بحثت الكثير من الثقافات القديمة في طبيعة العقل والروح والنفس، لكن علم النفس بوصفه دراسة أكاديمية لم يظهر في أوروبا إلا أواخر العصور الوسطى. وقد عده الناس فرعًا من الفلسفة حتى منتصف القرن 19، أما في أواخره فقد بدأ الناس في الغرب يدرسون علم النفس بوصفه علمًا لا فلسفة.

أسس فيلهلم فونت أول مختبر متخصص في أبحاث علم النفس عام 1879 بلايبزيغ ألمانيا، وساهم علماء آخرون في تطور علم النفس المبكر كهيرمان إبنغهاوس بأبحاثه الرائدة عن الذاكرة وويليام جيمس وإيفان بافلوف بتطويره إجراءات الإشراط الكلاسيكي، بينما طور سيغموند فرويد طريقته في التحليل النفسي فأحدث ثورة في علاج الاضطرابات النفسية.

لم يمر وقت طويل على تأسيس علم النفس التجريبي حتى ظهرت أنواع كثيرة من علم النفس التطبيقي، فاستورد ستانلي هال فن أصول التعليم من ألمانيا إلى الولايات المتحدة في بداية ثمانينيات القرن 19، وفي العقد التالي ظهرت نظرية جون ديوي في التعليم، وهو نفس الوقت الذي طور فيه جيمس كاتيل طرق فرانسيس غالتون المتعلقة بالقياسات البشرية ليؤسس أول برنامج للاختبارات العقلية.

شهد القرن 20 رفض نظريات فرويد عن العقل بعدّها غير علمية، ما قاد إلى صياغة النظرية السلوكية لجون واتسون التي روج لها سكينر. اقترحت النظرية السلوكية حصر الدراسة النفسية معرفيًا بالسلوك الظاهر، ما دام قياس ذلك السلوك سهلًا وقابلًا للتحديد كميًا، أما المعرفة العلمية للعقل فقد عُدت غيبية أكثر من اللازم فيستحيل إدراكها.

مع حلول العقود الأخيرة من القرن 20، صعد نجم نهج متعدد التخصصات في دراسة علم النفس البشري، عُرف عمومًا بعلم النفس المعرفي. اتخذ علم النفس المعرفي من العقل موضوعًا للدراسة، مستعملًا الأدوات التي وفرها علم النفس التطوري واللغويات وعلم الحاسوب والفلسفة وعلم الأحياء العصبي.

اقترح هذا النهج إمكانية الوصول إلى فهم واسع للعقل البشري، ما قد يوصل إلى تطبيقاتٍ في مجالات بحثية أخرى كالذكاء الاصطناعي!

ولدت مقاربة أخرى لعلم النفس في القرن 21 عُرفت باسم علم النفس الإيجابي. بدأت هذه المقاربة تطويرًا لبحوث علماء النفس الإنسانيين حول السعادة، وتركيزهم على معالجة الصحة العقلية بدلًا من المرض العقلي؛ إذ كان هدفها تتميم علم النفس التقليدي لا الحلول محله. ركز علم النفس الإيجابي على أهمية استعمال الطريقة العلمية لفهم التطور الطبيعي، ويتضمن ذلك رعاية المواهب والعبقرية، إضافة إلى دراسة كيفية تحقيق كل فرد الاستفادة القصوى من إمكانياته.

أصول مصطلح علم النفس

عادةً ما يُعزى أول استعمال لمصطلح علم النفس إلى الفيلسوف السكولاستي (المدرسي) الألماني رودولف غوكل (1547-1628) عام 1590، لكن التاريخ يخبرنا أن استعمال هذا المصطلح سبق رودولف بأكثر من ستة عقود حين تضمنه عنوان إحدى رسائل الإنسانوي الكرواتي ماركو ماروليتش (1450-1524) المكتوبة باللاتينية. قد لا يكون هذا أول استعمال للمصطلح في التاريخ، لكنه أقدم استعمال موثق لدينا.

لم تعتد ألسنة الناس استعمال مصطلح علم النفس حتى نشره الفيلسوف المثالي الألماني كرستيان فولف في كتابيه (علم النفس التجريبي 1732) و(علم النفس العقلي 1734)، ولم ينتشر هذا المصطلح في إنكلترا حتى منتصف القرن 19 عبر ويليام هاملتون (1788-1856)، وقد أطلقوا قبل ذلك على هذا الفرع من المعرفة اسم الفلسفة العقلية.

أفكار نفسية مبكرة

اهتمت ثقافات قديمة كثيرة بطبيعة العقل والروح والنفس؛ فمن مصر القديمة وصلنا وصف للدماغ وتخمينات بشأن وظائفه (1550 قبل الميلاد)، مع أن السياق كان هنا طبيًا أو جراحيًا أكثر منه نفسيًا. وفي اليونان القديمة اهتم الفلاسفة منذ طاليس (550 قبل الميلاد) حتى العصر الروماني بمصطلحات نفسية، كالعقل والرغبة بالإدراك والتميز وحب الحقيقة، أما في الصين القديمة فقد كانت إجراء الاختبارات النفسية جزءًا من النظام التعليمي لفترة طويلة، وقد أجرى لين زي في القرن 6 تجربة نفسية طلب فيها من الناس أن يرسموا مربعًا بإحدى يديهم وأن يرسموا دائرة بالأخرى في نفس الوقت، ليختبر عرضتهم للتشتت.

في العصر الإسلامي الذهبي بين القرنين 9-13، طور علماء الحضارة الإسلامية علم النفس، متأثرين كثيرًا بالفلسفتين الإغريقية والهندية إضافة إلى اعتمادهم على دراسة النصوص الإسلامية المقدسة. استعمل علماء الحضارة الإسلامية مصطلح النفس ليعبروا به عن الشخصية الفردية، ودرسوا القلب والروح والعقل والإرادة. وكانت دراسة المرض العقلي عندهم تخصصًا منفصلًا عُرف باسم العلاج النفسي، وقد أجرى العالم العراقي العربي (الحسن بن الهيثم) عددًا من الدراسات حول الإدراك البصري، تضمنت الإحساس واختلاف درجاته بين الناس وإحساس اللمس وإدراك الألوان والظلام، إضافة إلى بيان الأسباب النفسية وراء ظاهرة الخداع القمري وتقديم شرح نفسي عن الإبصار بالعينين.

قال الحسن بن الهيثم في كتابه البصريات (1011-1021) أن الرؤية تحدث في الدماغ لا العينين، وقد جعلت أعماله الرائدة في علم نفس الإدراك البصري والخدع البصرية بعض الباحثين يعمدّونه مؤسسًا لعلم النفس التجريبي.

علم النفس الغربي

كان علم النفس الغربي القديم دراسة للروح وعُدَّ فرعًا من الفلسفة حتى منتصف القرن 19، وتأثر كثيرًا بأعمال رينيه ديكارت (1596-1650)، لكن تأثير الفلاسفة التجريبيين وفلاسفة المدرسة الارتباطية البريطانيين كان كبيرًا على المسار الذي اتخذه علم النفس التجريبي لاحقًا، فمقالة جون لوك حول الفهم الإنساني (1689) ودراسة جورج بيركلي حول مبادئ المعرفة الإنسانية (1710)، ودراسة ديفيد هيوم عن طبيعة الإنسان (1739-1740)، إضافة إلى ملاحظات ديفيد هارتلي عن الإنسان (1749) وجون ستيورت ميل عن نظام المنطق (1843)، كانت كلها مهمة جدًا. إضافة إلى ذلك أعمال بعض الفلاسفة العقلانيين الأوربيين كسبينوزا وليبنيز.

مما ساهم في استقلال علم النفس أيضًا، المناظرات التي أحاطت بفعالية المسمرية (التنويم المغناطيسي)، التي ظهرت في العقد الثامن من القرن 18 على يد الطبيب النمساوي فرانز ميسمر الذي ادعى استخدام قوة الجاذبية في علاج مختلف العلل الجسدية والعقلية، وذلك قبل قبل ادعائه استخدام المغناطيسية الحيوانية.

وقد ساهمت المناقشات التي دارت حول فعالية فراسة الدماغ في ظهور علم النفس مجالًا علميًا مستقلًا عن غيره أيضًا، وقد تطورت فراسة الدماغ عن علم الأعضاء على يد الطبيب الألماني فرانز جوزيف غال (1758-1828)، حين قدم نظرية عن بنية الدماغ تجعله مقسمًا إلى أقسام كثيرة من الأعضاء الفاعلة، إذ أوضحت النظرية أن كل قسم من هذه الأقسام مسؤول عن قدرة عقلية أو تصرف معين؛ فيوجد قسم من الدماغ مسؤول عن عاطفة الحب وآخر عن الأمل وثالث عن الروحانية ورابع عن الطمع وخامس عن القابليات اللغوية وهلم جرًا. افترض غال أن كبر حجم كل قسم من الدماغ يعني قوة القابلية العقلية المرتبطة به، وأن معرفة حجم الأقسام ممكن بواسطة لمس سطح جمجمة الشخص.

اعترض يوهان فريدريك هربارت (1776-1841) على مقولة إيمانويل كانت في استحالة وجود دراسة علمية للنفس (1786)، إذ حاول هربارت وضع أساس رياضي لعلم نفس علمي حقًا، ومع أنه فشل في جعل نظريته قابلة للاختبار، فإن جهوده قادت علماء آخرين كإرنست فيبر (1795-1878) وغوستاف فخنر (1801-1887) لمحاولة قياس العلاقات الرياضية بين الكميات الفيزيائية للمحفزات الخارجية وبين الكثافة النفسية للأحاسيس الناتجة، وكان فخنر هو من صاغ مصطلح الفيزياء النفسية.

ساهمت دراسات عالم وظائف الأعضاء التجريبي هلمهولتز (1821-1894) عن سرعة النقل العصبي وطبائع الصوت واللون وكيفية إدراكنا لهما في تقدم علم النفس لاحقًا وخصوصًا على يد فيلهلم فونت الذي استعمل مختبر رئيسه في العمل هلمهولتز لأغراض الدراسات النفسية، ومنذئذ انتشرت المختبرات النفسية بفضل کارل شتومبف (1848-1936) وجورج مولر (1850-1934) وغيرهما.

لم يكن التجريب هو المنهج الوحيد في دراسة علم النفس، فقد طور الطبيب سيغموند فرويد الشهير في أواخر القرن 19 طرق التنويم المغناطيسي وطبقها.

وفعل ذلك أيضًا مع نظرية التداعي الحر وتفسير الأحلام، ليكشف أفكار اللاوعي ورغباته التي قال إنها السبب الحقيقي للهستيريا، وأوجد بذلك التحليل النفسي.

يركز منهج التحليل النفسي على تطور الفرد الجنسي وعلاقته بالأمراض النفسية، وقد أسس فرويد نموذجه المتعلق بتطور الطفل ونموه على ذكرياته الشخصية وذكريات مرضاه. ورغم الانتقادات الكثيرة التي طالت تفاصيل نظرية فرويد، فإن تركيزه على أهمية تجارب الطفولة (أقل من 5 أعوام) ما يزال مؤثرًا، مثلما هو الحال مع مفاهيم التحليل النفسي في الثقافة الغربية وخصوصًا في الفنون.

في الوقت الذي كانت تجري فيه هذه التطورات في أوروبا، فتح ويليام جيمس المحاضِر في جامعة هارفرد مختبرًا نفسيًا صغيرًا ليستعمله في إيضاح المحاضرات التي يلقيها على الطلاب. وفي 1878 أعطى جيمس سلسلة من المحاضرات في جامعة جونز هوبكنز بعنوان (الحواس والدماغ وعلاقتهما بالفكر) قال فيها أن الوعي ليس ظاهرة عارضة مثلما يقول هكسلي، بل لا بد أن تكون له وظيفة تطورية، وإلا فما كان ليُنتخب طبيعيًا عند البشر.

في نفس العام، وقع جيمس عقدًا مع هنري هولت ليكتب كتابًا مرجعيًا عن علم النفس التجريبي الجديد، ولولا تأخره في إنجازه لصار كتاب جيمس أول كتاب عن الموضوع باللغة الإنكليزية، لكن 12 سنة مرت قبل أن يُنشر كتاب (مبادىء علم النفس) المكون من جزئين.

سرعان ما أصبح هذا أكثر كتب علم النفس تأثيرًا في التاريخ الأمريكي، فوضع الأسس للأسئلة التي سوف يركز عليها علماء النفس الأمريكيين لسنوات قادمة، وكانت تلك المتعلقة بالوعي والعواطف والعادات من أكثر فصول الكتاب تأثيرًا، وكان جون ديوي من ضمن من أثر فيهم.

في نفس الحقبة الزمنية كان بيير جانيت أهم طبيب نفسي في فرنسا، وقد أسس بالتشارك مع جورج دوماس دورية (علم النفس الطبيعي والمرضي). بينما ركز أستاذه جان مارتن شاركو على الأسس العصبية للهستيريا. اهتم جانيت بتطوير منهج علمي للمرض النفسي بوصفه اضطرابًا عقليًا، وكان يرى أن المرض العقلي ينتج عن الصراع بين الوعي واللاوعي وأن المحتوى العقلي اللاواعي قد يظهر بصورة أعراض لها معانٍ رمزية، وقد قادته نظريته إلى نزاع علني مع فرويد.

مدارس علم النفس

بدأت دراسة الأطفال علميًا في أواخر القرن 19، فتأسست مدرسة علم النفس التنموي، وازدهرت في بدايات القرن 20 حين سعى علماء النفس لكشف أسرار السلوك البشري بدراستهم النمو النفسي. شكّلت آراء كل من جون لوك وجان جاك روسو وتشارلز داروين خلفًا لأفكار المدرسة التنموية، ركز لوك على تأثير البيئة وعدّ عقل الطفل ورقة بيضاء تُكتب فيها المعرفة بالتجربة والتعلم، بينما ركز روسو على تأثير العمليات الفطرية فرأى أن المرء لا بد أن يمر بثلاث مراحل: الرضاعة والطفولة والمراهقة (البلوغ)، أما نظريات داروين فقد جعلت بعض المفكرين يرون أن السلوك يتأصل في التكيفات الناجحة التي شكلت ماضي الجنس البشري.

إضافة إلى مدرسة علم النفس التنموي، ظهرت المدرسة النفسية السلوكية، إذ سيطرت على علم النفس في أمريكا مطلع القرن 20، وكان مبدؤها الأهم هو أن علم النفس يجب أن يكون دراسة للسلوك لا للعقل والتفكير، فرفضت الحالات العقلية الداخلية كالمعتقدات أو الرغبات أو الأهداف.

ظهرت مدرسة علم النفس الإدراكي في نهاية خمسينيات القرن 20 وبدايات ستينياته، بعد أن أشعل نعوم تشومسكي نار الثورة الإدراكية حين انتقد السلوكية والتجريبية عمومًا. أوضح تشومسكي أن اللغة لا يمكن تعليمها إلا لوجود بنية عقلية داخلية تسمح بذلك أصلًا، وتلاه أولريك نيسر عام 1967 بتوضيحه أن البشر أنظمة ديناميكية لمعالجة المعلومات، ومن الممكن وصف عملياتهم العقلية باستعمال مصطلحات الحاسوب.

لم يكن كل علماء النفس سعيدين بالنماذج الميكانيكية لوصف طبيعة البشر وعقلهم، ولا بالنماذج المتولدة عن تحليل فرويد النفسي الذي يركز على العقل الباطن. فظهر اتجاه ثالث هو علم النفس الإنساني باجتماعين لعلماء النفس أقيما بديترويت أواخر العقد السادس من القرن 20. سعى علم النفس الإنساني لتقديم وصف كامل لماهية الإنسان وتجاربه الفريدة كالحب والأمل، ومع بداية القرن 21 ولد علم النفس الإيجابي، وهو تطور لبحوث علماء النفس الإنسانيين حول السعادة، وتركيزهم على معالجة الصحة العقلية بدل الأمراض العقلية.

اقرأ أيضًا:

علم النفس التطوري – كل ما تود معرفته

سيجموند فرويد: أبو علم النفس وأفكاره المثيرة الجدل

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: جنى الغضبان

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر