(روبرت كينج – Robert King) هو سجين قضى 29 سنة بمفرده داخل زنزانة عرضها مترين وطولها لا يتعدى ثلاثة أمتار.

كان كينج ضمن مجموعة يُطلق عليها اسم (ثلاثيّ أنغولا – Angola Three) – ثلاثة سجناء بالزنازن الانفراديّة في إصلاحيّة ولاية (لويزيانا – Louisiana).

أُطلِق سراح كينج سنة 2001 بعدما أسقط عنه القاضي إدانةً بقتل زميله في السجن سنة 1973.

منذ خروجه من السجن، كرّس كينج حياته للتوعيّة بالأضرار النفسيّة الناتجة عن السجن الانفراديّ.

ضمن حصّة من اللقاء السنويّ لمجتمع علم الأعصاب* خلال الأسبوع الأول من نوفمبر 2018 في (سان ديغو كاليفورنيا – San Diego California)، قال روبرت :«يريد الناس معرفة ما إذا كنت أعاني من مشاكل نفسيّة، هل أنا مضطربٌ أم لا، “كيف لك أن لا تفقد عقلك؟” أنظُر إليهم وأقول: “لم أقل لكم أنّي لم أفقد عقلي”، لا أعني أنّني مريض نفسيًا أو شيء من هذا القبيل، لكن بعد إبقائك في زنزانة تتكوّن من ثلاثة أمتار على مترين لـ23 ساعة يوميًا، كيفما كانت حالتك الظاهريّة، فأنت لست سويًا».

يوجد في السجون الأمريكيّة حواليّ 80,000 سجين – أغلبهم ذكور – في السجن الانفراديّ، يقضون 23 ساعة يوميًا في زنازن دون نوافذ، دون أدنى تواصل بشريّ عدا حرّاس السجن.

وِفقًا لعلماءٍ شاركوا في اللقاء، لهذا النوع من العزلة الاجتماعيّة والحرمان الحسيّ تأثيرات خطيرة على الدماغ، معظمها دائمة ولا يمكن إصلاحها.

شكّل كينج إلى جانب نشطاء آخرين وعلماء أعصاب ومحامون فريقًا هدفه إلغاء السجن الانفراديّ باعتباره عقابًا قاسيًا وغير اعتياديّ.

تتراوح مدّة السجن الانفراديّ عامة بين شهر وثلاثة أشهر، مع العلم أنّ واحدًا من كل أربعة سجناء يدخلونه لمدّةٍ لا تقلّ عن سنةٍ كاملة، إذ أنّ المدّة المتّبعة الأدنى لا تقلّ عن أسبوعين.

إنّ الأسباب الشائعة للجوء إلى عزل السجين تشمل الإجراءات الوقائيّة، أو كمجرد تصعيد للعقاب، وللأخير مدّة محدّدة.

قامت ولايات عديدة بتمرير قوانين تحددّ الحيّز الزمنيّ بالإضافة إلى نوع الأفراد الجائز تطبيق السجن الانفراديّ عليهم.

بينما تَعتبِر الأمم المتحدة أيّ مدّةٍ تتجاوز الأسبوعين ضمن أنواع التعذيب وتدعو لمنعه بشكلٍ نهائيّ.

حتّى في الحالات التي تقلّ حدّتها عن حالة ثلاثي أنغولا، يكون لعزل السجين اجتماعيًا -شعوره بالوحدة- تأثيرٌ عاطفيّ وجسديّ حاد، وتقهقر على مستوى القدرات الإدراكيّة.

كما يزيد العزل من احتمال الموت المبكر بنسبة %26، الأمر الذي ينتج عن فقدان السيطرة على الضغط العصبيّ ما يؤدي إلى رفع مستويات (الكورتيزول – cortisol) وضغط الدمّ والالتهابات.

هذا وتزيد العزلة الاجتماعيّة من خطر الانتحار.

تقول الأستاذة المساعدة بتخصصّ الطبّ النفسيّ وعلم الأعصاب السلوكيّ في (جامعة شيكاغو – University of Chicago) – (ستيفاني كاتشيوبو – Stephanie Cacioppo) – خلال مداخلتها إلى جانب كينج: «نحن نعتبرُ أنّ السجن الانفراديّ لا يقلّ عن حكمٍ بالإعدام عن طريق العزلة الاجتماعيّة».

يتأثر الدماغ بشكلٍ كبير بمحيط الفرد، سواء كان ذلك التأثير سلبيًا أو إيجابيًا، لذلك من المحتمل أنّ تعرّض كينج للعزلة الاجتماعيّة والحسيّة في السجن أثّرت على دماغه.

يضرّ التوتر المُزمن بالحُصَين -عضوٌ أساسيّ في الدماغ- المسؤول عن الذاكرة والذاكرة المجاليّة وتنظيم العاطفة.

نتيجةً لذلك، يصبح الأشخاص المعزولون عرضةً لفقدان الذاكرة وانخفاض القدرات الإدراكيّة والاكتئاب.

تُشير دراسات أخرى إلى أنّ الاكتئاب يُساهم في قتل الخلايا العصبيّة بالحصين، بالإضافة إلى فقدان عاملٍ مسؤولٍ عن النضج، وصاحب خصائص مماثلة لمضادات الاكتئاب، ما يترك الفرد في دائرة مفرغة.

زِد على ذلك غياب أيّ نشاط حسيّ أو ضوء طبيعيّ، حيث يُصبح الشخص عرضةً لاضطراباتٍ نفسيّة واختلالات في الجينات المسؤولة عن تنظيم التواتر اليوميّ.

تقول (هدى عقيل – Huda Akil) – أستاذة علم الأعصاب في (جامعة ميشيغان – University of Michigan) وعضو في في فريق كينج – :«العزلة الاجتماعيّة تضرّ ببنية الدماغ وعمله. كما تفعل العزلة الحسيّة أيضًا. اختلال نظام التواتر اليوميّ سيء. الوحدة مضرّة جدًا».

عانى كينج من تغييرات مستديمة في قدراته الإدراكيّة خلال تواجده بالسجن الانفراديّ.

تقهقرت ذاكرته وفقد القدرة على التجوال نتيجة للضرر الذي تعرّض له دماغه على مستوى الحصين.

وصلت حالته إلى فقدان القدرة على تمييز الوجوه، لكنّ ذلك كان مؤقتًا.

وتعزو الأستاذة كاتشيوبو هذا الأمر إلى احتمال ضمور الجزء المسؤول عن التفاعلات الاجتماعيّة بالدماغ نتيجة عدم استعماله.

لدعم هذه الفكرة، قدّم (ريتشارد سميين – Richard Smeyne) عالم الأعصاب في (جامعة توماس جيفرسون – Thomas Jefferson University) في (فيلاديلفيا – Philadelphia) نتائج تجربةٍ مماثلةٍ أجراها على فئران تجارب، حيث وجد أنّ المناطق الحسيّة بأدمغتهم قد تقلّصت بنسبة % 20 بعد شهرٍ واحدٍ من عزلهم.

ويبقى السؤال هل تُعتبَر هذه التغييرات العصبية دائمة أم هناك إمكانيّة لإصلاحها.

تقول الأستاذة عقيل في هذا الصدد: «أشكّ بإمكانيّة خوض الفرد لتلك التجربة والخروج منها دون أيّ تأثير على الدماغ، بشكلٍ سلبيّ».

يقول كينج أنّه نجا من تلك المحنة لأنّه اعتبر قضيته ذات خلفيّة سياسيّة وأكبر منه بكثير. يؤمن الكثير من المناصرين له بأنّ ثلاثي أنغولا تمّ استهدافهم وتلفيق التهم لهم نتيجة لكونهم أعضاءً في (حزب الفهود السوداء – the Black Panther party) ــ حركة حقوقيّة (للأمريكيين من أصل أفريقيّ – African American) في الولايات المتحدة ــ. تبنّت الأممّ المتحدة هذه القضيّة كمثالٍ لوحشيّة السجن الانفراديّ.

حسب كاتشيوبو، علاقة كينج وانتماؤه إلى مجموعة وهدف أكبر ساهم في قدرته على التحمّل. وقالت: «للهويّة الجماعيّة دور مهمٌ في حماية الفرد من الشعور بالوحدة».

يسعى علماء الأعصاب إلى دعم بحوثهم بالتجربة الشخصيّة لكينج بهدف دفع عجلة التغيير إلى الأمام. يؤمن (جولز لوبيل – Jules Lobel) – أستاذ في القانون في (جامعة بيتسبرغ – University of Pittsburgh) وعضو في الفريق – بقضيّته، كما سبق له أن فاز بقضيّة مماثلة ضدّ السجن الانفراديّ بولاية كاليفورنيا، ويضيف: «علم الأعصاب ليس مجرد أداةٍ لفهم الحالة البشريّة، بل يمكنه لعب دورٍ هامّ في تغيير الظروف التي يعيش البشر تحتها».


  • ترجمة: عبد العزيز برقوش
  • تدقيق: آية فحماوي
  • تحرير: صهيب الأغبري
  • المصدر