لا شك أنّ جميعنا لاحظ ظهور لونٍ لزفيره شتاءً واستمتع برؤيته ورؤية من حوله يتحولون إلى مداخن متحركة.

في الحقيقة، إنَّ مكوّنات هواء زفيرنا لا تتغيّر بتغيّر درجة الحرارة، فصيفًا كما شتاءً تعمل رئتانا على تخليص الجسم من بعض الغازات وتصفية الهواء المستنشق بنفس الطريقة، لكن ما الذي يجعل الزفير مرئيًا في بعض أيام الشتاء؟

هل سبق لكم أن رأيتم ضبابًا في المرتفعات وفوق البحر أو حتى في حمّامكم إن أطلتم المكوث تحت المياه الساخنة، أو في مطبخكم، أو ضبابًا على زجاج نافذتكم أو سيارتكم أو على كأس أخرجتموه من الثلاجة؟ كل تلك المشاهد وأخرى تخضع لمبدأٍ فيزيائيٍّ واحد هو “التّكثف”، فما معناه وكيف يحدث؟

يتكون الماء كما هو معروف من ذرتين هيدروجين تحيطان بذرة أوكسجين، ومن خصائص الماء أنّه شفاف وكذا بخاره، فالنصف العلوي من زجاجة نصف مملوءة بالماء متكون من بخار ماء، لكنه غير مرئيّ. مبدئيًا، البخار شفاف تمامًا، وإن تمكنّا من مشاهدته فلن يُعدّ بخارًا، بل ضبابًا.

يتحول البخار إلى ضباب عند بلوغ درجة الندى، وتتحقق هذه الأخيرة بطريقتين

1) انخفاض درجة الحرارة:

في فصل الصيف رغم تزايد نشاط التبخر بفعل الحرارة المرتفعة تتزايد نسبة الرطوبة في الجو دون إمكانية رصد البخار في حين أنّ الضّباب ظاهرة تُشهد في الجو البارد أكثر رغم قلة إمكانية تبخر المياه، ففي جو حار تكون قابلية استيعاب الجو للبخار1 كبيرة، لذلك رغم تبخر مياه البحار والبحيرات تحت فعل سخونة الجو صيفًا يبقى البخار شفافًا، في حين تنخفض قابلية الجو لاستيعاب البخار في الجو البارد فيتكثف ويظهر على شكل ضباب.

إليكم هذه التجربة، قوموا بتسخين قدر مليء بالماء إلى درجة الغليان بعد التأكد من سخونة جو الغرفة وتهويتها، ثمّ أخرجوها إلى النافذة ما دمنا في فصل الشتاء، أو افتحوا الثلاجة وقربوا القدر منها، هنا ستشاهدون انبعاث البخار بطريقة أكثف (أو بالأحرى انبعاث الضباب) رغم عدم تغيير محتوى القدر!

ذلك الفرق يمثل تمامًا تباين تلوّن زفيرنا أحيانًا و شفافيّته أحيانًا أخرى، كما يمثله أيضًا شفافية البخار المنبعث من على أسطح البحار والأنهار ثمّ تلوّنه بالأبيض ليصبح سحابًا في المرتفعات بفعل البرودة، فحين تنخفض درجة الحرارة لتبلغ درجة الندى، يصبح الجو غير قادر على استيعاب المزيد من الغازات، فتبدأ جزيئات بخار الماء بالتكثف مجتمعة، تعكس تلك الفسيفساء من القطرات الدقيقة جميع أطياف الضوء، فتظهر لأعيننا بيضاء، فالثلج بخارُ ماءٍ في الأصل تكثف وتجمد حول ذرة محفّزة على شكل بلورات متراكمة تعكس جميع أطياف الضوء بينها لتظهر بيضاء.

كذلك ظواهر التكثف تلك التي نشهدها في الحياة اليومية، هي جزيئات ماء تكتلت حول ذرة على شكل قطرات “مجهرية” هذه المرة، فاتّخذ الخليط اللون الأبيض.

مثال آخر على الظاهرة، الذي يجعل رطوبة الهواء تتكثف على نوافذكم هي برودة زجاجها! ولذلك عند تصنيع سيارتكم يطلي المهندسون على الزجاجة الخلفية لسيارتكم خيوطًا ناقلة ضمن النظام الكهربائي العام، غرضها تسخين الزجاج لزوال الشرط الأول لتلوّن البخار المماس لها فيزول تكثف الرطوبة عليها، يتحقق ذلك تطبيقيًا حين ضغطكم على زر “إزالة الجليد” تسخن الزجاجة فيزول الضباب عليها وتتضّح لكم الرؤية، في حين لا يمكن وضع تلك الخيوط على الزجاجة الأمامية تفاديًا لإرهاق نظر السائق والاكتفاء بتسخين الزجاج بواسطة المدفأة الموجودة أسفله.

2) تزايد نسبة الرطوبة:

في الحمام مثلًا، حتى في فصل الصيف، وفي الدقائق الأولى يكون البخار غير مرئيّ حتى يملأ المكان بأكمله فيبدأ بالتكثف والظهور تدريجيًا، ذلك لأن جو الغرفة أصبح غير قادر على ضمِّ المزيد من البخار وبلوغه درجة الندى، ليتكثف ويظهر ضبابًا رغم سخونة الجو.

في الأخير وباختصار:

الغازات المنبعثة من صدورنا تخضع للتكثف فور خروجها من أنوفنا وأفواهنا لتصبح مرئية وذلك بفعل بلوغ الجو لدرجة التشبع من الغازات بفعل انخفاض درجة الحرارة، ليصبح غير قادر على استقبال زفيرنا.

لكن لا يلبث ذلك الضباب حتى ينقشع عند ابتعاده عنّا، بفعل الانخفاض النسبي للرطوبة بعيدا عن أفواهنا


1- قابلية استيعاب الجو للبخار: تزداد قابلية استيعاب الجو للبخار في الجو الحار لأن ارتفاع درجة الحرارة يؤدي إلى زيادة سرعة حركة الجزيئات بالتالي ازدياد المسافة البينية فيما بينها، فيكون لجزيئات الماء مكان أوسع للتحليق على شكل غاز من غير تكثف.