتين عاديتين تبعدان بعدا مطابق تماما عن نصف المرآة (الصفراء).

بعد الا نعكاس عن المرآة ينعكس جزء من الشعاع المبين بالسهم الأحمر (رقم 2 في الرسم) على نصف المرآة ويكمل طريقه إلى جهاز القياس، بحيث ينضم إلى الشعاع المبين باللون الأزرق (رقم 2 في الرسم) والذي يمر جزء منه من خلال نصف المرآة (الصفراء) ويبقى في خط مستقيم. إذا كان الضوء له نفس طول الموجة بالضبط وكان هناك اتساق (coherence) تام بين كل الأمواج التي تخرج من المصدر، يستطيع عندها جهاز القياس بأن يحدد إذا ما كان أحد هذين الشعاعين (المبيّنين بالأسهم الحمراء والزرقاء في الرسم) قد وصل إليه أسرع من الآخر.

تخيل الآن أن مجموعة التجربة في حالة سكون بالنسبة للأثير (القسم اليميني من الرسمة) عندها يكون طول المسافة التي يعبرها الشعاع الأزرق حتى يصل إلى جهاز القياس هي نفسها، لهذا لا يسجل جهاز القياس أي فرق بين سرعة وصول الشعاعين.

بالمقارنة إذا ما كان الجهاز يسير بسرعة معينة (V)، مثلا، نتيجة لحركة الأرض بالنسبة للأثير عندها نتوقع حسب تحويل جاليليو أن يسير الشعاع الأزرق مسافة أكبر من الشعاع الأحمر لأنه مساره يشكل زاوية صغيرة لم تكن موجودة في الحالة الساكنة (كما يظهر في القسم اليساري من الرسمة).

لهذا، وفي هذه الحالة، نتوقع أن يصل الشعاع الأزرق بعد الشعاع الأحمر لأنه يقطع مسافة أكبر. لكن المفاجأة الكبرى كانت أن الشعاعين يصلان إلى جهاز القياس معا دائما، بغض النظر عن سرعة مجموعة القياس واتجاهها.

أحدثت هذه التجربة مفاجئة كبيرة في مجتمع الفيزيائيين لأن أسهل تفسير لنتائجها هو أن للضوء نفس السرعة بالنسبة للمجموعة الساكنة والمجموعة المتحركة وأنه ليس هناك حاجة أبدا لفرضية الأثير.

ضرب هذا بعرض الحائط ثوابت أساسية لنظريات الفيزياء السائدة في حينه: صحة تحويلات جاليليو ووجود الأثير في كل مكان. كان اعتقاد الفيزيائيين في حينه بوجود الأثير اعتقادا راسخا بالرغم عدم وجود أي سبب أساسي لوجوده لأنه مكنّهم من فهم عدد من الظواهر الأساسية في الفيزياء، كمعادلات ماكسويل للظاهرة الكهرومغناطيسية وطبيعة الضوء وانتشاره وغيرها، من دون الحاجة إلى تقويض مبنى قوانين الفيزياء الذي اعتقدوه راسخا.

لهذا كانت هناك محاولات كثيرة للتوفيق بين نتائج التجربة ومفهوم الأثير تضمنت معظمها إحداث تغييرات طفيفة على صفات الأثير لتعيد انسجامها مع القياسات الجديدة. لعل أشهر هذه المحاولات كانت محاولة العالم الهولندي هندريك لورنتز (Hendrik Lorentz) التي اقترح بها تحويلات لورنتز الشهيرة التي استعملها أينشتاين لاحقا في النظرية النسبية الخاصة لاستبدال تحويلات جاليليو.

لكن هذه الأزمة مهدت الطريق أمام الفيزيائيين لحذف مفهوم الأثير من قاموسهم العلمي بالضبط كما حصل سابقا لفيزيائيي النظرية الحرارية الذين ابتكروا السائل الحراري (caloric fluid) لتفسير انتقال الحرارة في الأجسام ليرفضوه لاحقا لصالح نظرية الديناميكا الحرارية (thermodynamics) وكما فعل الكيميائيون الذين ابتكروا عنصر النار أو الفلوجستون (phlogiston) من أجل تفسير اشتعال المواد والذي أيضا رفضوه لاحقا عندما اكتشفوا دور الأكسجين في عملية الاحتراق الكيميائية.

مبادئ النظرية النسبية الخاصة

تتعامل النظرية النسبية الخاصة مع مجموعات تسير بسرعة واتجاه ثابتين بالنسبة لبعضها البعض (أطر مرجعية قصورية). لهذا كان من الواضح منذ البداية بأنها نظرية ناقصة، فهي لا تأخذ بالحسبان فعل القوى المختلفة وكيف تتحرك الأجسام تحت تأثيرها، بالذات قوة الجاذبية.

لكن على الرغم من محدوديتها فقد تحدت مفاهيم ومسلمات عميقة جدا كان يعتقد الجميع بصحتها. وهي نظرية بسيطة من ناحية رياضية تعلم أحيانا لطلاب المدارس الثانوية لسهولة مادتها تقنيا. بالرغم من بساطتها الظاهرة فهي نظرية عميقة جدا تتطلب إعادة النظر في كيفية فهم واقعنا.

ابتدأ أينشتاين كعادته في نظرياته بنص مبدأين بسيطين ظاهريّا، أسّس عليهما نظريته الجديدة:

المبدأ الأول هو مبدأ النسبية الذي رأيناه سابقا وهو ينص على أن قوانين الفيزياء تبقى كما هي بالنسبة لمراقب يسير بسرعة واتجاه ثابتين (إطار مرجعي قصوري). وهو كما ذكرنا مبدأ يعود في الأصل إلى جاليليو.

أما المبدأ الثاني فينص أن سرعة الضوء في الفراغ ثابتة ولها نفس القيمة بالنسبة لأي مراقب يسير بسرعة واتجاه ثابتين مهما كانت سرعته. وهذا مبدأ جديد يناقض بوضوح تحويلات جاليليو لأن سرعة الضوء هي 299،792،458 متر لكل ثانية (تقريبا 300،000 كيلومتر في الثانية) مهما كانت سرعة المراقب الذي يقيسها. وهذا العنصر الجديد في نظرية أينشتاين هو عمليا “قانون طبيعة” جديد.

