مع وجود 4.1 مليون حالة مؤكدة و81 ألف حالة وفاة حول العالم حتى كتابة هذه السطور، أصبحت جائحة فيروس كورونا مأساة عالمية لا مثيل لها في حياتنا، لكن يذكرنا المؤرخون بأن هذه ليست الجائحة الأشد فتكًا، ولا المعركة الأولى للبشر مع مرض مُعد. سنة 1918 أي قبل قرن من الزمان، اجتاح وباء الإنفلونزا العالم، وسبب مقتل نحو 100 مليون شخص -أي نحو %5 من عدد سكان العالم- قبل أن يساعد التباعد الاجتماعي على الحد من انتشاره.

وفي أواخر القرن الثامن عشر اجتاح الجدري الغرب الأمريكي وفتك بمجتمعات السكان الأصليين، بمعدل وفيات %38 من الحالات أو أكثر، ما أدى إلى تطوير أول لقاح في العالم بعد أقل من عقدين من الزمن.

جلبت فاشيات أخرى -مثل الكوليرا في القرن التاسع العشر وفيروس نقص المناعة البشري (الإيدز) في القرن العشرين- كرهًا للأجانب إلى جانب كره المرض، وكشفت أن الخوف واللوم قد يصرفا الانتباه عن الجهود المبذولة لإيجاد علاج.

تقول إليزابيث فين أستاذ التاريخ في جامعة كولورادو بولدر، الكاتبة الحائزة على جائزة بوليتزر وعالمة الأوبئة ومؤلفة كتاب (الجدري الأمريكي: الجائحة العظيمة 1175-1782): «تكشف الأوبئة الصدوع في مجتمعنا، فهي تُبرز نقاط ضعفنا، لكنها أيضًا تُسلط الضوء على قدرتنا على التعامل بلطف وكرم وتعاون من أعماقنا، فنحن نتعلم منها دروسًا كثيرة».

ستة دروس يجب أن نتعلمها من الجائحات الماضية - جائحة فيروس كورونا - التباعد الاجتماعي - الجدري - انفلونزا الطيور - الأوبئة - الإنفلونزا

فيما يلي بعض هذه الدروس:

1- أهمية الأسماء

خلافًا للاعتقاد السابق، لم ينشأ وباء الإنفلونزا الذي انتشر سنة 1918 -والذي يُعرف عادةً باسم الإنفلونزا الإسبانية- في إسبانيا، ويُحتمل أنه بدأ في قاعدة عسكرية في فورت رايلي- كنساس.

تقول سوزان كينت أستاذ التاريخ في جامعة كولورادو بولدر: «نُسب مرض الإنفلونزا الإسبانية إلى إسبانيا من طريق الخطأ، فقط لأن إسبانيا نشرت أول تقارير إخبارية عنه».

كانت إسبانيا محايدةً في الحرب العالمية الأولى، فلم تخضع للتعتيم الإعلامي المرتبط بالحرب، الذي منع الدول المتحاربة مثل ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا من نشر أخبار المرض.

اقترح بعض العلماء أن إطلاق اسم الإنفلونزا الإسبانية ينشر رسالة غير صحيحة، ويمثل من ثم تهديدًا بالعزل والإبعاد، ما أخَّر خطوات مقاومة انتشاره في الولايات المتحدة.

تلاحظ كينت تشابه ذلك مع بعض ما حدث في الوقت الحالي، مثل وصف فيروس كورونا بأسماء مثل (إنفلونزا ووهان) أو (الإنفلونزا الصينية).

2- أهمية التباعد الاجتماعي

انتشر الفيروس سنة 1918 بسرعة من طريق الجنود الأمريكيين المسافرين بين الساحل الشرقي الأمريكي وساحات القتال الأوروبية، حاملين الفيروس معهم.

تقول كينت: «كان ظهور الفيروس في أثناء الحرب وراء كونه مميتًا جدًا، وانتشاره بسرعة في جميع أنحاء العالم، وهذا لا يختلف عما نعيشه اليوم نتيجة العولمة الهائلة».

مع غياب تقنيات التسلسل الوراثي والمجاهر المتطورة الموجودة لدينا اليوم، ظن الباحثون خطأً أن المرض سببه بكتيريا، وفشلت الجهود المبذولة لعلاجه والتطعيم ضده.

ومع عدم وجود أدوات أخرى يُعتمد عليها، أُغلقت المدارس والمسارح والمكتبات في نهاية المطاف، وأُلغيَت الدوريات الرياضية، وعزل القادة العسكريون جنودهم، وارتدى الموظفون الحكوميون الكمامات.

توفي إجمالًا 675 ألف شخص في الولايات المتحدة، أي أكثر من ضحايا الحرب العالمية الثانية من الأمريكيين، وكان من الممكن أن يكون العدد أكبر من ذلك.

قالت كينت: «العزل هو الطريقة الوحيدة لمنع انتشار الفيروس، وقد قامت المجتمعات المحلية بذلك وحققت نتائج جيدة، أما المجتمعات التي لم تفعل فارتفع فيها معدل الوفيات. إنه درس مهم جدًا لنا في هذه الأيام، ومن العار ألا نتعلم منه».

3- الفيروس لا يستثني الشباب

كان احتمال إصابة الشباب والأصحاء بوباء الإنفلونزا سنة 1918 هو الأكبر، وفتك بالأشخاص بعمر 15-45 عامًا، بمعدل وفاة مرتفع وسريع.

تذكر كينت: «مرضوا سريعًا، وتساقط بعضهم حرفيًا في الشوارع»، وتشير إلى أن وجوههم اكتست باللون الأزرق بسبب نقص الأكسجين.

اتضح أن السبب كان أجهزة المناعة القوية لدى الشباب، إذ أطلقت سيلًا من جزيئات مضادة للفيروس تُسمى سيتوكينات، التي تلتصق بأنسجة الرئة فتسبب أضرارًا قاتلة.

تختلف الخصائص السكانية لفيروس كورونا، فهو يصيب كبار السن وضعاف المناعة، لكن سلوكه في الشباب والأصحاء يشبه سلوك الفيروس القديم بدرجة مثيرة للقلق. تشير التقارير الأخيرة إلى أن السبب المحتمل للأضرار الجانبية التي تحدث في الشباب هو الاستجابة المناعية التي تُسمى (عاصفة السيتوكين).

وتشير كينت: «حدث نفس الشيء سنة 1918، فجهاز المناعة القوي قضى على الأعضاء الأخرى في الجسم، خاصةً الرئتين». قد يقودنا ذلك إلى طرق جديدة للتفكير في علاجات كوفيد-19.

4- أهمية التلقيح

اعتمد الجنود المشاركون في حرب الاستقلال الأمريكية نهجًا غير عادي للوقاية من فيروس الجدري في أثناء الوباء الذي اجتاح أمريكا الشمالية في الفترة 1775 – 1782، وعُرفت عملية الحماية باسم التجدير أو التطعيم، إذ كانوا يأخذون مادة محملة بالفيروس من بثرة شخص مصاب بالجدري، ويفتحون شقًا في جسم الشخص السليم ويفركونه بداخله!

عُزل جميع من تعرضوا للتطعيم بعد أن أصابهم المرض، وتوفي منهم نحو %5، وأصيب الباقون بنسخة مخففة من مرض الجدري.

تقول فين: «لا شك أن التطعيم كان ناجحًا، إذ اكتسب من تلقوه مناعةً ضد المرض، وأصبح بوسعهم السفر حول العالم دون قلق بشأن الجدري».

