سلسلة علم الأحياء الكميّة
الحلقة الرابعة: كيف يعمل الإنزيم؟


التأثيرات الغامضة لفيزياء الكمّ تمتد إلى كل زاوية في عالم الطبيعة، في الواقع إنها تقطن في جدران كل خلية حيّة على الأرض.

عملية تحوّل الشرغوف (فرخ الضفدع) إلى ضفدع بالغ على سبيل المثال لم تكن مُوضّحة تمامًا من قبل علماء الأحياء، حيث يتحلّل الشرغوف في غضون ستة أسابيع ثم يعيد تجميع نفسه إلى شكل ضفدع بالغ، لكن اللغز الكبير هو كيفية حدوث ذلك بتلك السرعة الهائلة؟
يقول عالم الفيزياء النظرية النووية جيم الخليلي (Jim Al-Khalili) من جامعة سيري: «عندما تعيد التفكير بالأمر، فلا شيء أكثر غرابة من مجرّد شرغوف يتحوّل إلى ضفدع، انظر إلى ذيله على سبيل المثال، خلال عدة أسابيع يتم إعادة استيعابه داخل الجسم ويتم إعادة تشكيل البروتينات والألياف المكوّنة للحم لتكوّن أطراف الضفدع الجديد».

لكي يحدث كل ذلك، فإن تريليونات من التفاعلات الكيميائية تعمل معًا، مُحطمةً جزيئات ومُكونةً جزيئات جديدة بتركيبة مُدبّرة بعناية، لكن الألياف التي تربط اللحم معًا قوية جدًا.
إن الشرغوف متماسك بفعل أحبال طويلة من البروتينات معقودة ببعضها بواسطة روابط كيميائية، هذه الروابط قوية جدًا بحيث ينبغي أن تدوم لسنوات، وذلك أطول بكثير من فترة حياة الشرغوف نفسه بالكامل. إذًا، كيف يمكن أن يتحوّل الشرغوف إلى ضفدع في غضون أسابيع قليلة فقط؟

على النطاق المجهري، جميع الآليات تقريبًا التي تحافظ على سير عمل خلايانا تتضمن وجود تفاعلات كيميائية من نوع ما، ولن تحدث هذه التفاعلات من دون وجود محفّزات طبيعية تجعل التفاعلات تحدث بسرعة كبيرة، سريعة بما يكفي لكي تكون الحياة ممكنة، وتسمى هذه المحفزات باسم “الإنزيمات”.

إن فهم عمل الإنزيمات هي المشكلة الأساسية في علم الأحياء، ولا تزال لغزًا محيّرًا بالنسبة لجميع علماء البيولوجيا، ولكن ما يكمن في المبادئ الأساسية للفيزياء قد يكون المفتاح الرئيسي لحل هذا اللغز الغامض.

يقول البروفيسور أندريا سيلا (Andrea Sella) من كلية لندن الجامعية: «الإنزيمات هي الآليات الفعالة للخلية، إنها حقيقة الآليات الصغيرة بداخل خلايانا والتي تقوم بالتحوّلات الكيميائية المتضمنة في حياتنا اليومية، إنها جوهرية بشكل مطلق، والسبب في كونها جوهرية هو قدرتها على تسريع التفاعلات الكيميائية بشكل هائل».

في عملية التحوّل، فإن الإنزيمات هي التي تقوم بتسريع عملية تحلّل ذيل الشرغوف، وهذا يعني تحليل بروتين متين للغاية يسمى الكولاجين (Collagen).

ويضيف البروفيسور سيلا: «الكولاجين هو واحد من أهم البروتينات في عالم الأحياء، إنه البروتين الذي يمنح المرونة والليونة للغضاريف والأوتار وبالطبع لجلدنا كذلك، وفي ذيل الشرغوف فإنه يوفّر الدعامة التي تسند ذلك البناء. والآن عندما يتحوّل الشرغوف إلى ضفدع، لا بدّ أن يتوفر إنزيم الكولاجينايز (Collagenase) الذي يقوم بتقطيع الكولاجين إلى أجزاء صغيرة، وبذلك تتخلص من تلك الدعامة».

لكن كيف تقوم الإنزيمات بكسر الروابط الكيميائية بهذه السرعة الرهيبة؟
كل الأجزاء المختلفة من العُقد الموجودة في ألياف ذيل الشرغوف تشبه الجسيمات تحت الذرية، الإلكترونات والبروتونات التي تربط الأجزاء المُختلفة للجزيء معًا.