يفرض المبدأ الأول ضمنيا، بالإضافة لما يقوله حول سرعة المراقب، بأن قوانين الطبيعة هي نفسها، بغض النظر عن موقع المجموعة الفيزيائية وفي أي زمن وجدت.

أي أن مراقب في الشرق الأوسط يرصد نفس قوانين الطبيعة التي يراها مراقب في أستراليا أو حول نجم بيت-الجوز أو في المجرة اندروميدا أو حتى في أقصى أقاصي الكون. وهي نفس القوانين أيضا لمراقب يعيش بعد مليون عام من اليوم أو منذ بداية الكون.

وهو ما قد يظهر للقارئ على أنه طبيعي ومفروغ منه، لكن في الحقيقة لم تكن هذه الفرضية مقبولة خلال معظم تاريخ البشر.

على سبيل المثال، كانت فيزياء أرسطو طاليس التي تبعها البشر لحوالي ألفي عام تنصّ على أن قوانين الطبيعة التي تحكم الأجرام السماوية تختلف عن تلك التي تحكم الأجسام على الأرض. إن فكرة عدم تغيّر قوانين الطبيعة بالنسبة لمكان وسرعة المراقب تشكل أحد أهم وأعمق التبصرات العلمية للطبيعة التي أدركها الإنسان.

أما المبدأ الثاني فيبدو بسيطا لأول وهلة ولا يحمل في طياته اسقاطات غير عادية لكنه في الحقيقة مصدر أغلب النتائج الغريبة والعميقة التي تتمخض عن النظرية النسبية الخاصة. وهو الذي أدّى لإعادة النظر في مفاهيمنا الأساسية عن المكان والزمان والعلاقة بينهما.

لكن ما الخاص في الضوء وسرعته؟ الحقيقة أن الضوء هو ليس الشيء الوحيد الذي يسير بهذه السرعة فهناك أيضا أمواج الثقالة، التي تنبأ بها اينشتاين في النظرية النسبية العامة والتي اكتشفت في الطبيعة لأول مرة عام 2015 بواسطة مرصد لايجو. بالرغم عن ذلك، يبدو أن للأجسام التي تسير بسرعة الضوء دورا خاصا في الطبيعة!

نتائج النظرية النسبية الخاصة الأساسية

لضيق المجال في هذا المقال لن أتحدث بإسهاب عن نتائج النظرية النسبية الخاصة، بل سأكتفي فيما يلي بعرض بعض أهم النتائج المنبثقة عنها.

سأبدأ بالظاهرة التي تُعرف باسم تمدد الزمن (time dilation) التي يسير بحسبها الزمن بوتيرة أبطأ في مجموعة ساكنة بالنسبة لمراقب يتحرك بسرعة ثابتة. وهي نتيجة مذهلة تتناقض تماما مع تجربتنا اليومية.

السبب في هذا أنه في سرعة عادية يكون التغيير في وتيرة مرور الزمن صغير جدا، ويصبح ملحوظا بشكل واضح فقط عندما تقترب سرعة المجموعة من سرعة الضوء.

لتسهيل فهم ذلك أعطي مثالا بسيطا كملحق رقم 2 للمقال، يستطيع القاريء، غير المعني بتفاصيل تقنية، تجاهله. إذن ظاهرة تمدد الزمن هي النتيجة الأولى لقانون ثبات سرعة الضوء في الفراغ (أنظر الملحق 2).

تبين المعادلات بأنه كلما كانت سرعة المجموعة الفيزيائية أكبر بالنسبة لنا كلما ظهرت لنا وتيرة مرور الزمن الذي تعيشه هذه المجموعة أبطأ. فإذا أصبحت سرعة هذه المجموعة مساوية لسرعة الضوء (وهو، كما سنرى لاحقا، أمر مستحيل إلا لجسم ذي كتلة صفر) تظهر لنا وكأن الزمن عليها قد توقف عن الجريان! بالطبع بالنسبة لمراقب يسير مع هذه المجموعة، وتيرة الزمن تبقى سائرة بشكل عادي، هذا هو جوهر النسبية.

لكن هل يمكن إثبات ذلك تجريبيا؟ عدد الدلائل التجريبية لهذه الظاهرة كبير جدا، فمثلاً، زامَنَ (synchronise) العلماء ساعتين ذريتين بحيث تشيران لنفس الوقت تماما ــ الساعة الذرية هي أدق ساعة معروفة ــ وقاموا بإرسال إحداها إلى محطة الفضاء الدولية ثم قارنوا قراءة تلك الساعة عندما عادت إلى الأرض مع قراءة الساعة التي بقيت هنا فوجدوا فرقا ملحوظا بينهما، بتوافق تام مع تنبؤ النظرية النسبية الخاصة.

نحن في الحقيقة نستعمل هذه الظاهرة يوميا عندما نستعمل نظام التموضع العالمي (GPS) عبر تلفوناتنا الذكية لأن سرعة الأقمار الإصطناعية وبعدها عنا تحتم الأخذ بالحسبان نتائج النظرية النسبية الخاصة.

ظاهرة تمدد الزمن هي وراء المفارقة المعروفة باسم مفارقة التوأم (The Twin Paradox). وهي تتحدث عن أخوان توأمان ينطلق أحدهما بمركبة فضائية سريعة جدا ليعود بعد عام ليجد بأن أخاه قد تقدم في العمر أكثر من سنة بكثير، فالوقت بالنسبة لكليهما قد جرى بمعدل مغاير عن الآخر.

والمفارقة هنا هي أن الأخ الذي ركب المركبة الفضائية يرى أخاه الذي بقي على الأرض يسير مبتعدا عنه بسرعة كبيرة في الاتجاه المعاكس، لأنه ساكن بالنسبة لنفسه حتى وإن كان راكبًا مركبة فضائية.

إذا كان هذا صحيحا فكيف لا يرى بأنه هو الذي هرم بينما كبر أخاه الذي بقي على الأرض سنة واحدة؟ الحل لهذه المعضلة هو أن الأخ الذي ركب المركبة الفضائية لم يسر بسرعة ثابتة ذات اتجاه محدد طول الوقت، فلقد اضطر أن يعكس اتجاه سرعتة ليعود إلى الأرض وهو ما يكسر التناظر بينه وبين أخيه.