وبعد سنوات، سنة 1796 حاول إدوارد جينر (الذي طُعِّم عندما كان صغيرًا)، فعل الشيء نفسه مع جدري البقر، إذ أخذ مادة محملة بالفيروس من امرأة مصابة بجدري البقر وفركها في جرح صبي عمره 8 سنوات، وبتعريض الصبي للإصابة بالجدري لم يتطور لديه المرض.

وُلِد حينها مفهوم التطعيم(vaccination) ، إذ اشتُق الاسم من الكلمة اللاتينية (vacca) التي تعني البقرة.

وبالعودة إلى عصرنا الحالي، نجد أننا نستخدم الفكرة ذاتها، إذ يحاول العلماء استخدام فكرة (بلازما النقاهة)، أي استخدام دم الناجين من المرض، المحتوي على الأجسام المضادة بوصفه علاجًا.

5- لا تلوم المرضى

مع انتشار فيروس كورونا، جاءت موجة من ردود الفعل المعادية لآسيا حول العالم، مدفوعة جزئيًا بحقيقة أن المرض ظهر في مدينة ووهان الصينية، واجتاح السكان الصينيين أولًا.

وهذا ليس شيئًا جديدًا، إذ تقول فين: «نحن معرضون كثيرًا لإلقاء اللوم على المرضى، وقد حدث ذلك كثيرًا عبر التاريخ».

في أثناء وباء الكوليرا في القرن التاسع عشر، تجنب البروتستانت البيض المهاجرين الأيرلنديين وعدوهم ناقلين لهذه الآفة، وكذلك استُهدف الأمريكيون الأفارقة والفقراء مع اجتياح شلل الأطفال للأمة في منتصف القرن العشرين، وفي أواخر القرن العشرين تركز اللوم على مجتمع المثليين والمتحولين جنسيًا واتُهموا بنشر فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز).

وتقول فين: «في حين انشغل الناس بإلقاء اللوم على المثليين جنسيًا في حالة الإيدز، ضاعت سنوات ثمينة كان من الممكن استغلالها بحثًا عن مُسبب المرض».

وعلى النقيض من ذلك، أعلنت منظمة الصحة العالمية سنة 1980 أن الجدري هو أول مرض مُعد للبشر يتم القضاء عليه. وقد تحقق ذلك عبر التعاون.

تقول كينت: «يمكننا اليوم أن نتعلم ونتصرف بناءً على حقيقة أن التعاون العالمي وتبادل المعرفة سيساعداننا على التعامل مع هذه الفاشيات، أو أن نختلي بأنفسنا ونصر على المضي في تجربة المرض وحدنا».

6- كل هذا سينتهي

وفقًا لكينت، فإن فيروس كورونا بقدر ما هو مروع، لن تبلغ عدد الوفيات الناتجة عنه مستويات وباء 1918، لأن أنظمتنا الصحية العامة وأدواتنا العلمية وإمداداتنا الطبية (رغم ما فيها من نقص) أفضل بكثير.

وتضيف فين: «مقارنةً بالأوبئة السابقة، لدينا أيضًا الخبرات السابقة في التعامل مع مثل هذه الأوبئة».

للمرة الأولى في وباء على هذا النطاق الواسع، نعرف منذ البداية ما هو العامل المسبب للمرض.

لا شك أن الأشهر القادمة ستكون صعبة، لكن مع العزل الاجتماعي، وبناء مناعة القطيع، والتعاون الجاري لتطوير العلاجات واللقاح، بوسعنا أن نكون متفائلين.

كل ما نحتاج إليه الآن هو الوقت. تقول فين: «أقترح أن الآن هو الوقت المناسب لنا لننتبه ونتعلم مما يكشفه هذا المرض عنا، حتى نتمكن من المضي قدمًا بهذه المعرفة».

اقرأ أيضًا:

فيروس كورونا أرض خصبة لنظريات المؤامرة، فهل هي صحيحة؟

ما الفرق بين الجائحة والوباء والفاشية

ترجمة: يمام نضال دالي

تدقيق: رزوق النجار

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر