الجزء الثالث: طاقة العدم ونشوء الكون


طاقة اللاشيء

كما ذكرت في البداية، الهدف الأساسي من هذا المقال هو فحص علاقة نظرية الكم في الكون وتكوينه. ولكن لنرى هذه العلاقة علينا الاطلاع أولا على صفةٍ أخرى من الصفات غير الاعتيادية لنظرية الكم، إلّا وهي صفات الفراغ (vacuum العدم). الفراغ في الفيزياء الكلاسيكية هو مكان خاوي لا يحوي شيئا ولا توجد به أيّ فعالية أو “حياة”، أما في فيزياء الكم فالفراغ يعج بالحياة، و بحالةٍ دائمةٍ من ولادة الأجسام واندثارها على الرغم أنه مبدئيًا خاوٍ تمامًا. أحد أهم صفات الفراغ في فيزياء الكم هي أن له طاقة، ولكن كيف يكون للعدم طاقة؟

لنجيب على هذا السؤال، علينا أن نعود إلى مبدأ اللايقين المتعلق بالطاقة والزمن الذي ذكرناه سابقًا. تسمح نظرية الكم بحسب هذا المبدأ بإنتاج طاقة كبيرة لزمنٍ قصيرٍ جدًا حتى في مكانٍ خاوٍ من أي شيء. لهذا، حتى في الفراغ التام حيث نعتقد أنه لا يوجد شيء، تتأرجح الطاقة في أي نقطة في الفضاء لقيم مختلفة، منها الطفيف جدًا ومنها المرتفع جدًا، بشرط أن يختفي هذا التأرجح خلال وقتٍ قصيرٍ جدًا بحيث يخضع لمبدأ اللايقين. ولكن في اللحظة الذي ينتج هذا التأرجح الكمي طاقة عالية من هذا النوع في مكان ما، تتحول هذه الطاقة بحيث “ينبثق” عنها جسيمين، جسيم وجسيم مضاد (particle and antiparticle) التي تسمى بالجسيمات الافتراضية (virtual particles)، لأنها كما ذكرنا، تنشئان لزمنٍ قصيرٍ جدًا ومن ثَمّ تندثر. يجدر التنويه إلى أنّ الجسيم المضاد يشبه الجسيم في كل شيء ما عدا شحنته الكهربائية المعاكسة تمامًا لشحنة الجسيم (بمعنى شحنة سالبة وموجبة)، وإذا التقى جسيمين من هذا النوع يلغي بعضهما البعض و يتحولان إلى جسيماتٍ أخرى (مثلا فوتونات). إذًا في عالم فيزياء الكم الغريب فإنّ الفراغ الذي لا يحوي شيء هو في الحقيقة بحرٌ هادرٌ من الفعالية والنشاط.

الآن، لنتخيل فراغًا يعج بمثل هذه الأزواج التي تخلق وتندثر بأسرع من  لمح البصر. طاقة الفراغ في هذا العالم ليست صِفْرًا، لأنّ تفاعل هذه الأجسام، التي تنتج في نقاط عديدة في الفضاء،  مع بعضها البعض يعطي للفراغ طاقة معينة، صغيرةً جدًا، ولكنها أكبر من صفر. وهذا مفهوم من الصعب قبوله، إذ كيف يمكن لمكانٍ فارغٍ تمامًا أن يحمل طاقةً، مهما كانت صغيرةً؟ هل يوجد لهذا الإدعاء أي دعم تجريبي؟ اقترح الفيزيائي الهولندي هندريك كازيمير (Hendrik Casimir) في عام 1948 تجربةً لفحص وجود طاقة الفراغ. وبالفعل، تم إجراء هذه التجربة التي أثبتت صحة تكهنات نظرية الكم من ناحية وجود طاقة الفراغ ومن ناحية قيمة هذه الطاقة. إذًا، الفضاء الخاوي في نظرية الكم هو كخلية نحلٍ أو كفَرَس امرئ القيس، مليء بالفاعلية والنشاط، تتأرجح فيه الطاقة كأمواج البحر راقصةً بين نشوء الجسيمات واندثارها، في دورةٍ مستمرةٍ من الحياة والموت،  تتفاعل فيها هذه الأجسام افتراضية التي تنتج  في اللاشيء مع بعضها البعض في عربدة صاخبةٍ مكتظةٍ بالحياة. يسمى هذا التماوج الهادر من نقطة لأختها، بالتذبذب الكمي.

الكون ونظرية الكم

نأتي الآن للكون وارتباطه بفيزياء الكم! أود، في البداية، أن أشدّد مجددًا على العلاقة الوثيقة بين التجربة والرصد من جهة، والفهم النظري لطبيعة الواقع من جهة أخرى. صحيحٌ أن النظرية العلمية تختلف جوهريًا عن النظرية الرياضية، لأن الأخيرة يمكن إثباتها بواسطة المنطق الاستنباطي (deductive logic)، أي أن صحتها محتمة إذا كانت فرضياتها الأولية صحيحة. بينما هذا غير ممكن في حالة النظرية العلمية التي تستمد مصداقيتها من نجاحها التجريبي ومن قدرتها على التنبؤ بحيثيات الواقع الموضوعي، أيّ أنّ النظرية العلميّة رهن الامتحان دائمًا. ولكن مع تراكم الدلائل التي تتماهى معها تكتسب النظرية العلمية موقعًا مميزًا، بحيث تتعدى كونها “مجرد نظرية”، فهي على الأقل ظاهريًا تقول لنا شيئًا، ولو بشكلٍ تقريبي، عن الحقيقة العميقة الكامنة في ظواهر الطبيعة. قد يتضح في النهاية بأنّ نظرية علمية معيّنة، بالرغم من نجاحها الباهر سابقًا، هي في الحقيقة خطأ، كنظرية نيوتن حول الجاذبية. ولكن بالرغم من هذا فقد بقيت ذات منزلةٍ خاصّةٍ لأنها تصف الطبيعة بشكل تقريبي في أغلب الظروف. أيّ أن شرعية النظرية العلمية تستقى من نجاحها في وصف الواقع.

هذا هو حال نظرية الانفجار الكبير، العمود الفقري لفهمنا العصري للكون، فهي تبدو خياليةً للقارئ غير الخبير. تتنبأ هذه النظرية في الواقع وتتلائم مع كميةٍ هائلةٍ من المعطيات، التي ما زالت تتدفق بتسارعٍ طردي والتي تغطي أزمان وأبعاد الكون المختلفة. إنّ نجاح هذه النظرية منقطع النظير ليس فقط لأنها تقول لنا ما حدث في بداية الكون بل لأنها تزودنا بتسلسلٍ زمني، فراغي (بمفهومٍ هندسي) ومنطقي لكوننا، بحيث تحوّله من مجموعٍ هائلٍ من الظواهر والأحداث المنفصلة غير المرتبطة إلى واقعٍ واحدٍ ذو عمودٍ فقري متناسقٍ يمتد عبر الزمان والمكان.

تلعب نظرية الكم دورًا أساسيًا في فهمنا للكون ومراحله المختلفة، وهو موضوعٌ أتناوله في مكان آخر. ولكن ما أتناوله هنا هو دور طاقة الفراغ (العدم) في الكون اليوم وفي اللحظات الأولى لنشأته.

طاقة العدم المركب الأساسي في كوننا اليوم

من أبرز إنجازات علم الكون في العقدين الأخيرين هو نجاح العلماء بقياس الطاقة الكامنة في مركباته، ولهذا قصة مثيرةٌ سآتي عليها في مكان آخر. أذكر هنا، لحاجة موضوعنا، النتائج الأساسية لهذه القياسات التي حملت معها عدد من المفاجآت. النتيجة الأولى هي نسبة مركبات الكون الأساسية اليوم (انظر الرسم):

  • المادة العادية: نعني بهذا ببساطة المادة التي تكوّن أنوية العناصر الكيماوية، أي البروتونات والنيوترونات (المكوّنَة بدورها من الكواركات quarks). تسمى هذه المادة على لسان الفيزيائيين المادة الباريونية (baryonic matter)، وتشكل هذه المادة تقريبًا 5% فقط  من مركبات الكون. لنتمعن بهذا قليلا، نسبة المادة الباريونية الضئيلة تخبرنا بأننا مصنوعون من مكوّنٍ جانبي صغيرٍ من مركبات الكون. وهذا بمفهوم معين امتدادًا للثورة الكوبرنيكية التي خلعت الكرة الأرضية، وبالتالي، الإنسان “أسمى المخلوقات”، عن عرش موقعها المركزي في الكون. فنحن لا نقع في مركز المجموعة الشمسية فحسب، بل شمسنا هي نجمٌ عادي يدور في فلك مجرةٍ عادية، وهي بدورها مجرد مجرة من مئات مليارات المجرات في الكون المرئي. هذا الانتقال المذهل من الإنسان كمحور الأشياء وعلة وجودها، إلى كائن جانبي يعيش على كوكب صغير مصنوع من مادة هامشية، هو برأيي التجسيد الأوضح للثورة العلمية التي ما زالت تحلق بنا على جناحيها.
  • المادة المعتمة (dark matter): وهي مادةٌ مكونةٌ من جسيماتٍ تتفاعل بشكلٍ ضعيفٍ جدًا مع المادة الباريونية، وهي لا تشارك في القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية التي تحملها البروتونات والنيوترونات. نتيجةً لذلك من الصعب اكتشاف تأثيرها من حولنا إلا عندما ننظر إلى مجموعات فيزيائية كبيرة جدًا، كالمجرات بحيث نستطيع رصد تأثير هذا الشكل من المادة عن طريق تفاعلها مع قوة الجاذبية، أضعف قوى الطبيعة. وتشير القياسات العديدة أن المادة المعتمة تكون 25% تقريبًا من مركبات الكون.
  • الطاقة المعتمة (dark energy): وهي أحد أكبر المفاجآت التي اكتشفت في العشرين عامًا الأخيرة. وهي عبارة عن طاقةٍ كامنةٍ تدفع في الكون إلى التسارع، لا التباطؤ في الانتشار كما كنا نعتقد سابقًا. وهذه الطاقة مرتبطة تاريخيا باقتراح الثابت الكوني، الذي أضافه أينشتاين عام 1916 إلى معادلته الشهيرة بهدف الحصول على كون ساكن، بحيث لا ينتشر ولا يتقلص. وتشكل هذه الطاقة 70% من مركبات الكون. يتعلق الفهم الحديث لهذه الطاقة بطاقة الفراغ الكمية. انتشار الكون المتسارع يدفع بكثافة المادة إلى قيمٍ صغيرةٍ جدًا تتلاشى بتسارعٍ مع مرور الزمن، أي يقترب الكون حاليًا من الفراغ المطلق. وكما ذكرنا، بحسب نظرية الكم يحمل هذا الفراغ طاقة، إنها هذه الطاقة التي تكوّن 70% من مركبات الكون. أي أن المركب الأساسي للكون الآن هو طاقة العدم التي نستطيع فهمها فقط بواسطة نظرية الكم!

الغريب في الأمر بأننا نعرف أنّ المادة المعتمة والطاقة المعتمة تشكلا 95% من مكونات الكون، ولكننا لا نعرف طبيعتها بوضوح.

 تذبذب كمي من العدم

إذًا المفاجأة الأولى كانت أن طاقة العدم هي المهيمنة اليوم في كوننا. لكن هناك نتيجةٌ أخرى ذات إسقاطاتٍ مذهلةٍ وهي الطاقة الكلية للكون. إذ أصبح الآن واضحًا أن مجموع مركبات الطاقة في الكون قريبةٌ جدًا من الصفر! وهي نتيجة مهمةٌ جدًا ولكنها غير مفاجئة لأسباب عديدة لن أخوض بها هنا. السؤال الأول الذي يُسأل هنا هو: كيف يمكن للطاقة في الكون أن تكون صفرًا ونحن نرى أنه مليء بالمادة والحركة والأشعة الكهرومغناطيسية كل الوقت؟ ألا تعطي هذه الأجسام والأشعة طاقة ايجابية؟ إذا كيف للطاقة الكلية للكون بأن تكون صفرًا؟ الإجابة على هذا السؤال بسيطة، فبالإضافة لمصادر الطاقة الموجبة، هناك أيضًا طاقة الجاذبية وهي طاقةٌ سالبةٌ (لأنه علينا أن نوظف طاقة من الخارج لنفصل جسمين يجذبا بعضهما بقوة الجاذبية) تعادل بالضبط أنواع الطاقة الموجبة في الكون، وهذه حقيقة مذهلة لأنه كان بإمكان طاقة الكون أن تأخذ مالا نهاية من القيّم السالبة أو الموجبة، لكنها اختارت أن تكون بالضبط صفرًا. لهذه النتيجة سبب عميق سوف أتطرق إليه في مكان آخر.

لكن من أين أتى الكون؟ كيف نشأ؟ هنا أيضا تأتينا نظرية الكم بإجابة. لنتذكر بأن نظرية الانفجار الكبير تعني أن حجم الكون في بدايته كان صغيرًا جدًا بحيث تسيطر عليه نظرية الكم. الصورة التي يجمع عليها أغلب العلماء هي كالتالي. في عدم خاوٍ (حتى من الهندسة) تنشأ فقاعةٌ صغيرةٌ من الفراغ الذي يبدأ بالانتشار بسرعة كبيرة (نستطيع إثبات هذا رياضيًا). يبدأ هذا الفراغ، الذي ما زال صغيرًا، بإنتاج جسيمات افتراضيّة، ذبذبات كميّة، التّي عادةً ما تندثر بسرعة بعد نشوئها، إذ سرعان ما يلتقي جسمٌ بنقيضه. لكن في بداية الكون، تتوسع فقاعة الفراغ هذه بسرعة كبيرة بحيث يمنع هذا التوسع الجسيمات الأولية الافتراضية أن تلتقي بنقيضها وبدلًا من أن تندثر تبقى في الكون. وعندما يكبر الكون أكثر يكبر فضاؤه وينتج جسيمات أكثر، يحافظ عليها توسع الكون الحثيث. أيّ أن الكون يستغل مبدأ اللاحتميّة لينشأ جسيماته. لكن ألا يتناقض هذا مع قانون حفظ الطاقة؟ الإجابة هي لا، لأن الجاذبية بين هذه الأجسام تحمل طاقةً سالبةً بحيث أن الطاقة الكليّة للأجسام تبقى صفرًا.

هذا هو المقصود بكونٍ من عدم. إذ تزوّدنا نظرية الكم بالقوانين الأساسيّة التي تجعلنا نفهم كيف نشأ كوننا من لا شيء. وهو إدراك، إذا كان صحيحًا، مذهل. لكن هل حقًا هكذا ابتدأ الكون؟ وهل يفسّر هذا كل شيء؟ هل أصبحنا نعرف لماذا نشأ الكون ولماذا له الصفات التي نراها؟ هل حلّت الفيزياء كل معضلات الوجود والواقع؟ هل نحن الجيل الأوّل من البشر الذي استطاع أن يحلّ هذه الأسئلة العميقة التي شغلت البشرية منذ بداية وجودها؟ هذا ما أجيب عليه في القسم التالي.

شيء من لا شيء: هل تُفسّر فيزياء الكمّ وجود الكون؟

“لماذا هناك شيء بدلًا من لا شيء؟”، سأل الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz) عام 1714. قد يكون هذا أعمق الأسئلة الفلسفيّة على الإطلاق فهو لا يسأل عن طبيعة الوجود وما يحتويه وما علاقة محتوياته الواحدة بالأخرى وإلى ما ذلك، بل هو يسأل عن أول الأسباب وعلّة الأشياء، كلّ الأشياء وليس فقط شيء ما. وهو سؤال شغل الفلاسفة والمفكرين على مر الأجيال. كما يبدو لأوّل وهلة، تحل لنا نظرية الانفجار الكبير ونظرية الكمّ هذه المعضلة، فهي تقول لنا من أين أتى الكون وكيف نشأ.

التّطور العلميّ الذّي شهدته البشرية في القرن الأخير منقطع النظير في التاريخ. فقد أصبحنا نفهم القوانين الأساسية التي تحكم الظواهر الطبيعية ونجحنا في استخلاص قصة كوننا من لحظاته الأولى حتى تطور الحياة بأشكالها المختلفة على الأرض، وأصبحنا نواجه المجهول مسلّحين بثقتنا بحكم العقل، مزوّدين بكمية هائلة من المعارف والقدرات التكنولوجية غير المسبوقة التي في حوزتنا. هذا مقابل الخوف والغيّبيات التي ميّزت تعامل أجدادنا مع العالم والطبيعة. قد يكون السؤال الذي سألناه هنا أوضح الأمثلة على مثل هذه الجرأة التي يزودنا بها العلم والمعرفة. فنحن نسأل من أين أتى الكون ونجيب على هذا بجوابٍ تفصيليّ علميّ يستند على قوانين الطبيعة الأساسية التي نعرفها.

لكن هل حقًا استطعنا بهذه الإجابة أن نفهم كلّ شيء؟ هل حقًا تفسّر فيزياء الكمّ ونظرية الانفجار الكبير وجود الكون؟

لأجيب على هذا السؤال المركزي سأقسم إجابتي، المختصرة، لعدة أجزاءٍ: لقد رأينا بأنّ فيزياء الكمّ، موضوعنا الأساسي هنا، هي أنجح النظريات العلميّة قط، فهي تخضع بنجاح لعددٍ لا يحصى من الامتحانات التجريبيّة العلميّة والتّطبيقات التّكنولوجية التّي تؤيد صحتها بدقةٍ غير مسبوقةٍ. لكن في نفس الوقت لا يوجد هناك اتفاقٌ واضحٌ على معنى نظرية الكم وما تقوله لنا عن طبيعة الواقع، كما رأينا أعلاه. هذا لا يعني بالطبع بأننا لن نستطيع أن نفهم في المستقبل معناها الحقيقي، هذه طبيعة الأبحاث العلميّة فقد تبقى مشكلةً مستعصيةً لسنواتٍ وعقودٍ عديدةٍ، لكن يأتينا حلّها من حيث لا نتوقع ولا ندري. أضف على ذلك أننا نعرف أنّ نظرية الكمّ لا تصف كل ظواهر الكون لأنه ليس لها ما تقول إزاء قوة الجاذبية، التي تصفها النظريّة النسبيّة العامّة. فلربما عندما نفهم كيف نوحّد هاتان النظريتان، وهو أمرٌ ما زال مستعصيًا، نستطيع عندها فهم كنه المعنى العميق لنظرية الكم الجاذبية (quantum gravity)، كما تسمى. عندها أيضا من الممكن فهم كيف تكوّن الكون بشكل أوضح وطبيعي أكثر مما أوردناه هنا.

هناك جانبٌ آخر علينا مواجهته. لقد رأينا أنّ نظرية الكم تتناقض مع بعض الأمور المركزية في فهمنا البديهي للواقع، مثل إمكانية وجود جسم في مكانين مختلفين في نفس الوقت وغيرها من الظواهر المختلفة. لربما العيب الأساسي هو في البديهة التي نحملها بداخلنا وأدواتها. لقد نمت سليقتنا خلال تطورنا ككائناتٍ حيةٍ عبر مليارات السنين، و “زرعتها” بنا عملية الانتقاء الطبيعي. فنحن نفكر بديهيًا بواسطة منطق معين (مثل قوانين الحساب) وهندسةٍ معينةٍ (هندسة أقليدس المستوية) وقوانين فيزياءٍ معينةٍ (قوانين نيوتن) نتيجة تطوّرنا على الكرة الأرضيّة وفي بيئتها الخاصّة. هذه القوانين والمعارف البديهية “المزروعة” بنا، أسماها عمانوئيل كانط بالافتراضات التحليليّة والاصطناعية المسبق (analytic and synthetic a priori proposition). لكن هذه المعارف البديهيّة والتي هي تقريب للواقع الفيزيائي السائد على الكرة الأرضية هي تجريدٌ (abstraction) مبسط تطوّر في داخلنا بواسطة عمليّة الانتقاء الداروينية، مثل باقي المخلوقات، حتى يساعدنا في حياتنا وتعاملنا مع البيئة المحيطة. نحن نعرف الآن أن قوانين نيوتن هي مجرد تقريب لواقعٍ أعمق تصفه نظرية الكم والنظرية النسبيّة، كما نعرف بأن هندسة إقليدس هي مجرد تقريب لهندسة الكون اللامستوية، وحتى قوانين المنطق التي نتبعها تتصرف بشكلٍ مختلفٍ على مستوى نظرية الكم. أيّ أنّ العيب في البديهة  التي نحملها وليس في قوانين نظرية الكم التي علينا أن نغير سليقتنا حتى نفهمها.