النتيجة الثانية التي أود ذكرها هي ما يعرف باسم تقلص الطول (Length contraction)، وهي تقضي بأن طول الجسم المتحرك بسرعة ثابتة يظهر أقصر(باتجاه حركته) بالنسبة لمراقب ثابت.

وهي أيضا نتيجة مفاجئة جدا! الدلائل التجريبية المباشرة على تقلص الأطوال في الحقيقة صعبة المنال وغير. السبب الأساسي في هذا هو أننا لكي نفحصها نحتاج بأن نسارع جسما كبيرا نسبيا حتى يصل إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء، وهو أمر روتيني بالنسبة لأجسام صغيرة جدا (الكترونات وبروتونات) لكننا حتى الآن لا نستطيع تقنيا تحقيق ذلك لأجسام كبيرة.

لهذا فأغلب الأدلة التجريبية على ظاهرة تقلص الطول هي دلائل غير مباشرة على الرغم أنها كثيرة جدا.

تغيير الزمن والطول يؤديان لتغيير آخر جوهري تفرضه علينا النظرية النسبية العامة يتعلق بمفهوم التزامن (simultaneity). والتزامن هو الحالة التي يحدث بها حادثان منفصلان في نفس الوقت تماما.

في الفيزياء الكلاسيكية التزامن هو مفهوم مطلق، لكن في نظرية أينشتاين النسبية قد يكون حدثان متزامنان (يحدثان في نفس الوقت تماما) بالنسبة لمراقب ساكن ولكن نتيجة لتغيير الزمن في هذه النظرية يظهر نفس الحدثين بأنهما غير متزامنين بالنسبة لمراقب متحرك بسرعة ثابتة، والعكس بالعكس.

بل أكثر من ذلك فقد يسبق حدث معين حدث آخر نسبة لمراقب معين ولكن بالنسبة لمراقب آخر قد يبدو ترتيب حدوثهما معاكس (الحدث الثاني يحدث قبل الأول)!

هنا من الطبيعي أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن لنتيجة أن تظهر لمراقب معين قبل السبب الذي أدى إليها؟ في الحقيقة أن موضوع السببية هو موضوع أساسي في الفيزياء والفلسفة. ونستطيع القول بأن كسر التسلسل السببي للأحداث يؤدي إلى مفارقات وتناقضات لا تستطيع أي نظرية فيزيائية العيش معها. لتوضيح هذا نأخذ المثال التالي.

لنفرض بأن كأسا من الزجاج سقط من ارتفاع كبير وتحطم عندما اصطدم بالأرض، هل يمكن أن يظهر لمراقب ما بأن الكأس تحطم قبل أن يسقط؟ الإجابة هي كلا، لأن النظرية النسبية الخاصة تحافظ على العلاقة السببية بين الأحداث، أي أن السبب لحدث معين يظهر دائما، وبالنسبة لأي مراقب كان، قبل النتيجة.

أي أن النظرية النسبية الخاصة بالرغم من اختلاط الزمن والمكان بها، تحافظ على السببية (causality) أي أنها تحافظ على أسبقية السبب على النتيجة، وهو أمر نستطيع إثباته رياضيا. أما اذا لم تكن هناك علاقة سببية بين الحدثين فترتيب حدوثهما قد يتغير من مراقب إلى آخر.

الزمكان (Spacetime)

لعل أهم ما أوضحتْهُ لنا النظرية النسبية الخاصة هو الإرتباط العضوي والعميق بين الزمان والمكان. فهما لا يحملان كينونة منفصلة كما كنا نعتقد سابقا، بل هما كالخيوط المتشابكة التي ينسج بها الكون هندسته ولا نستطيع الحديث عن الواحد من دون الآخر.

في النظرية النسبية الخاصة لا تنطبق تحويلات جاليليو عند الانتقال من إطار مرجعي قصوري معين إلى الآخر، بل تبدلها تحويلات أخرى تسمى تحويلات لورنتز.

وبحسب هذه التحويلات، تتغير احداثية الزمن بشكل يرتبط بالمكان والعكس بالعكس. أي أن الزمن في هذه التحويلات ليس مطلقا وانما يتغير من إطار مرجعي إلى آخر ويشبه في تصرفاته احداثيات الفراغ. أي أن الزمن في النظرية النسبية الخاصة فقد موقعه الخاص والمطلق وتحول الى مجرد احداثية يراها مراقبون مختلفون تسير بوتيرة مختلفة.

في عام 1907 قام هيرمان مينكوفسكي (Herman Minkowski)، الذي كان استاذ أينشتاين، بادخال تفسيرا هندسيا لنظرية النسبية الذي يكون بحسبه “البعد” (interval) بين نقطتين مزيجا بين البعدين الفراغي والزمني بينهما، وهذا النوع من “البعد” (أي الذي يحوي الزمن أيضا) لا يتغير من مراقب إلى آخر.

لم ير أينشتاين في البداية المفهوم العميق لهذا التفسير الهندسي الذي أدخله مينكوفسكي للنظرية النسبية الخاصة، ولكنه كان في الحقيقة العامل الحاسم في تطوير نظرية النسبية العامة التي جاء بها بعد عشر أعوام من اكتشافه للنظرية النسبية الخاصة.

وكما قال مينكوفسكي في محاضرة شهيرة عن النظرية النسبية الخاصة والتي ألقاها عام 1908 أمام مؤتمر فلاسفة الطبيعة الذي عقد في مدينة كولون الألمانية: “من الآن فصاعدا، الفضاء بحد نفسه، والزمان بحد نفسه، هما مجرّد ظلالٍ؛ فقط دمجهما معا من الممكن أن يحافظ على استقلاليّة ومعنًى لوُجُودهما.” نتيجة لهذا الترابط العضوي بين إحداثيات الزمان والمكان ولد مفهوم الزمكان (spacetime)!

أدى هذا المفهوم الهندسي الجديد، الذي أصبح يعرف بهندسة مينكوفسكي، الى تغيير شامل في فهمنا للفيزياء ليس فقط بما يتعلق بربط الزمان بالمكان. فقد أصبح الفيزيائيون يرون أربعة متغيرات في كل شيء (على غرار الأبعاد الثلاثة والزمن) فمثلا الحقل المغناطيسي والكهرباء أصبحا مرتبطين بواسطة مبنى رياضي مشابه، كذلك الطاقة وكمية الحركة، إلخ.

أي أن هذا الفهم الهندسي الجديد قد سبب إعادة ترتيب أوراق أساسية في الكثير من مجالات الفيزياء ليزوّدنا بوضوح أكبر وفهم أعمق لها. هذا التحول الواسع النطاق الذي يسببه مفهوم معين، نادرا ما يحدث في الفيزياء وهو عادة مؤشر لاكتشاف حقيقة عامة وعميقة عن الطبيعة.

وهذا التحول يشبه تجربة شخص قصير النظر يرى فقط من حوله لكنه عندما يضع نظارات طبية للمرة الأولى يرى بوضوح ما كان يراه ضبابيا من قبل ويفهم الترابط العام بين ما يشاهده.

لكن ماذا يحدث لقانون جاليليو جرّاء إضافة السرعة الذي ذكرناه سابقا (مثال السيارات) على ضوء النظرية النسبية الخاصة؟ في سرعات صغيرة نسبة لسرعة الضوء لا نرى أي تغيير يذكر على هذا القانون. أما في سرعات قريبة من سرعة الضوء فينص قانون إضافة السُرَعات في النظرية النسبية الخاصة بأن السرعة الناتجة هي ليست جمع بسيط، بل هي معادلة تقضي بأن السرعة الناتجة لا يمكن أن تتعدى سرعة الضوء.

في الحقيقة لا يمكن أن نسارع أي جسم من سرعة بسيطة حتى يصل إلى سرعة الضوء. هذه النتيجة ليست مفاجئة لأنها تتماشى مع مبدأ ثبات سرعة الضوء في الفراغ بغض النظر عن سرعة المجموعة التي نقيس منها معدل انتشار الضوء.

على أساس هذا الفهم من الممكن وصف الزمكان بالنسبة لأي حدث يجري هنا والآن (المبين بالنقطة الصفراء في الرسم المرفق) بواسطة ما يعرف بـ “مخروط الضوء”. يصف هذا الرسم السطح الذي يسير عليه شعاع الضوء الذي يصدر من النقطة الصفراء بأنها مخروط، رأسها في نقطة الهنا والآن، لأن الضوء يسير بسرعة ثابتة. كذلك الأمر بالنسبة للمخروط الضوئي المنصرم، فهو السطح الهندسي الذي تمر عليه أشعة الضوء الآتي من الماضي ليصل إلينا الآن (إلى نقطة الهنا والآن).

إذن مخروط الضوء المستقبلي هو مدى أفق الضوء الذي نراه في أي زمن محدد، ومخروط الماضي يحدد النقاط في الفراغ التي نقع نحن على أفقها الضوئي. الأجسام التي تعيش داخل المخروط الضوئي المستقبلي هي أجسام نستطيع مبدئيا التأثير عليها، الأجسام التي تعيش داخل المخروط الضوئي المنصرم تستطسع هي التأثير علينا؛ أي أننا من الممكن أن تكون لنا معها علاقة سببية. أما خارج المخروطين فيسكن كل شيء آخر، أي خارج مجال امكانية التأثير السببي، لهذا نستطيع مبدئيا أن نؤثر عليه أو يؤثر علينا.

لكن ماذا يحدث إذا وجدنا جسيما يسير أسرع من الضوء؟ هل هذا مسموح بحسب النظرية النسبية الخاصة؟ كما ذكرنا لا يمكن أن نسارع جسما بحسب هذه النظرية ليصل إلى سرعة الضوء، فما بالك إن أردنا أن يتخطّاها.

على الرغم عن هذا فليس هناك مانع مبدئي بوجود جسم نشأ من البداية بسرعة تفوق سرعة الضوء. لتوضيح هذا لنفكر في جسيم الضوء، فهو يولد وسرعته هي سرعة الضوء ولا نستطيع أن نبطئ أو أن نزيد من سرعته في الفراغ، كذلك الأمر بالنسبة لجسيم الذي قد يولد مع سرعة أكبر من سرعة الضوء.

تسمى مثل الجسيمات التي تولد بسرعة تزيد عن سرعة الضوء تاكيونات (Tachyons). إن وُجدت مثل هذه الأجسام فهي ستكون أجساما غريبة جدا؛ فهي أولا تعيش خارج المخروط الضوئي الذي ذكرناه أعلاه.

لكن الأهم من ذلك هو أن هذه الجسيمات تخرق العلاقة السببية بين المسبب والنتيجة بحيث قد يأتي الثاني قبل الأول وهذا أمر من الصعب قبوله. يحدد سهم الزمن تسلسلا زمنيا واضحا للأحداث، فالماضي يسبق الحاضر والسبب يسبق النتيجة، لكن وجود مثل هذه الأجسام يسبب شرخا في تسلسل سهم الزمن وحتى أحيانا يعكسه، بحيث تأتي النتيجة قبل السبب والحاضر قبل الماضي.

هذا أيضا يطعن في حرية الإرادة التي هي شبه مقدسة لنا كبشر. لهذا يعتقد أغلب الفيزيائيين، وأنا من ضمنهم، بأنه لا وجود للتاكيونات في الواقع. على الرغم من هذا، هناك بعض من الفيزيائيين الذين يحاولون إيجاد مثل هذا الجسيم!

الطاقة والكتلة

دعونا نتخيل الآن أننا بدأنا في لحظة معينة بتشغيل قوة ثابتة على جسم ساكن. حسب قوانين نيوتن، التي نستطيع استعمالها في سرعات صغيرة بالنسبة لسرعة الضوء، تبدأ سرعة هذا الجسم بالازدياد طرديا مع الزمن. كلما استمرت هذه القوة بالعمل على الجسم لزمن أطول كلما ازدادت سرعته.

لكن عندما تقترب سرعة هذا الجسم من سرعة الضوء، لا يمكن أن تستمر سرعته بالازدياد بشكل طردي للزمن لأنها ستصل او حتى تفوق سرعة الضوء، وهذا ما اتفقنا أنه من غير الممكن. لهذا كلما اقتربنا من سرعة الضوء أصبح معدل ازدياد سرعة الجسم أقل وأقل حتى يصبح مهملا جدا.

هذا بالفعل ما يحدث في معجلات الجسيمات التي يستخدمها الفيزيائيون في التجارب التي يقومون بها لفحص مبنى المادة بأصغر أشكالها، مثل التجارب التي تقوم بها المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية المعروفة باسم: سيرن (CERN).

لكن أين تذهب الطاقة التي تنتج عن تفعيل هذه القوة على الجسم إذا لم تزد في سرعته؟ الإجابة على هذا أتت في مقال أينشتاين الثاني عن النظرية النسبية الخاصة في عام 1905. في هذا المقال نقض أينشتاين أحد أهم قوانين الفيزياء الكلاسيكية وهو قانون نيوتن الثاني. في الفيزياء الكلاسيكية كتلة الجسم هي مقدار ثابت يحدد مدى مقاومة الجسم للتسارع عندما تعمل علية قوة ما.

أي كل ما كانت الكتلة أكبر كلما كان من الأصعب تغيير سرعتها. لكن بحسب النظرية النسبية الخاصة تزداد مقاومة الجسم أكثر للتسارع كلما اقتربت سرعته من سرعة الضوء، لكن إذا ازدادت مقاومة الجسم للتسارع هذا يعني أن كتلته عمليا تزداد.

ليس هذا فقط بل هي تزداد إلى ما نهاية إذا ما وصلت سرعة الجسم إلى سرعة الضوء! أي أن معظم الطاقة التي تنتجها القوة عندما تعمل على الجسم لا تزيد من سرعته، إذا ما كانت هذه السرعة قريبة من سرعة الضوء، بل تزيد من كتلته. أي أن الكتلة هي شكل من أشكال الطاقة وهذه أحد أهم نتائج النظرية النسبية الخاصة وأعظمها تأثيرا.

وضع أينشتاين هذه النتيجة في معادلة بسيطة أصبحت أشهر معادلة في العلوم قاطبة، وهي معادلة E= mc^2، التي تقول بأن طاقة الجسم تساوي حاصل ضرب كتلته بمربع سرعة الضوء. تتعلق الكتلة بالسرعة، كما ذكرنا، بالشكل التالي m=m_0/√(1-v^2/c^2 ) بحيث أن m_0 هي كتلة الجسم عندما يكون ساكنا و v^2/c^2 هي النسبة بين مربع سرعة الجسم و مربع سرعة الضوء.

أي أن كتلة الجسم هي m_0عندما يكون ساكنا ولا نهائية عندما تصل سرعته إلى سرعة الضوء (لأن المقام يصبح عندها صفرا). أي أننا نحتاج لطاقة لا نهائية لجعل جسم يسير بسرعة الضوء!

الطاقة الكامنة في الكتلة هي طاقة كبيرة جدا يصعب تخيلها، وهذا يعود لأنها تحوي مربع سرعة الضوء في معادلتها الرياضية، وهو رقم كبير جدا نسبة للسرعات التي نجربها في حياتنا اليومية. لنقارن الطاقة الحركية التي تحملها سيارة وزنها طن وتسير بسرعة 100 كم في الساعة مع طاقة كتلتها.

في هذه الحالة الطاقة الحركية تكون حوالي 500000 جول (وِحدة قياس طاقة) بينما تكون طاقة كتلتها هي 90000000000000000000 جول (19 صفر بجانب 9).

أعطي أيضا مثالا آخرَ، الطاقة الموجودة في غرام واحد من المادة يعادل الطاقة التي تتحرر عند انفجار حوالي 21500 طن من مادة ال تي-أن-تي.

من الصعب تحويل الطاقة الكامنة في الكتلة وتحويلها لأنواع طاقة أخرى في ظروف عادية، لكن هذا بالضبط ما يحدث في التفاعلات النووية. مثلا عندما تندمج أربعة أنوية ذرة الهيدروجين لتكوّن نواة عنصر الهيليوم في لبّ الشمس تَكُون كتلة الهيليوم أقل قليلا من مجموع كتل أنوية الهيدروجين التي كونتها، وهذا الفرق هو ما تحوله الشمس إلى الطاقة الحرارية التي تبعث الحياة في كوكبنا الصغير.

فهي تحول كل ثانية 564 مليون طنّا من الهيدروجين الى 559.7 مليون طنا من الهيليوم، ال 4.7 مليون طنّا التي تشكل الفرق بينهما هو ما تطلقه الشمس كطاقة في كل ثانية.

لكن مهلا ماذا عن الضوء نفسه؟ لماذا لا نحتاج طاقة لا نهائية لجعل الفوتونات تسير بسرعة الضوء؟ السبب لذلك بسيط، هذه الأجسام تحمل كتلة سكون مقدارها صفر! وهو يعني أنه بالنسبة للضوء البسط في معادلة الكتلة التي ذكرناها أعلاه هو أيضا صفر. أي أن الضوء لا يمكن أن يسير في الفراغ بسرعة أقل من سرعته المعهودة (لاحظ بأننا نستطيع إبطاء الضوء في أوساط معينة ولكن ليس في الفراغ!) فهو “يولد” بهذه السرعة.

هذا ما يجعل الضوء ظاهرة خاصة لأنه لا يمكن فهمها بواسطة ميكانيكا نيوتن (التي تنطبق على الأجسام التي تسير بسرعة منخفضة بالنسبة لسرعة الضوء) بل هي ظاهرة نسبية خالصة. إذن النظرية الكهرومغناطيسية التي تفسر الضوء والتي ابتدأنا بها المقال، هي كذلك نظرية تحكمها النسبية الخاصة. أي أن مجال عمل النظرية النسبية الخاصة يحيط بنا في حياتنا كل الوقت فهي المسؤولة عن الكهرباء والضوء وغيرها من الظواهر التي نتفاعل معها في حياتنا دائما.

الجاذبية والزمن

أدرك أينشتاين مباشرة بعد أن أنهى مقالات النظرية النسبية الخاصة بأن نظريته غير كاملة، فهي تتحدث فقط عن مجموعات تسير بسرع ثابتة من غير تسارع، ولا تتعامل أبدا مع قوة الجاذبية. لتصحيح ذلك عمل في العشر سنين التالية جاهدا على تطوير النظرية النسبية العامة التي ادخلت الجاذبية والمجموعات المتسارعة في ضمن نظرية واحدة شمولية ومتكاملة. وأتت هذه النظرية التي أتناولها بتفصيل أكبر في مكان آخر، بتغيير أعمق لمفاهيمنا عن الطبيعة.

في هذه النظرية بيّن أينشتاين بأنه لا فرق بين المقاومة التي يبديها جسم للتسارع التي يعبر عنها حاصل ضرب الكتلة في التسارع وبين قوة الجاذبية (هذا ما يعرف بمبدأ التكافؤ)، وبأنه يمكن التعبير عن هذا التكافؤ بشكل هندسي.

حسب هذه النظرية فإن المادة وكيفية توزّعها في الفراغ تحدد هندسة الزمكان، وهندسة الزمكان تقرر حركة الأجسام التي بداخلها. كان أحد أهم اسقاطات النظرية النسبية العامة هو أن الهندسة التي تحكم الكون ليست مستوية، بل ذات تضاريس وتعرجات وانحناءات وحتى ثقوب (الثقب الأسود مثلا) وتصدعات في نسيج الزمكان. وهذا يناقض تماما الميكانيكا الكلاسيكية التي تخضع لقوانين هندسة إقليدس المستوية للفراغ، كما ويناقض النظرية النسبية الخاصة التي تخضع لهندسة مينكوفسكي ذات الأبعاد الأربعة، والتي هي أيضا مستوية.

أدرك أينشتاين مبكرا نسبيا بأن معدل جريان الزمن يتأثر بالجاذبية، فمثلا الساعة الموجودة على سطح الأرض تمر بمعدل أبطأ من الساعة الموجودة في الفضاء الخارجي لأن قوة الجاذبية على سطح الأرض أكبر منها في الفراغ.

وهذا أمر نستطيع أن نقيسه وهو يؤثر بشكل ملحوظ على الساعات في نظام التموضع العالمي (GPS). أي أن هناك تأثيرين على هذا النظام نتيجة نظرية أينشتاين؛ الأول نتيجة سرعة دوران الأقمار الصناعية لهذا النظام (النظرية النسبية الخاصة) والثاني نتيجة لضعف الجاذبية التي يشعرها القمر الاصطناعي في مداره المرتفع نسبة للجاذبية التي تؤثر علينا (النظرية النسبية العامة) وعلينا أن نأخذ الإثنين بالحسبان لضمان دقة التموضع.

أحد نتائج هذه النظرية المذهلة هو وجود ثقوب سوداء، وهي أجسام ذات كثافة عالية لدرجة انها تحني هندسة الزمكان حولها بحيث أن الضوء لا يستطيع الهروب منها. المقصود في هذا أن هناك بعدا معينا عن مركز الثقب الاسود الذي لا يستطيع أي جسم أن يهرب منه، يدعى هذا البعد نصف قطر شفارتزشيلد (Schwarzschild radius). وهذه الثقوب السوداء تشكل شرخا في الزمكان بحيث أننا نخسر العلاقة السببية مع أي جسم يسقط داخلها.

بل واكثر من ذلك اذا ما راقبنا جسما ساقطا على ثقب أسود نرى بأن معدل سرعة مرور الزمن على هذا الجسم يصبح أبطأ وأبطا كلما اقترب من الثقب الأسود حتى يتوقف تماما عند الدخول عبر نصف قطر شفارتزشيلد.

أي بالنسبة لنا (كما نرصده نحن) يأخذ جسم ما، مالانهاية من الزمن لكي يسقط لداخل الثقب الأسود. أما بالنسبة للجسم نفسه فعملية السقوط للثقب الأسود تحدث بسرعة كبيرة. لكي نفهم هذه الظاهرة علينا أن نتذكر بان ما نحن نراه هو ليس ما يراه الجسم الساقط لأن على الضوء الذي يصلنا منه أن يتغلب على جاذبية هذا الجسم، وهو ما لا يستطيع فعله بعد دخوله حيز التأثير المباشر للثقب الأسود، أي أن الجسم يكمل في سقوطه لكن المعلومات عن هذا السقوط لا تصلنا لأن جاذبية الثقب الأسود تمنعها من ذلك.

النظرية النسبية العامة تزودنا بامكانية أكثر غرابة يمر بها جسم يسقط لداخل ثقب أسود، وهي أنه بعد عبور نصف قطر شفارتزشيلد تتغير صفات الزمن لتصبح مثل صفات المكان والعكس بالعكس. والقصد هنا أنه يصبح بإمكان الجسم التنقل في الزمن الى الأمام وإلى الوراء كما ننتقل نحن من مكان إلى آخر. أي يوفر لنا هذا إمكانية السفر عبر الزمن، ليس فقط للأمام بل بالعودة إلى الوراء.

وقد اقترح الفيزيائيون ما يسمى بثقب الدودة (worm hole) الذي به يسقط جسم الى ثقب أسود لكنه يخرج منه بواسطة ما يسمى ثقب أبيض في مكان آخر وزمان آخر. هذا هو الأساس الفيزيائي لكثير من أفلام الخيال-العلمي التي تستخدم ظاهرة ثقب الدودة للتنقل بالزمن وسبر غور الفضاء.

لكن بالرغم من هذه الامكانيات النظرية يشكك الكثير من العلماء باحتمال حدوثها عمليا لعدد كبير من الأسباب من إمكانية وجود ثقب الدودة في الواقع وإذا وجد فهو غير ثابت ويختفي بسرعة، والى ما ذلك من اعتراضات فيزيائية. لكن لربما أهم سبب للكثيرين لرفض مثل هذه الامكانية هو أنها تعطينا المجال لتغيير الماضي وبالتالي تدمير العلاقة السببية بين الأشياء بحيث انها تمكّن من جعل النتيجة تأتي قبل السبب!

هل الزمكان حقيقي؟

لنعد الآن إلى الجانب الفلسفي لموضوعنا. لقد شرحت في هذا المقال كيف أن الزمان والمكان أصبحا وحدة واحدة سميت بالزمكان وكيف خلقت النظرية النسبية الخاصة نوعا من المقابلة بينهما.

لكن هل حقا أصبح الزمن مجرد إحداثية؟ إذا كان هذا صحيحا فكيف نفسر مثلا بأن تجربتنا للزمن وإدراكنا له مختلف تماما عن إدراكنا للمكان. فنحن نستطيع مبدئيا ان نقف في مكان معين أو أن ننتقل في احداثيات المكان حيث نريد، بينما لا نستطيع أن نفعل ذلك مع الزمن فهو سائر من غير توقف وبدون اعتبار لشيء أو أحد.

هذا ما حاول سبينوزا أن يفسره بقوله إن الزمان هو نتاج محدودية إدراكنا وفي الحقيقة لا يوجد تسلسل زمني يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل بل هي موجودة بشكل متزامن في الطبيعة.

أي أن أحداث الماضي لم تختف والمستقبل موجود الآن والسبب في أننا لا نستطيع الانتقال بينها مثلما نستطيع فعل ذلك من نقطة لأخرى في المكان هو نتيجة محدودية ادراكنا، ليس إلا.

لكن إذا كان المستقبل موجودا بدون علاقة بسير الزمن فهذا يعني أنه ليس هناك دور لحرية الإرادة في حياتنا وهذا يبدو مناقضا لكل ما نفهمه عن أنفسنا وعن وجودنا، كما هو مناقض لتجربتنا اليومية في التعامل مع الطبيعة والواقع الذي يحيط بنا! في القرن العشرين طرح الفيلسوف الإنجليزي جون مكتاغرت (John McTaggart) هذا الموضوع بشكل أوضح عندما حاول برهان عدم وجود تسلسل زمني للأمور، أي أنه انكر واقعية وجود الزمن جملة وتفصيلا، وهو جزء من مدرسة فلسفية تعرف باسم اللاواقعية (antirealism)! في الواقع فإنّ تأثر أينشتاين بالفيلسوف أرنست ماخ جعله يتبنى مواقف لاواقعية مشابهه في النظرية النسبية الخاصة حتى أتى بالنظرية النسبية العامة.

لقد حسمت النظرية النسبية الخاصة المسألة التي كانت في لب النقاش بين نيوتن ولايبنتز الذي ذكرناه في بداية المقال. فهي قد جزمت بأن الزمان والمكان ليسا فقط مرتبطان ببعضهما بل أيضا نسبيّان ولا يوجد لهما وجود مطلق. لكن هذا لا يحسم التساؤل الأعمق الذي طرحه جون مكتاغرت، هل الزمكان موجود بشكل حقيقي أم أنه نتاج خيالنا ومحدودية تفكيرنا؟ هذا كما ذكرت ما كان يميل اليه أينشتاين حتى سنة 1916.

لكن في الواقع لم يكن من الممكن حسم هذا السؤال بواسطة النظرية النسبية الخاصة لأنها لا توفر علاقة بين الزمكان ومحتويات الواقع. بل كان علينا أن ننتظر حتى قدوم النظرية النسبية العامة التي أوضحت بأن الزمكان هو شيء حقيقي، ولكن لا يوجد له وجود مستقل عن المادة التي يحتويها. لأن الزمكان وهندسته هو ما تحدده المادة الموجودة في الطبيعة وطاقتها، وهو موضوع قد تطرقت اليه في مقالي عن أينشتاين والنظرية النسبية العامة.

النظرية النسبية الخاصة هي إنجاز هائل في تاريخ البشر الفكري والعلمي. فقد ساعدتنا على تفسير عدد كبير من الظواهر حولنا واصبحت من أعمدة الفيزياء الحديثة الهامة. وهي النظرية الأساس التي نبني عليها فهمنا للكهرومغناطيسية، ونتائجها أدت إلى تحرير الطاقة النووية وإلى فهمنا كيف تضيء النجوم وغيرها من الظواهر الأساسية في حياتنا. لكنها أيضا فتحت أمامنا أبواب معضلات وتساؤلات أصعب.

فقد تعلمنا مثلا بأننا نستطيع أن نستبق الزمن كما يحدث في مفارقة التوأم وبأننا إذا أدخلنا تاثير الجاذبية (النظرية النسبية العامة) نستطيع مبدئيا أن ننتقل بالزمن إلى الوراء (عن طريق المرور بثقب أسود). لكن يجب أن أنوه إلى أن النظرية النسبية (العامة والخاصة) لا تجيب على أسئلة أخرى هامة، أذكر منها معضلة اتجاه سهم الزمن، أي لماذا يسير الزمن في اتجاه واحد.

الواقع اننا لا نعرف الإجابة لهذا السؤال على الرغم من وجود عدة نظريات عن الموضوع. فالزمن كان وما زال أحد أكثر المفاهيم الفيزيائية غموضا واثارة.

أنهي هذا المقال بالعودة الى السبب الأساسي في هذه الثورة التي ابتدأ بها أينشتاين ألا وهو مبدأ ثبات سرعة الضوء. فهذا المبدأ البسيط الساذج أتى بكل هذه التغييرات المدهشة. لكن السؤال الذي لم نتطرق إليه هو: لماذا هذه السرعة ثابتة وما الخاص في الضوء؟ هذا ما لا نعرف الإجابة عليه. قد يكون السبب هو ببساطة بأن هذه هي قوانين الطبيعة وبأن علينا أن نقبلها كما هي. وهذا بالفعل توجهي كفيزيائي.

لكن في الحقيقة لا يسعني إلا الاسترسال في تفكيري عن واقع أعمق يربط بين خواص الضوء المميزة في النظرية النسبية وفي النظرية الأخرى الأساسية في الفيزياء ألا وهي نظرية الكم. ففي كلاهما يلعب الضوء لعبة مميزة. هل هذا صدفة؟ أم أن هذه النظريات هي مجرد ظلال، كالظلال التي يراها ساكنو كهف أفلاطون؛ أي انعكاسات جزئية ومشوهة لواقع أعمق بكثير ما زال يختبئ عن أعين بصيرتنا.

  • سليم زاروبي
  • الناصرة 1.1.2018

ملحق

1. الأطر المرجعية القصورية:

الإطار المرجعي (frame of reference) هو مفهوم مهم يشير إلى هيئة محاور فراغية تتمركز حول نقطة معينة تسمى نقطة الأصل (origin) وينسب إليه موقع (إحداثيات) وسرعة كل نقطة في المجموعة الفيزيائية التي نَبغي وصفها. بطبيعة الحال هناك عدد لا نهائي من هذه الأطر المرجعية. ديكارت

تجارب جاليليو لحركة الأجسام أدت إلى ما يعرف اليوم باسم قانون نيوتن الأول: جسمٌ ساكنٌ يبقى ساكنا وجسمٌ متحركٌ يبقى متحركا بنفس السرعة ونفس الاتجاه ما لم تؤثر عليه قوة خارجية. إذن نستطيع أن نستعمل هذا القانون لتعريف أطر مرجعية من نوع خاص وهي أطر مرجعية يتحقق فيها قانون نيوتن الأول، وهي أطر مرجعية تسير بسرعة واتجاه ثابتين بالنسبة لبعضهما. في مثل هذه الأطر لا يسري قانون نيوتن الأول فقط على الأجسام بل تسري كل قوانين نيوتن والفيزياء عليها. لهذا النوع من الأطر مكانة خاصة في الفيزياء الكلاسيكية وهو يحمل اسم خاص: إطار مرجعي قصوري (Inertial frame of reference).

