يُعد الفيلسوف والرياضي رينيه ديكارت أبا الفلسفة الحديثة لتعريفه نقطة بدء الوجود؛ إذ تتلخص بالعبارة الآتية: «أنا أفكر، إذن أنا موجود».

من هو رينيه ديكارت ؟

كان رينيه ديكارت متعلمًا إلى حدٍ كبير، إذ بدأ بالدراسة في الكلية اليسوعية في عمر الثامنة، ثم حاز شهادة المحاماة في عمر الثانية والعشرين، لكن أحد معلميه -تأثر به رينيه بشدة- وضعه على المسار الصحيح ليستخدم علم الحساب والمنطق من أجل فهم العالم الطبيعي. دمجت هذه المقاربة التفكير والتأمل بطبيعة الوجود والمعرفة بذاتها؛ وبذلك خرج رينيه بملاحظته الأولى الأكثر شهرةً: «أنا أفكر، إذن أنا موجود».

حياته الباكرة

وُلِد ديكارت في الحادي والثلاثين من مارس عام 1596 في لا هاي إن تورين؛ بلدة صغيرة في وسط فرنسا، وقد أُعيدت تسميتها تيمنًا باسم ابنها المشهور تكريمًا له. كان ديكارت أصغر ثلاثة إخوة، وقد توفيت أمه جان بروكارد وهو في عامه الأول. أرسل والد ديكارت؛ يواكيم –عضو مجلس في البرلمان الإقليمي- الأطفال الثلاثة إلى جدتهم لأمهم حيث بقوا هناك حتى بعد زواج والدهم بعد عدة سنوات، لكن الوالد كان مهتمًا جدًا بحصول أولاده على تعليم جيد، لذلك أرسل رينيه في عمر الثامنة إلى مدرسة داخلية في كلية هنري الرابع اليسوعية في لا فليش –التي تبعد عدة أميال إلى الشمال- لسبع سنوات.

مع أن ديكارت كان طالبًا جيدًا، لكن كان يُعتقَد أنه مريض بسبب عدم إلزامه التقيد بجدول المدرسة الدراسي الصارم؛ وبدلًا من ذلك سُمِح له أن يرتاح في سريره حتى منتصف النهار.

رينيه ديكارت.. حياته وفلسفته - الفيلسوف والرياضي رينيه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة - البلاغة والمنطق والفنون الحسابية - الفلسفة الطبيعية وعلم الأخلاق

درس ديكارت مواد أعدته وحضرته جيدًا لمستقبله كفيلسوف، مثل البلاغة والمنطق والفنون الحسابية التي تضمنت الموسيقى وعلم الفلك، إضافةً إلى الميتافيزيقيا (علم ما وراء الطبيعة) والفلسفة الطبيعية وعلم الأخلاق. وقضى أيضًا أربع سنوات لنيل شهادة المحاماة من جامعة بواتييه. يُخمن بعض الباحثين أن ديكارت ربما عانى انهيارًا عصبيًّا خلال تلك الفترة.

أضاف ديكارت لاحقًا مواد اللاهوت والطب إلى جدول دراسته، لكنه تجنب كل ذلك مقررًا «أنه لن يسعى وراء معرفة ما لم يجدها في نفسه أو في كتاب العالم العظيم». لاحقًا بفترة طويلة ألف ديكارت كتاب «حوار في طريقة التوجيه والإرشاد الصحيح للعقل والبحث عن الحقيقة في العلوم»، ونشره عام 1637.

سافر ديكارت أيضًا، وانضم إلى الجيش لفترة وجيزة، ورأى بعض المعارك وتعرَف على العالم والفيلسوف الهولندي إسحاق بيكمان الذي سيصبح معلمًا ذو تأثير كبير بالنسبة لديكارت. بعد سنة من التخرج في جامعة بواتييه، نسب ديكارت الفضل في تحديد مسار دراسته لبقية حياته إلى ثلاثة أحلام أو رؤى شديدة وبليغة جدًا.

رينيه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة

يُعَد ديكارت -عند الكثيرين- أبا الفلسفة الحديثة بسبب أفكاره التي خرجت عن الفهم الدارج والمتداول في بداية القرن السابع عشر، والذي كان يرتكز على المشاعر. في حين لم تكن عناصر فلسفته جديدةً بالكامل، كانت مقاربته ومنهجيته بالنسبة لهذه العناصر كذلك. آمن ديكارت إيمانًا أساسيًا بإزالة كل ما في العقل من أفكار مسبقة أو موروثة والبدء من جديد، ومراجعة الأشياء اليقينية والمؤكدة -التي بدأت بالنسبة له بتصريحه: «أنا موجود»- واحدةً تلو الأخرى. وانبثق من ذلك أكثر أقواله شهرةً: «أنا أفكر، إذن أنا موجود».

سعى ديكارت -منذ أن آمن أن كل الحقائق متصلة جوهريًا- إلى كشف الغطاء عن معنى العالم الطبيعي بطريقة منطقية بواسطة العلوم والحساب، الأمر الذي يُرَى بطريقة ما توسعًا في منهج سير فرانسيس بيكون الذي أكد عليه في إنجلترا قبل عدة عقود.

إضافةً إلى كتابه «حوار في الطريقة»، نشر ديكارت -من بين أطروحات أخرى أيضًا- أطروحة بعنوان «تأمل في الفلسفة» و«مبادئ الفلسفة».

مع أن ديكارت يُعد فيلسوفًا -في الغالب- في القرن العشرين وما بعده، فهو لم يكن كذلك سابقًا، فقد دعت أبحاثه في الفيزياء النظرية الكثير من الباحثين لعدّه عالم رياضيات؛ فقد ابتكر الهندسة الديكارتية التي شملت الجبر، وبواسطة قوانين الانعكاس طور فهمًا يستند على التجريب لأقواس قزح؛ واقترح تفسيرًا طبيعيًا لتشكّل النظام الشمسي. وقد اضطر إلى إخفاء الكثير من تلك الأمور بسبب ما لقيه غاليليو على أيدي محاكم التفتيش، وقد كان حدسه في محله؛ إذ أضاف ألكساندر السابع، بابا الفاتيكان لاحقًا أعمال ديكارت إلى قائمة الكتب المحرمة والممنوعة.

حياته اللاحقة ووفاته وإرثه

لم يتزوج ديكارت قط، لكن كان لديه ابنة وُلِدَت في هولندا عام 1635 تُدعى فرانسيس، إذ انتقل ديكارت إلى هولندا عام 1628 لأن الحياة في فرنسا صاخبة ونشطة جدًا بالنسبة له للتركيز على عمله، ووالدة ابنته فرانسيس هي خادمة في المنزل الذي كان يعيش فيه.

خطط ديكارت إلى تعليم الطفلة الصغيرة في فرنسا ورتب لها أن تعيش مع أقاربهم، لكنها ماتت بسبب الحمى في عمر الخامسة.

عاش ديكارت في هولندا لأكثر من 20 سنة، لكنه مات في مدينة استوكهولم في السويد في الحادي عشر من فبراير عام 1650، التي انتقل إليها قبل أقل من سنة على وفاته بطلب من الملكة كريستينا ليكون معلمها في الفلسفة.

صاحبته صحته الهشة التي أُثبِتت في حياته الباكرة، وكالعادة قضى فترات الصباح في فراشه، إذ استمر بإجلال أحلامه وقد جمعها مع منهجياته النشيطة في تأمل واعٍ، لكن إصرار الملكة على بدء الدروس في الساعة الخامسة صباحًا جعله يُصَاب بالتهاب رئوي لم يتعاف منه، وتوفي بعمر الثالثة والخمسين.

كانت السويد دولةً بروتستانتيةً، ولذلك دُفِنَ ديكارت -الذي كان كاثوليكيًا- في مقبرة معدة للأطفال غير المُعَمَدِين. نُقِل رفاته لاحقًا إلى دير سانت جيرمان دو بريس، الكنيسة الأقدم في باريس، ثم نُقِل مجددًا خلال الثورة الفرنسية وأُعيدَ لاحقًا، مع أن الأسطورة تقول أن قلبه فقط موجود هناك وبقية جسده مدفون في البانثيون.

انقلب منهج ديكارت القائم على جمع الرياضيات والمنطق مع الفلسفة لتفسير العالم الفيزيائي -المادي- ليصبح غيبيًا ميتافيزيقيًا عندما طُرِحت عليه أسئلة اللاهوت؛ إذ قاده إلى التفكير والتأمل بطبيعة الوجود وثنائية الجسد والعقل محددًا بذلك الغدة الصنوبرية نقطة اتصال الجسد مع الروح. قاده هذا الجمع أيضًا إلى تعريف فكرة الثنائية -الازدواجية- على أنها اجتماع المادة وغير المادة.

ولأن نظامه الفلسفي السابق قد أعطى الإنسان الأدوات لتعريف المعرفة وتحديدها بما هو صحيح، فإن هذا المفهوم أدى إلى جدل ونقاش. لحسن الحظ، فإن ديكارت نفسه قد اخترع أيضًا الشك المنهجي أو الشك الديكارتي، وبهذا فقد جعلنا جميعًا فلاسفة.

اقرأ أيضًا:

أصول اللغة البشرية تعود إلى 25 مليون سنة!

ما هي الوجودية ؟

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: رزوق النجار

المصدر