كثيراً ما نسمع عبارة: ” ماذا لو كان التطور صحيحا؟، لماذا لا نرى التطور يحدث”، وفي الحقيقة، أن التطور يحدث، وقد رأيناه بأعيننا في كثيرٍ من الكائنات، وفي هذه السلسلة سنتطرق لبعض حالات التطور التي رأيناها.

وفي البداية ينبغي توضيح أمرين، هما: أولًا، ليكون النوعان مختلفان عن بعضهما، يجب أن يختلفا في المحتوى الجيني، ولا يحدث تزاوجٌ بينهما, مثلًا: القطط لا تتزاوج مع الكلاب، فالقطط والكلاب نوعين مختلفين.

ثانيًا” يبدأ التطور بتغييرٍ بسيطٍ، ومع تراكم تلك التغييرات على مر السنوات، يكون الناتج مختلفًا بنسبةٍ كبيرةٍ جدًا عن سلفه.

1- السلمون الأحمر  (Sockeye Salmon)

منذ فترةٍ ليست بالبعيدة أعلن اندرو هيندري العالم البيولوجي في جامعة ماكجيل بمونتريال, عن نتيجة دراسته المدهشة على سمك السلمون الأحمر, وهي أسماكٌ تميل للتكاثر في التيارات أو على طول شواطئ البحيرة, وعندما ذابت الأنهار الجليدية في العصر الجليدي الأخير, أي منذ حوالي عشرة آلاف سنةٍ مضت، وتركت مكانها آلاف من البحيرات, ترك بعض أسماك السلمون التيارات التي كان يعيش فيها، وسبح ليعيش في هذه البحيرات, وتميل هذه الأسماك الموجودة في تلك البحيرات للتزاوج فيما بينها فضلًا عن الأسماك التي تعيش في التيارات, وحاليا الأسماك التي تعيش في البحيرات، والتي تعيش في التيارات، منفصلين تزاوجيًا، ولا يتكاثرون فيما بينهم, والسؤال هنا، كم السرعة التي استغرقها ذلك للحدوث؟.

لقد تم في الفترة ما بين 1930م و 1940م، نقل أسماك السلمون الأحمر إلى بحيرة واشنطن, وحاليًا هناك مئات الآلاف من السمك المنحدر منهم، يعيش ويتزاوج في نهر سيدار, الذي يغذي تلك البحيرة, وفي عام 1957م، قام بعض السمك المنتقل بالهجرة إلى شاطئ بحيرةٍ تدعى: ( (pleasure point، أو نقطة المتعة, تبعد حوالي أربعة أميالٍ عن مصب نهر سيدار، ويستطيع هيندري أن يخبرنا عما إن كانت سمكةً مكتملة النمو قد ولدت في هذا النهر، أو ولدت على الشاطئ، وانتقلت عن طريق فحص حلقات تدعى: (Otolith)، وهي حلقات تعكس التغيير في المياه، والتيار، ودرجة الحرارة، والجاذبية؛ لأنها تتأثر بهم أثناء مرحلة التكوين الجنيني للسمكة, وتعد درجة الحرارة في البحيرة ثابتةً نسبيًا ما إذا ما قورنت بالحرارة في النهر, وقد قام هيندري و زملاءه بتجميع وفحص الـ (Otolith)، وDNA)) الخاص بالأسماك، ووجدوا أن ثلث الأسماك الموجودة عند بحيرة نقطة المتعة (pleasure point)، قد نشئوا ونضجوا في نهر سيدار، ثم هاجروا إلى البحيرة.

ومع هذا العدد الهائل من الهجرة, يجب أن تتواجد مجموعتان من الأسماك، مختلفتان مخلوطتان معًا عند بحيرة نقطة المتعة, ولكن ذلك لم يتوفر، و وجدوا نوعًا واحدًا, وهذا معناه أن السمك الذي هاجر من النهر لشاطئ البحيرة، فشل نسبيًا في نقل جيناته لنسله.

واستطاع هيندري التمييز بين سلمون البحيرة، وسلمون النهر بكل سهولةٍ بمجرد النظر، فسلمون النهر يستطيع السباحة بسرعةٍ أكبر، والذكور جسمها أنحف، وكانت تتم بينهم المنافسات أو الطقوس التي يقوم فيها الذكي بالسباحة في اتجاه عكس التيار، فكانت تلك المنافسات غير ملائمةٍ للذكور ذات الجسم الدائري, وفي وجود التيار السريع كما في النهر كانت فرصة السمك ذو الجسم النحيل أكبر قدرةً على تمرير جيناته للجيل القادم، أما في المياه الثابتة فكانت أفضل للسلمون ذو الجسم الدائري والعريض، أكثر من سلمون النهر.