لتسهيل رؤية ما نقصده هنا لنفكر في تجربة مررنا بها جميعا وهي الصعود في مصعد من الطابق الأرضي إلى طابق مرتفع. في بداية حركة المصعد نَشْعُر بازدياد في الوزن وكأن هناك قوة إضافية تعمل عليه.

المصعد في هذه المرحلة لا يسير بسرعة ثابتة، بل يتسارع (أي أنه ليس إطار مرجعي قصوري)، هذه القوة التي تسبب ازدياد الوزن هي قوة مجهولة المصدر بالنسبة لمن في المصعد (لهذا تسمى قوة خيالية)، أي أن القانون الأول لنيوتن لا يسري المفعول في المصعد المتسارع. ولكن إذا ما نظرنا من موقع ساكن خارج المصعد لما يحدث، نستطيع أن نفهم مصدر هذه “القوة الخيالية” بسهولة.

المصعد يتسارع إلى أعلى في البداية لكي يصل إلى سرعة صعود ثابتة، خلال هذه المرحلة يدفع المصعد براكبه حتى يتسارع معه وهذا هو مصدر القوة الإضافية التي تعمل على الجسم وتجعله يتسارع (بحسب قانون نيوتن الثاني).

بالنسبة لمن يراقب المصعد من هذا الموقع الساكن لا توجد قوة خيالية تزيد من ثقل الجسم كما هي الحال لمن يرصد ما يحدث من داخل المصعد، بل هناك قوة حقيقية تدفع بالجسم ليتسارع مع المصعد إلى أعلى. أمر مشابه يحدث عندما نجلس في سيارة تسير بسرعة على منحنى، عندها نشعر بأن هناك قوة تدفعنا عن مركز الدوران، نسميها عادة القوة الطاردة عن المركز.

هذه القوة هي أيضا قوة خيالية بالنسبة لراكب السيارة لأنه ليس لها مصدر واضح. نحن في الحقيقة نشعر بهذه القوة لأن السيارة عندما تدور في منحنى تغير من اتجاه سرعتها مما يجعلها تخرق شروط قانون نيوتن الأول.

ما يحدث في الحقيقة من نقطة مراقب خارجي ساكن (أي من إطار مرجعي قصوري) هو أن السيارة تدفع بنا نحو المركز لتغيّر من اتجاه حركتنا خلال دورانها على المنحنى.

الأُطر المرجعية القصورية هي أطر تسير بسرعة واتجاه ثابتين، ونتيجة لهذا لا يوجد بها قوى خيالية (ذات مصدر غير معروف مثل القوة الطاردة عن المركز) بل تصحّ بها قوانين الطبيعة من غير الحاجة إلى أية إضافة.

2. تمدد الزمن: برهان بسيط

لنفرض أن الفيزيائية سعاد تقوم بتجربة قياس سرعة الضوء من على متن قطار يسير بسرعة ثابتة، v، بواسطة مصدر ضوء وجهاز قياس دقيق. تضع سعاد مصدر الضوء على أرضية القطار وتوجهه إلى أعلى (كما يبين الرسم المرفق)، وتضع على بعد L منه جهاز القياس لتسجل بواسطته الزمن، t، الذي يستغرق الضوء للوصول من مصدر الضوء إلى جهاز القياس، وهو الزمن الذي يستغرقه لقطع المسافة L. لنفرض أن سرعة الضوء هي c، لذلك تكون المسافة التي يقطعها الضوء بالنسبة لسعاد مساوية لمحصلة ضرب سرعته في الزمن، أي L=ct، وهو ما يبينه القسم الأسفل اليساري من الرسم المرفق.

لنفكر الآن ما الذي تراه سلمى، زميلَةُ سعاد، التي تقف ساكنة على الرصيف وهي تراقب نفس التجربة . فهي ترى جهاز القياس يتحرك مع القطار تجاه اليمين، أي بالنسبة لها تكون المسافة التي يقطعها الضوء من مصدره حتى يصل إلى جهاز القياس أطول، كما يظهر في القسم الأسفل اليميني من الرسم المرفق.

لكن إذا كانت سرعة الضوء بالنسبة لسعاد وسلمى هي نفسها كيف نستطيع تفسير الفرق بينهما في قياس المسافة؟ الإجابة الوحيدة الممكنة على هذا السؤال هي أن الزمن الذي يأخذه الضوء للوصول من المصدر إلى جهاز القياس بالنسبة لسعاد يختلف عن الزمن الذي يأخذه بالنسبة لسلمى.

أي أن t يختلف عن ‘ t (نستطيع أن نبين بسهولة عن طريق المعادلة التي تظهر في القسم اليميني الأسفل من الرسم، وتعويض قيمة L من المعادلة التي تظهر في القسم اليساري الأسفل بأن t^’=t/√(1-v^2/c^2 )).

وهذه النتيجة مذهلة فهي تعني أن الزمن يتحرك بوتيرة مختلفة بالنسبة لسعاد عمّا هو عنه بالنسبة لسلمى. العكس صحيح أيضا أي أن سلمى هي التي تتحرك بالنسبة لسعاد وما حسبناه يبين أن وتيرة مرور الزمن في مجموعة سعاد الساكنة بالنسبة لها (القطار لا يتحرك نسبة لمن بداخله) هي أسرع نسبة لما تقيسه سلمى. وبالتحديد ترى سلمى التي تتحرك بالنسبة للقطار بأن وتيرة الساعة في القطار أبطأ من وتيرة ساعتها. إذن ظاهرة تمدد الزمن هي النتيجة الأولى لقانون ثبات سرعة الضوء في الفراغ.


  • إعداد: البروفيسور سليم زاروبي.
  • تحرير: محمد سمور.