لكن حتى إذا قبلنا أن الكون هو تذبذبٌ كمّي، هل يعني هذا أننا فهمنا كل شيء؟ بالطبع لا، فهذه الإجابة تفتح أسئلة أخرى! فعلى سبيل المثال، قد افترضنا صحة قوانين الطبيعة التي نعرفها لكي نفسر نشأة الكون ووجوده، لكن من أين أتت هذه القوانين؟ لماذا هذا هو شكلها؟ وإجمالًا، لماذا تحكم الكون قوانين؟ هذه الأسئلة نحن بعيدون جدا عن الإجابة عليها، وحتى إذا أجبنا عليها، سوف توفر هذه الإجابات أسئلةً أعمق عن أصلها وسببها. أيّ أننا لن نستطيع أبدًا الإجابة على ماهية السبب الأولّي، فكل مرة نصل بها إلى إجابة علمية حوله، تفتح هذه الإجابة البحث من جديد حول السبب الأعمق! أيّ أنّ الكون نتج كشيءٍ من لا شيء بمفهومٍ معيّن ولكنه بمفهومٍ آخر لا يمكن أن ينشأ من لا شيء.

قد يقول البعض، طبعًا هذا ما نتوقعه. إنّ نشوء الكون والطبيعة هما مساحة فعل الخالق والدين. لهؤلاء أقول مهلًا! قوانين الطبيعة كما نعرفها تحطم قصّص الأديان، كل الأديان، على محك الواقع. إذ لا توجد للأديان أي علاقة بطبيعة الكون كما نرصده ونفهمه علميًا. وماذا عن الله، كمفهومٍ مجرد بعيدٍ عن تفاصيل الأديان، ألا يمكن أن يكون هو السبب الأول للأشياء؟ بالطبع، قد يكون هذا ما قصده أرسطو وتوما الأكويني عندما تحدثا عن “المحرك الأولي” (prime mover). ولكن يخضع هذا التفسير لنفس التساؤل عن الأصل والسبب. أيّ التساؤل عن أصل ودافع وجود “السبب الأولي” في قوانين الطبيعة هو نفس التساؤل الذي يخضع له وجود “محرك أوّلي” خارج الطبيعة (إلهي). هذا على الرغم من أنّ أغلب الذين يقبلون بوجود “محرك أولي” خارج الطبيعة يتوقفون عند هذا ولا يسألون عن سبب وجود هذا “المحرك”.

هناك فرقٌ أساسي بين قبول سبب أولي خارج الطبيعة و البحث عن سببٍ أولي طبيعي. إذ أن قبول الأول يعني التّوقف عن التساؤل، فلا يوجد سبب لأن نبحث أكثر. أمّا قبول خيار البحث عن سببٍ أولي طبيعي يعني، كما ذكرنا، عملية بحث لا نهاية لها لسبر غور الواقع الموضوعي، وعلى الرغم أننا نعرف أننا لن نصل إلى إجابةٍ نهائيةٍ، إلا أنه تنكشف أمامنا عند كل جولة شريحة أعمق من الواقع تكشف لنا معضلات جديدة مثيرة وخلابة. أي أنه كلّما حاولنا حل أحجيات الطبيعة وفك سحرها، تعود علينا هذه الحلول بأحجيات أعمق لتلقي علينا تعويذة سحر أكبر وأجمل. فمن توقف عن البحث عن الحقيقة، فقد القدرة عن الافتتان بجمالها.


  • إعداد: البروفيسور سليم زاروبي
  • تحرير: زيد أبو الرب