سلسلة علم الأحياء الكميّة
الحلقة الثالثة: عملية البناء الضوئي


الأحياء الكمومية ترمي بسحرها على كل كائن حي. وكما رأينا في الجزء الثاني من السلسلة هجرة الطائر «أبو الحناء» فإن الطيور والثديات والحشرات والبرمائيات كلها محكومة بأغرب القوانين في العلم، لكن الشيء الأكثر إثارة يتعلّق بالعملية الحيوية المنفردة التي تعتمد عليها كل أشكال الحياة هذه: وهي تحويل الهواء وضوء الشمس إلى نباتات.

تمتص النباتات جزءًا كبيرًا من الطاقة الشمسية التي تحمم الأرض في كل ثانية لتحويل ضوء الشمس إلى كربوهيدرات، كل العملية لا تستغرق سوى جزء من مليون مليار جزء من الثانية مانعةً بذلك تحوّل الطاقة إلى حرارة ضائعة.

بينما يقترب الفوتون من نهاية رحلته الطويلة من الشمس، يصطدم بأكبر مصانع الغذاء في الكون؛ فهو يطلق الشرارة الأولى لسلسلة من التفاعلات الكيميائية التي تشكل جزءًا أساسيًا من الحياة على الأرض وهي عملية البناء الضوئي.

في كل ثانية من كل يوم تتشكّل على الأرض 16 ألف طن من الحياة النباتية. من المذهل أن وجودنا على هذا الكوكب يعتمد على ما سيحدث في الجزء من تريليون جزء من الثانية القادمة.
اللون الأخضر للنبات ينبع من جزيئات الكلوروفيل بداخل الخلايا الحية، فهي تقوم بامتصاص الضوء من الشمس، وتنتقل هذه الطاقة بعد ذلك بسرعة رهيبة إلى مصانع إنتاج الغذاء الموجودة في قلب الخلية.

المرحلة الأولى الحاسمة في عملية البناء الضوئي هي التقاط الطاقة من الشمس، وهي بفعالية تصل إلى 100% تقريبًا، أكثر كفاءةً من أي تكنولوجيا بشرية على الإطلاق، لكن الطريقة التي يحقّق بها كل نبات على الأرض هذه العملية تعتبر واحدة من أعظم الألغاز في علم الأحياء.

عندما يرتطم الفوتون بالخلية فإنه يحرّر إلكترونًا من جزيء الكلوروفيل، وهذا يخلق حزمة صغيرة من الطاقة تسمى الإكسيتون Exciton)) وهو عبارة عن زوج مكوّن من إلكترون وفجوة، ويلعب دورًا رئيسيًا في عملية التركيب الضوئي.

يقوم الإكسيتون بشقّ طريقه عبر غابة من جزيئات الكلوروفيل حتى يصل إلى ما يسمّى بمركز التفاعل (reaction center)، حيث تُستَخدم طاقته لتقود عمليات كيميائية والتي تخلق كل الجزيئات الحيوية المهمة للحياة.

لكن المشكلة هي أن الإكسيتون يحتاج لأن يجد الطريق نحو مركز التفاعل من أول مرة. لذا عليه أن يمرّ عبر كل جزء من الخلية، لكن هذه ليست الطريقة الأكثر كفاءة للوصول؛ لأنه في نهاية المطاف عندما يصل الإكسيتون إلى مركز التفاعل سيكون ذلك من خلال الصدفة.

لو كان الإلكترون يقوم بجولته نحو مركز التفاعل بشكل أعمى وعشوائي بين جزيئات الكلوروفيل، فإنه يستغرق وقتًا طويلًا للوصول، ويصل منهكًا فاقدًا طاقته على شكل حرارة ضائعة. لكنّه في الحقيقة لا يفعل ذلك، لا بدّ أن هنالك شيء مختلف تمامًا يحدث في أعماق الخلية.

قام عالم الفيزياء الحيوية غريغوري أنجل (Gregory Engel) وفريقه من جامعة شيكاغو بتبريد بكتيريا الكبريت الخضراء تُدعى الخضربيات ((Chlorobium tepidum -وهي واحدة من أقدم مصانع البناء الضوئي بالنسبة للنباتات- إلى درجة حرارة 77 كلفن ومن ثم تعريضها لنبضات ليزرية قصيرة للغاية.