على الإنزيمات أن تقوم بتحريك البروتونات لفك العقدة، لكن ذلك يحتاج إلى الكثير من الجهد وكثيرًا من الوقت إذا كان هنالك العديد من العُقد التي تحتاج لفك. لذا يجب أن تبذل الإنزيمات جهدًا كبيرًا بحيث تتغلب على حاجز الطاقة للبروتونات المُكوّنة للعقد.

لو كانت العملية تجري بهذا النحو، لكانت الطاقة المبذولة من قبل الإنزيمات عالية جدًا بما يكفي لأن تكون البروتونات قادرة على تجاوز حاجز الطاقة الخاص بالعقدة، وهذا يحتاج إلى وقت أطول بكثير من فترة تحوّل الشرغوف نفسه إلى ضفدع بالغ.

لا بد من وجود شي آخر يحدث للبروتونات!

يقترح معظم الباحثين أن النماذج النظرية والمبادئ الحالية غير كافية لتفسير آلية عمل الإنزيمات، لذلك لا بدّ من وجود نماذج جديدة، وهذا ينطبق بشكل خاص على تفاعلات الإنزيم التي تعتمد في أساس عملها على إحدى ظواهر ميكانيكا الكمّ.

في عالم الكمّ لا يجب على البروتونات أن تتسلّق الحواجز، بدلًا من ذلك يمكنها أن تعبر أنفاقًا من الطاقة بصورة مباشرة، وهذه الظاهرة تسمى الأنفاق الكمومية (Quantum Tunneling).

تعتبر الأنفاق الكمومية من أكثر الأشياء غرابةً في ميكانيكيا الكمّ، أنها لا تشبه أي شيء نراه في عالمنا الكبير ولكن يمكن ملاحظتها في العالم الكمي. حيث بإمكان الجسيمات الكميّة أن تمرّ عبر حاجز لا ينبغي لها أن تتجاوزه وفقًا لقوانين الفيزياء الكلاسيكية، فهي ليست أجسامًا صلبة كالكرات في حياتنا اليومية، بل تسلك سلوكًا موجيًا منتشرًا غامضًا يسمح لها بأن تتسرّب عبر الحواجز.

يقول جيم الخليلي: «كفيزيائي نووي، فإن الظاهرة النفقية تعتبر من أسباب العيش بالنسبة لي، الجسيمات تحت الذرية كالبروتونات تقوم بها طول الوقت».

مؤخرًا، أدرك العلماء أن مجموعة كبيرة من التفاعلات في الكيمياء والبيولوجيا تتضمّن ظاهرة الأنفاق الكمية (وخاصة العديد من التفاعلات التي تتضمن نقل جسيمات بحجم ذرة الهيدروجين). وقد طوّروا نماذج دقيقة لوصف آثارها على التفاعلات الكيميائية.

استخدم الباحثون الرياضيات البسيطة لإظهار أن النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات الذي يصف الأنفاق الكمومية بإمكانه تفسير البيانات التي تمّ الحصول عليها أثناء إجراء التجارب على الإنزيمات.

وهذا يفسّر حقيقة إمكانية الإنزيم لامتلاك تراكيب مختلفة؛ إذ أن الإنزيمات تشبه البروتينات تتقلب باستمرار بين عدة تركيبات بمهارة، بحيث يكون لها خصائص تحفيزية مختلفة إلى حد كبير.

أكثر الميزات أهمية في الظاهرة النفقية هي سرعتها، أكثر سرعة بكثير مما لو كان البروتون يتسلق حاجز الطاقة. دون الأنفاق الكمية فإن تحوّل الشرغوف سيكون مستحيلًا، لأنها تحوّل الروابط الكيميائية المتينة إلى شكل أبسط بكثير، وبالتالي تحوّل العقد المتينة في الألياف إلى عقد سهلة تسمح بتحلّل ذيل الشرغوف بسرعة خيالية.

يقول جيم الخليلي: «في الفيزياء النووية، هذا التأثير هو حقيقة مثبتة علميًا وتحدث في كل نجم. بدون وجود الأنفاق الكميّة فإن الشمس لن تشعّ بكل بساطة، لكني لم أتصوّر أبدًا أن أراها في عملية تحوّل الشرغوف. الأمر المثير للدهشة أن ذلك يحدث بداخل كل خلية لكل نظام حيّ على الكوكب، لأن كل خلية تحتوي إنزيمات، لذا من الصعب تخيّل مدى غرابة هذا الأمر».


إعداد: سرمد يحيى
تدقيق: دانه أبو فرحة
المصدر الأول
المصدر الثاني