إذا سنحت لكم فرصة التخييم في مكان مثل حديقة آرتشز الوطنية في الولايات المتحدة، أو بودمين مور في المملكة المتحدة، أو غيرها من الحدائق الليلية المعتمة، فلا تفوتوا تلك الفرصة، لأنكم قد تشهدون أحد أروع المناظر في سماء الليل. تقدم هذه المناطق في الطقس المناسب فرصةً مميزة لرؤية مجرة درب التبانة، موطن مليارات الأنظمة الشمسية ومنها نظامنا، إذ تظهر في كبد السماء بشكل شريط ضبابي بلون أبيض حليبي يشبه سحابة كبيرة براقة.

في الواقع، كل النجوم التي يمكننا رؤيتها بالعين المجردة تتبع مجرة درب التبانة. يرجع اسم درب التبانة إلى الاسم اللاتيني «فايا لاكتيا» (via lacteal)، المأخوذ من المصطلح اليوناني «جالاكسياس كيكلوس» (galaxias kyklos)، الذي يعني حرفيًّا الدائرة اللبنية.

تُخبئ مجرة درب التبانة العديد من ألغاز الكون ضمن امتدادها الذي يبلغ نحو 10,0000 سنة ضوئية في الفضاء.

ما المجرة؟

يجب أن نستوعب مفهوم المجرة قبل أن نغوص في تفاصيل مجرة درب التبانة. كان الفلكي الفرنسي تشارلز ميسييه أول من ميز المجرات وصنفها في القرن السابع عشر، لكنه لم يعرف ماهيتها آنذاك.

حتى القرن التاسع عشر، كان يشار إلى المجرات بوصفها سدمًا حلزونية الشكل، حتى أدرك عالم الفلك إدوين هابل عام 1923 أن سديم أندروميدا الحلزوني هو مجرة في الواقع، وأن مجرة درب التبانة واحدة من عدة مجرات في الكون.

نعرف اليوم أن المجرات كيانات كونية شاسعة، أكبر من السدم، مكونة من عدد لا يُحصى من النجوم التي تربطها قوى الجاذبية. إن قسمًا كبيرًا من المجرة فضاء فارغ فحسب، إذ يبلغ متوسط المسافة بين كل نجم وآخر خمسة ملايين سنة ضوئية.

تختلف المجرات عن بعضها اختلافًا كبيرًا في الحجم والشكل والكتلة، لكنها غالبًا تصنف في أشكال رئيسية، كالحلزوني والحلزوني الضلعي والإهليلجي وغيرها.

رغم صعوبة تحديد عمرها بدقة، فإن معظم المجرات تبلغ من العمر مليارات السنين، وتحتوي معظمها على ثقب أسود في مركزها.

فهم مجرة درب التبانة

إن مجرة درب التبانة مجرة حلزونية ضلعية هائلة، ما يعني أن القسم الأكبر منها مسطح، ولها عدة أذرع تخرج بشكل حلزوني من ضلع مركزي من النجوم.

من المنطقي أن نتساءل عن كيفية معرفتنا شكل مجرة درب التبانة ونحن داخلها. يجيب عالم الفلك الراديوي ألستر غان: «مع عدم قدرتنا على رؤية الشكل الحلزوني لمجرتنا، فإن لدينا ما يكفي من الدلائل التي تشير إليه».

الدليل الأول وجود تراكيز عالية من النجوم على امتداد مستوى واحد، ما يوحي بشكل يشبه القرص إذا نظرت إليه من حافته. يبلغ هذا التركيز النجمي أوجه في كوكبة الرامي ما يجعلها تبدو كالانتفاخ المركزي للمجرات الأخرى.

الدليل الثاني أن نجوم المجرة تتبع نمط حركة دورانيًّا، مشابهًا للأنماط الملحوظة في المجرات الحلزونية.

الدليل الثالث أنه عند قياس المسافات بين نجوم المجرة، يظهر بوضوح أنها تتركز على مسار حلزوني.

من الصعب تحديد عدد النجوم في مجرة درب التبانة، رغم استخدام الباحثين عدة أنماط لتقديره، تتضمن حساب عدد النجوم في رقعة صغيرة واستقراء العدد الكلي منه، أو تقدير كتلة المجرة وتوقع عدد النجوم اللازم للحصول على تلك الكتلة، تختلف الإجابات اعتماد ًاعلى الكتلة الوسطية المتوقعة للنجم، لكن يتراوح الرقم عمومًا بين 100 و400 مليار نجم.

ظن علماء الفلك أن مجرة درب التبانة تضم الكون بأسره، إلى أن أعلن إدوين هابل عام 1924 أن سديم أندروميدا الحلزوني هو في الواقع مجرة.

توجد العديد من المجرات الصغرى قرب مجرة درب التبانة، أما أندروميدا -تعرف أيضًا باسم ميسييه31 أو (M31)- فهي أقرب المجرات الكبيرة إليها. تمامًا كما تملك شمسنا كواكب تدور حولها، تملك كلتا المجرتين مجرات تابعة تدور حوله كل منهما. تشكل المجرتان مع مجراتهما التابعة جزءًا من مجموعة من المجرات تُسمى «المجموعة المحلية».

تقع جميع مجرات المجموعة المحلية ضمن مسافة تقارب خمسة ملايين سنة ضوئية من مجرتنا. تتضمن المجموعة المحلية إضافةً إلى مجرة درب التبانة وأندروميدا، مجرة المثلث الأصغر حجمًا، ونحو 50 مجرة قزمة.

وقد اكتُشف أن المجموعة المحلية جزء من عنقود ضخم من المجرات يُعرف بعنقود مجرات العذراء العظيم، الذي يحتوي على الأقل 100 مجموعة مجرية، وعنقود ويبلغ امتداده نحو عشرة أضعاف قطر المجموعة المحلية.

لنلق نظرة إلى بعض الحقائق المشوقة عن مجرة درب التبانة، إن مجرة درب التبانة ليست مسطحة في الواقع.

انحناء في المجرة الحلزونية (ESO 510-613)

انحناء في المجرة الحلزونية (ESO 510-613)

إن اعتبار مجرة درب التبانة مجرد قرص مسطح تبسيط كبير. إذ أدرك الباحثون منذ منتصف القرن العشرين أنها منحنية بشكل مشابه لرقاقة بطاطس «برينغلز»، وأظهر بحث لاحق أن سمة الانحناء هذه شائعة في المجرات الحلزونية الأخرى.

اقترحت دراسة أن هذه الظاهرة قد تكون ناتجة من المجرات التابعة، تحديدًا مجرتي سحابة ماجلان الكبرى والصغرى، وهما مجرتان قزمتان يدوران حول مجرة درب التبانة.

يفترض الباحثون أن هاتين المجرتين القزمتين ربما تجذبان المادة المظلمة في مجرتنا، ما يخلف أثرًا كالأثر الذي تتركه السفينة في الماء، ما يقوي تأثير جاذبية المجرتين القزمتين على قرص مجرتنا ويسبب انحناءه.

مجرة درب التبانة تبتلع مجرات أخرى

إن اندماج المجرات حدث شائع، وتشير الأبحاث إلى أن 5 – 25% من المجرات تخضع لاندماج في وقت ما. إن مجرة درب التبانة نتاج اندماجات سابقة، وبعد مليارات السنين ستندمج مجرة درب التبانة مع مجرة أندروميدا لتشكلا مجرة واحدة ضخمة.

اكتشف الباحثون بدراسة بيانات مقياس التداخل الفلكي العالمي للفيزياء الفلكية «غايا» وجود مجموعتين مختلفتين من النجوم في مجرة درب التبانة.

تتكون المجموعة الأولى من النجوم الأكثر حُمرة التي يُظن أنها تكونت في مجرة أكبر غنية بالمعادن، والمجموعة الثانية هي النجوم الأكثر زُرقة التي ربما نشأت من مجرة أصغر فقيرة بالمعادن.

قد يدل ذلك أن مجرة درب التبانة تشكلت بعد أن التهمت مجرة أصغر يُشار إليها باسم غايا إنسيلادوس. حتى وقتنا الحاضر، تجذب مجرة درب التبانة نجومًا من مجرتي كانيس ماجور وساجيتاريوس القزمتين، وهما أقرب مجرتين إليها، وستكون مجرتا سحابة ماجلان الكبرى والصغرى الوجبة التالية لمجرة درب التبانة.

تتكون مجرتنا من فقاعات كونية غامضة

فقاعة أشعة غاما في مركز مجرة درب التبانة

فقاعة أشعة غاما في مركز مجرة درب التبانة

أُطلق مرصد فيرمي الفضائي لأشعة غاما إلى الفضاء في يونيو 2008 لرصد أشعة غاما. عام 2010، ساعدت ملاحظات المرصد على الكشف عن هياكل كروية ضخمة مجهولة من الغاز، وحقول مغناطيسية تنبثق من مركز مجرة درب التبانة.

امتدت هذه الهياكل مسافة 25000 سنة ضوئية فوق مستوى المجرة وتحتها، ما اصطُلح على تسميته فقاعة فيرمي.

اقترحت دراسة أن الفقاعات ربما تكونت من انطلاق كميات هائلة من الطاقة من الرامي-أ، الثقب الأسود في مركز المجرة.

يقترح علماء الفلك أن عمر الكون 14 مليار سنة، أما عمر مجرة درب التبانة فنحو 13.6 مليار سنة، ما يجعلها إحدى أقدم المجرات في الكون.

تتحرك مجرة درب التبانة باستمرار، بسرعة تبلغ نحو 208 كيلومترات في الثانية، حاملةً مليارات النجوم والكواكب.

يزداد فهمنا لأصل مجرة درب التبانة وتركيبتها يومًا بعد يوم، رغم ضخامتها واحتوائها الكثير من الألغاز.

اقرأ أيضًا:

الكشف عن أكثر الأماكن احتماليةً للعثور على حضارة فضائية في مجرة درب التبانة

الكشف عن أكثر الأماكن احتماليةً للعثور على حضارة فضائية في مجرة درب التبانة

ترجمة: إيهاب عيسى

تدقيق: تسبيح علي

المصدر