وأما عن الإناث في النهر حيث ينتقل الحصى بسبب الدوامات والتيار, فقد قامت بصنع أعشاشٍ عميقةٍ لوضع بيضها؛ لذلك كانت الإناث في النهر أكبر حجمًا من أقرانها في البحيرة؛ لأنه كلما كانت الأنثى أكبر في الحجم، كان باستطاعتها الحفر بشكلٍ أعمق.

ونفهم من هذا أن الذكور والإناث الذين على الشاطئ، والذي أصلهم من النهر، قد تأقلموا مع الحياة في الشاطئ بما يكفي، حتى أنهم لا يتزاوجون من أسلافهم المنحدرين منهم، ويعاد السؤال مرة أخرى، كم استغرق هذا التطور كي يحدث؟.

لقد بدأ هيندري دراسته على السلمون في عام 1992م، عندما كان قد مر على الأسماك الموجودة بالنهر و البحيرة حوالي (30) جيلًا، يقول هيندري وزملاءه: “من الممكن في يومٍ من الأيام أن نعرف الخطوة التالية في أصل الأنواع”.

2- سمك أبو شوكة (Sticklebacks)

ليس سمك السلمون الأحمر فقط هو من هاجر بعد ذوبان الأنهار الجليدية، بل أيضًا نوعٌ من الأسماك يدعى: أبو شوكة (Sticklebacks)، قام بالهجرة من البحر إلى البحيرات الجليدية, لقد كان سمك أبو شوكة في البحر ثقيلًا، وهو يمتلك دعامةً عظميةً قوية، وقد أصبحت خفيفةً في البحيرات, وفي بركة جديدة في بيرغن بالنرويج, وأثناء القرن الماضي, تطور سمك أبو شوكة في حوالي (31) عاماً فقط, وفي بحيرة لوبيرج في ألاسكا, حدث التغيير نفسه خلال عشر سنوات فقط, والجيل بالنسبة لسمك أبو شوكة، حوالي عامين فقط، أي انه استغرق حوالي ستة أجيالٍ فقط, و أوضح دولف سكولتر (Dolph Schluter) العالم البيولوجي بجامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر (University of British Columbia in Vancouver) أنه إلى جانب الصفات الجسدية الجديدة التي ظهرت في سمك أبو شوكة، أظهر أيضًا الميول إلى التزاوج مع الأسماك التي ظهرت بها تلك الصفات الجديدة, وبعبارةٍ أخرى يمكننا أن نقول أن الانتقاء الجنسي يعمل جنبًا إلى جنب مع الانتقاء الطبيعي, وقام سكولتر ببناء بركةٍ في فانكوفر؛ كي يراقب تلك الظاهرة تحت ظروفٍ محكمةٍ, وحدثت نفس نتيجة البحيرات المعزولة، ووجدها في بحيرته التي قام ببنائها، وبذلك يمكن القول إن التطور يمكنه أن يقود التكييف والانعزال الإنجابي.

هناك العديد من التغيرات التطورية التي تأخذ وقتًا مختلفًا على ساعة التطور، وتُذكر هنا تجربة لينسكي، وهي من أسرع التجارب الميكروسكوبية، لرصد التطور قام بها ريتشارد لينسكي (Richard Lenski)، وهو عالمٌ بيولوجيٌ في جامعة ميتشيجن, إذ قام بعمل تجربته على بكتيريا إشريكيا كولاي (Escherichia coli)، إذ يستغرق الجيل بالنسبة لهذه البكتيريا (20) دقيقةً فقط, بالإضافة إلى أن الطبق المعملي يمكنه احتواء مليارٍ من (E.coli), وكانت تلك البكتيريا مناسبةً جدًا للتطور في المعمل, وبنقل بعضٍ منهم على طبقٍ معمليٍ آخر، وتغيير الظروف، والطعام المقدم لهم، تطوروا، وتكيفوا بشكلٍ مختلفٍ عن أسلافهم.


  • ترجمة: أبانوب إسطفانوس
  • تدقيق: رجاء العطاونة
  • تحرير: ندى ياغي
  • المصدر