الصفر ليس بكلمة عادية، ولكن لها العديد من الأبعاد الفلسفية والفيزيائية والرياضية، ولم يكتسب الصفر قيمته في الفيزياء، حتى تم التوصل إلى مفهوم “الصفر المُطلق”.

في عاصمة النور باريس، وفي القرن 19، وفي معمل صغير يملكه العالم الفرنسي (جاي لوساك)، كانت هناك بالونة مملوءة بالغاز، وكلما اقتربت هذه البالونة من مصدر حراري، ازداد حجمها، وعند ابتعادها عن هذا المصدر، قل حجمها، إنه لأمر مثير للاهتمام، ما الذي جعل البالونة تزداد في الحجم أو تنقص في الحجم، هل هذا له علاقة بتركيب البالونة نفسها؟ أم أن له علاقة بمحتوى البالونة من الغازات؟.

عندها أحضر جاي لوساك أكثر من بالونة، وملأ كل منها بنوع غاز مختلف عن الأخرى، وعرّضهم جميعًا لدرجة حرارة واحدة، فلاحظ أن كل البالونات تزداد في الحجم بنفس القيمة، دون النظر لنوع الغاز الذي يملأ البالونة.

فاستنتج «جاي لوساك« قانونًا فيزائيًا يوضح لنا سلوك الغازات، وهو ” عند ثبات الضغط الخارجي فإن حجم الغاز يتناسب طرديًا  مع درجة حرارته، وأنه كلما زادت درجة حرارة الغاز بمقدار ثابت كلما ازداد حجمه ايضًا بمقدار ثابت و العكس صحيح “.

لكن لماذا الغازات فقط هي من اختصها هذا القانون؟

بسبب المسافات البينية الشاسعة بين جزئيات الغاز، مما يكسبها حرية حركة أكبر بكثير من مثيلتها في المواد الصلبة أو السائلة، التي ما إن حاول أي جزيء بها أن يتحرك حتى يصطدم بجزيء آخر قريب منه.

كل ما سبق كان يتمحور حول عملية تسخين الغازات، لكن ماذا عن تبريدها؟

بالبداية دعنا نتعرف عن ما الذي تُمثله درجة الحرارة، فحسب العالم النمساوي»إيدوارد بولتزمان « ، فإنَّ درجة الحرارة هي مُعدل الطاقة الحركية للجُسيمات المكونة للمادة المُراد قياس درجة حرارتها، و كلما كانت حركتها أكبر، كانت حرارتها أشد.

عند تبريد الغازات، ينكمش حجمها ويقل، ولكن إذا واصلنا التبريد، هل سيظل حجم الغاز ينكمش وينكمش، حتى يتلاشى ويصبح صفرًا؟، ولكن ماذا لو استمرت عملية التبريد؟، هل سيتحول حجم الغاز للقيمة السالبة؟، بالتأكيد إنها أمور غير مقبولة، وغير منطقية، فالعلماء أقرّوا بأن هناك نقطة ما، يقرر فيه الغاز الهروب من حالة الانتحار تلك، ويتحول للمادة السائلة، وأطلقوا عليها اسم» الصفر المُطلق «.

الصفر المُطلق هو درجة  273.15- درجة سيلزيوس،  و الذي يوافق درجة حرارة أبرد جسم على الإطلاق، حيث لا برودة أشد منه.

فكما للسرعة حد أقصى لايُمكن للجسيمات اختراقها وهي سرعة الضوء، للحرارة أيضًا حدٌ أدنى من المستحيل اختراقه.

لم يقترب العلماء من هذا التفسير إلا في نهايات القرن الثامن عشر، بفضل أعمال الأمريكي»بينجمان طومسون «، حيث كان مُصطلح البرودة قبل ذلك بمثابة مادة عديمة الوزن تُكتسب من الهواء كما شرحها  »لافوازيه«.

كما قام كيلفن في القرن التاسع عشر بحساب أبرد نقطة يُمكن للجسم بلوغها، وأعطاها قيمة 50 درجة كيلفن، ويوافق الصفر المطلق أصغر كمية حركة مُمكنة للجزيئات داخل المادة حيث من المستحيل الوصول لمستوى أدنى منها.

مُسبقًا، تنبأ العلماء بوجود الصفر المطلق نظريًا، أمّا بعد نشأة الفيزياء الحديثة (الكمية) اتَّضح أنّ بلوغه مستحيل عمليًا، و أنه لا يوجد حالة سكون مُطلق للجزيئات، بل  إنها تكون في أدنى حالة حركة فقط، ذلك لأنه ليس بوسعنا تثبيط الجُسيمات في المجال الكمومي.

فحسب مبدأ هايزنبرغ للَّايقين، لا يُمكن تحديد سرعة ومكان جُسيم بدقة في نفس الوقت، لذلك لا يصح اعتبار كمية الحركة وموقع الجزيئات الغاز معدومان من أجل حساب درجة حرارة جسم.

حاول العلماء منذ اكتشافه الاقتراب منه أكثر، فكان العالم» مايكل فاراداي «أول من لاحظ تميّع غاز الكلور عند بلوغ درجات حرارة منخفضة، ليفتح مجال المنافسة بين العلماء من أجل تمييع المزيد من الغازات، والغوص في مجال البرودة، لتسجيل أرقام قياسية جديدة ابتداءًا بتمييع الأمونياك، مرورًا بالأكسجين، والآزوت، والهيدروجين، وصولًا إلى الهيليوم ثم نظيره الذي يتميع في حوالي ثلاث درجات فقط فوق الصفر المطلق.

كل هذا سمح باكتشاف خاصّيّة»  التوصيل الفائق « عام 1911، التي فتحت الأبواب بدورها لتطبيقات لا تُحصى في مجال الطب والنقل والإلكترونيات والفضاء، ولا يزال التسابق مفتوحاً، حيث تمكن علماء مختبر LNGS الإيطالي سنة 2014 من تحطيم الرقم القياسي بتبريد إناء بسعة 1 متر مكعب إلى درجة 0,006K لمدة أسبوعين، ليكون خلالهما أبرد جسم في الكون، و تبعته أعمال فيزيائيِّي MIT سنة 2015،  بتبريد جُسيمات غازية إلى حوالي 500 نانو كلفين؛ لاستكشاف خصائص جديدة للمادة.

إليك بعض الأرقام التي قد تثير انتباهك:

درجة حرارة جسم الإنسان:~ 310 كلفين

أبرد درجة حرارة يبلغها الجو: 184.0 K في القطب المتجمد الجنوبي

درجة حرارة الكون:2.73 K

درجة حرارة أبرد مكان في الكون طبيعيًا: 1K :Boomerang Nebula


المصدر الأول

المصدر الثاني

المصدر الثالث