عن طريق التلاعب بهذه النبضات يمكن للباحثين تتبّع تدفّق الطاقة من خلال نظام التمثيل الضوئي للبكتيريا، وقد أكّدوا أن الإكسيتون لا يسلك طريقًا إعتباطيًا عبر الخلية، بل أن خلايا النباتات هي عبارة عن أجهزة دقيقة للغاية تخضع لأشهر قانون في ميكانيكا الكمّ وهو مبدأ اللايقين the uncertainty principle)) لهايزنبرج.

ينصّ مبدأ اللايقين على أنك لا تستطيع أن تكون متيقنًا من وجود الإكسيتون في مكان محدد، وبدلًا من ذلك تراه يتصرّف كموجة كميّة ينشر نفسه عبر الخلية.

يقول أنجل: «كُنا نعتقد بأن العملية تجري بنفس الطريقة التي قد تنتقل بها أنت أو أنا من خلال متاهة من الشجيرات، لكن بدلًا من أن تقف على نقطة تقاطع وتذهب يمينًا أو يسارًا، يمكنك في الواقع أن تذهب في كلا الاتجاهين بنفس الوقت واستكشاف مسارات عديدة مختلفة بكفاءة أعلى. نرى دليلًا قويًا جدًا لحركة موجية من الطاقة خلال المجمعات الضوئية».

هذا يعني أن الإكسيتون لا ينتقل من النقطة أ إلى ب، لكنه يتحرّك في كل الاتجاهات بنفس اللحظة؛ فهو ينشر نفسه كموجة بحيث يمكنه أن يستكشف كل الطرق المُمكنة بنفس اللحظة، وهذا ما يُعطيه تلك الكفاءة الرهيبة.

تقول الباحثة ألكساندرا أوليا كاسترو (Alexandra Olaya-Castro) من كلية لندن الجامعية: «أنا باحثة نظرية، لكني دائمًا أربط الجانب النظري بتجارب حساسة جدًا في المختبر، أشياء بإمكانك التحكّم بها، لكن الآن بعد اكتشاف أن الأشياء التي أعملها يمكنها أن تساعدني لفهم أفضل عن كيفية عمل الطبيعة، حقًا هذا إلهام جديد في حياتي من الناحية العملية، لقد وقعت في حب هذا المجال».

توظيف هذه العملية هي التي تسمح للنباتات بحصاد الطاقة من ضوء الشمس بكفاءة شبه مثالية، بل ومن الممكن أيضًا استغلال هذه الطريقة من قبل الباحثين لخلق عملية بناء ضوئي اصطناعي، مثل تلك الموجودة في الخلايا الضوئية لتوليد الكهرباء، وبهذا يمكن أن تكون عملية نقل الطاقة أكثر كفاءة من التقنيات السابقة.

تقول كاسترو: «لقد فتح ذلك مسارًا علميًا جديدًا بالكامل بالنسبة لي، وبالفعل أستمتع بحقيقة أنك لكي تفهم بالكامل ما يحدث في النباتات؛ فأن عليك أن تتفاعل مع العلماء الذين لديهم طرق مختلفة تمامًا لفهم الأمور، لذا بالنسبة لي هذا يُعتبر واحدًا من أكثر الأجزاء إثارة في الموضوع».

إن الخلايا الحيوية ممتلئة باهتزازات عشوائية لملايين الذرات والجزيئات، لكن بطريقة ما يحافظ الإكسيتون على شكله كموجات كميّة تامّة وجميلة تنقل الطاقة التي تضمن استمرار الحياة على الأرض.
يقول أنجل: «بداخل كل ورقة من أوراق الربيع يوجد نظام مُعقّد قادر على تطبيق مبادئ ميكانيكا الكمّ بسرعة وكفاءة عالية، وهنا يكمن المفتاح بالنسبة للكثير من الطاقة على الأرض».


إعداد: سرمد يحيى
تدقيق: دانه أبو فرحة
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث